REQUIRED IMAGE

REQUIRED IMAGE

مقال

هل يولّدُ الربيعُ العربيُّ توازُناً إقتصاديّاً جديداً؟

كيف ستغيرالثورات والاحتجاجات في العالم العربي العلاقات داخل المجتمع بين الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين؟

 إبراهيم سيف
نشرت في ٩ ديسمبر ٢٠١١

تمثل الثورات والاحتجاجات التي تشهدها عدد من الدول العربية، في أحد جوانبها، تعبيرا عن حالة من الغضب وعدم الرضا عن الوضع الاقتصادي والاختلالات السائدة في هذه الدول. ويترافق ذلك مع حالة من الاحتقان السياسي، نتيجة غياب المشاركة الواسعة في صنع القرار. 

ولا بد من التمييز بين مجموعتين من الدول: تلك الغير منتجة للنفط؛ والتي تعاني من عجوزات في الموازنة ومن ضغوطات داخلية متنامية تطالب باستعادة دور الدولة لتحقيق توازن جديد؛ و الدول الخليجية النفطية التي لا تعاني ذات القدر من المشاكل الاقتصادية.

والمقصود بالتوازن الجديد، هو العلاقات داخل المجتمع بين الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين وبين السياسيين، حيث يشكل السعي لتحقيقه قاسما مشتركا ما بين  معظم  الدول العربية، مع أن عناصر التوازن الجديد تختلف باختلاف التركيبة الاقتصادية والاجتماعية في كل دولة.

وسيتم التركيز بالدرجة الأولى على دول تعيش حالة من التحولات الجذرية  مثل مصر وتونس، ودول أخرى لا زالت تفاضل بين خياراتها الاقتصادية مثل المغرب والأردن. لكن الثابت هو أن نمط العلاقات السائد ما بين الدولة من جهة، وبين القطاع الخاص وبقية الفاعلين بما فيهم العاملين بأجر والمؤسسات الصغيرة، من جهة أخرى، لم يعد مقبولا وبات بحاجة الى مراجعة. ومن المسائل المتعلقة بهذا التوازن على سبيل المثال، مستويات الاجور، ظروف العاملين، تركيبة الأسواق، وتحديد الاسعار. 

وبالرجوع الى مستويات النمو المتحققة على مدى العقد الماضي والى ما قبل اندلاع الثورات وحركات الاحتجاج الاجتماعية والسياسية، فإن النمو المتحقق كان مرتفعا بكافة المقاييس وكانت بعض الدول تقدم على أنها قصص نجاح مثل تونس والاردن. وما كان يغيب عن تلك التقديرات للنمو هي التبعات الاجتماعية وتأثيرات تلك النسب على مستويات الرفاه بشكل عام، وسوية الخدمات الاساسية ومدى فعالية الانفاق الاجتماعي في تلك الدول. 

 ومنذ بداية التسعينيات، أي بداية تطبيق برامج الاصلاح الاقتصادي  في العديد من الدول العربية مثل مصر وتونس والمغرب والأردن (كذلك شهدت سوريا تحولات اقتصادية وإن جاءت السياسات متأخرة عن بقية الدول)، نشأت معادلة غير متوازنة ما بين نمو يحتفى به ويفيد فئات محددة، فيما تتراجع سوية التعليم والخدمات الأساسية لتعمق من الاختلالات، وبدلا من أن يكون النمو الاقتصادي عامل استقرار، اصبح  عامل توتر يعمق الفجوات ويزيد من درجة الاحباط  في الاوساط التي لا تستفيد من ثمرات النمو. 

فما الذي يمكن أن يتغيير في حقبة الربيع العربي؟

 بداية لا يمكن التقليل من أهمية العامل  الايديولوجي الذي ساد  لفترة طويلة و قادته مؤسسات عالمية مؤثرة مثل البنك وصندوق النقد الدوليين ومنظمة التجارة العالمية. والتي ركزت على عوامل الاستقرار والنمو بغض النظر عن التأثيرات الجانية التي كان يفترض أن النمو سيتكفل بها. هذا البعد الايديولوجي تراجع بريقه منذ وقوع الازمة المالية العالمية في النصف الثاني من 2008، حيث تم الربط بين السياسات الاقتصادية المتبعة في الدول الغربية وبين الأزمة المالية العالميّة، وقاد هذا الى مراجعات في الدول التي كانت تعتبر نموذج النمو في الدول الغربية هو السبيل لزيادة معدلات الرفاه. وذلك ينطبق على الدول التي طبقت برامج الإصلاح الاقتصادي، إضافة الى دول الخليج الغنية التي اعتمدت تلك الأفكار اعجابا بما توصلت اليه دول أوروبا وأميركا. أما القاء مسؤولية الأزمة على تلك السياسات، فقد فرض تراجعاً عن سياسات السوق الحر الذي لم يرافقه تعزيز مؤسسات الرقابة ومفهوم العدالة الاجتماعية والتباين في مستويات الدخل وعدم توليد فرص العمل اللائقة.  والمرجح أن تدخل هذه المتغيرات ضمن المعادلة الجديدة لا أن يتم التعامل معها كمخرجات جانبية لعملية التحول الاقتصادي. ولتحقيق ذلك فإن صناعة القرارات الاقتصادية وإدماج الفئات المهمشة، ومنح الفرصة للفاعلين الاقتصادين للمساهمة في صنع القرار تصبح ضرورية ضمن ما يعرف بالنمو التضميني الذي بات مصطلحا مقبولا في أوساط صناع القرار في الدول العربية. 

العامل الثاني يتعلق بالتركيبة السياسية التي أتاحت تنفيذ برامج اصلاح اقتصادي لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح الفئات الصغيرة مثل الصناعات الصغيرة والمتوسطة أو العاملين في القطاع غير الرسمي والذي يشكلون في مصر، مثلاً، حوالي نصف القوى العاملة. كذلك تم اهمال القطاع الزارعي وهو ما يفسر تراجع مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي في كل من المغرب وتونس والاردن ومصر خلال العقد الماضي. والواقع أن البرامج الإصلاحية ركزت على القطاع الخاص الكبير الذي يتمثل في غرف الصناعة والتجارة والمؤسسات ذات الحجم الكبير في قطاعات مثل البنوك والاتصالات والخدمات، ولم تراعي مصالح المؤسسات الصغيرة والمتوسطة إلا بالقدر الذي يخدم مصالح اصحاب المصالح الكبيرة. فأصبح تقييم الدول من قبل بعض المؤسسات الدولية  مثل منتدى الاقتصاد العالمي، أو تقرير مناخ الإعمال الذي يصدره البنك الدولي وغيرها يستند على درجة رضا القطاع الخاص عن الوضع القائم، أو بتعبير آخر، مدى رضا القطاع الخاص عن الحكومات. 

وخلال التحولات الاقتصادية سالفة الذكر، ومع غياب البيئة السياسية القادرة على تنفيذ حاكمية جديدة، رافق التنفيذ درجة عالية من الفساد، كذلك تم اضعاف مؤسسات الرقابة والمؤسسات التشريعية. نتج عن ذلك أمران: الأول، يتعلق بتنفيذ برامج التخصيص ونقل ملكيات القطاع العام الى الخاص بصفقات قادتها مجموعة متنفذة ومتحالفة لخدمة مصالحها الضيقة من القطاعين العام والخاص؛ أما الثاني، فقد تمثل بالإضعاف المنهجي لدور المؤسسات. فمع اضعاف البرلمانات، بحيث لا تساهم بصنع السياسات أو إجراء الحوار اللازم حول التشريعات الناظمة للشأن الاقتصادي، فقد عنى التخصيص  نقل الاصول من القطاع العام الى الخاص تحت إطار قانوني. 

فكيف كان يحدث ذلك؟

 خلال فترة التحولات الاقتصادية  هيمن البعد الامني على الحياة السياسية، بذريعة الحفاظ على الاستقرار  والتخوف من "البديل الاسلامي" المتطرف. 

وواقع الحال أن المؤسسات الأمنية لا تخضع لأي شكل من اشكال الرقابة من المؤسسات الرقابية، مثل المجالس التشريعية وهيئات مكافحة الفساد، الأمر الذي اتاح لتلك المؤسسات بالتمدد خارج حدود الدور الأمني المفترض.  وباتت تلك المؤسسات شريكة في الكثير من الأعمال في قطاعات الاتصالات وأحيانا في بعض القطاعات الخدماتية مثل الصحة والتعليم. 

وعليه، نشأ تحالف غير معلن بين "الأمن ومؤسساته" وبين فئة محددة من رجال الأعمال، لتسهيل تنفيذ السياسات التي كانت تفرض من قبل المؤسسات الدولية.  فتم اضعاف الهيئات التي تدافع عن حقوق العمل او تدافع عن المستهلكين، وتراجعت نسبة الأجور الى الناتج المحلي الاجمالي في الدول العربية خلال عقدي التسعينيات وبداية الألفية الجديد، وهذا يعني أن النسبة الأكبر من النمو المتحقق ستعزز فرص من يتملك الاصول. ومع مزيج من: ضعف المؤسسات، التنسيق بين المال والأمن، وضعف الرقابة،  كان من الطبيعي انتشار الفساد وعدم حدوث التنويع في الاقتصادات ولا تتطور في مجال تنافسية الاقتصاد وان يؤدي كل ذلك الى  تعميق هوة الدخل بين الاغنياء والفقراء. 

لكن الربيع العربي يحمل في طياته بعض الوعود بتغيير هذا النمط . فتراجع دور المؤسسة الأمنية، يعني البدء بتفكيك التحالف بينها وبين قطاع رجال الأعمال.  كذلك فإن تخفيف القبضة الأمنية يعني إمكانية إطلاق الحريات المدنية، ولو بشكل جزئي خلال الفترة الانتقالية بحيث يصبح هناك نقابات واتحادات تدافع عن المجموعات المتفرقة التي كانت مهمّشة.

وهناك إجماع أن المؤسسات التي كانت تدعي العمل للدفاع عن العمال والمستهلكين كانت صورية لتحسين صورة الانظمة السياسية، ولعل الحركة النقابية والعمالية النشطة في تونس ومصر تعكس الصورة المستقبلية لما يمكن أن يكون عليه العمل النقابي. ففي مصر مثلا تم انتخاب اتحاد جديد لنقابات العمل وتم الغاء الإتحاد القديم بالصيغة التي كان معمول بها، كذلك  نظم الأطباء والمعلمون في مصر اضرابات احتجاجية بعد سقوط مبارك للمطالبة بتحسين ظروف عملهم. كذلك في تونس،بات اتحاد الشغل فاعلا سياسا مهما خلال فترة التحول التي تشهدها البلاد.

وأحد الحلول التي تقدمها الدول التي هي في طور التحول، هو توسيع اطر المشاركة السياسية وإجراء حوارات اجتماعية تجمع مختلف الاطراف؛ فهذا احد الحلول القليلة المتاحة امامها للحفاظ على استقرارها وضمان مستقبلها. 

عمليّاَ، تشكل تجربة مصر وتونس حتى الآن نموذجاً جيّداً. ففي تونس تستعيد بعض مؤسسات المجتمع المدني دورها، كما يشير لذلك عدد الاحتجاجات الاجتماعية والمطلبية، وترفع  الحركات الجديدة شعارات تطالب بتحقيق التوازن، فيما لا ترفض طريقة توزيع الدخل والارباح  والاجور السائدة، ولا تتقبل فكرة الفساد والتغطية عليه، والتي حكمت القرارات الاقتصادية لحقبة طويلة. 

كذلك هناك حركات سياسية مثل السادس من ابريل في مصر، واليسار الاجتماعي  في الاردن، ترفع شعار العدالة الاجتماعية، فيما لا تمانع الحركات السياسية من فتح ملفات الضرائب والسياسات الاقتصادية. وحال وصول هذه المجموعات الى المؤسسات التشريعية  ستكون تحت الاختبار فيما إذا كانت ستحافظ على نفس الشعارات ومدى قدرتها على الدفاع عنها. فمن المعروف أن البرامج الاقتصادية للحركات الإسلامية التي نجحت في المغرب وتونس ترفع شعارات تختلف عن السائد، ويبقى أن نرى كيف ستتم ترجمة تلك الشعارات على ارض الواقع.  

وحال تنفيذ الانتخابات التشريعية فإن توازنا جديدا سينشأ بالضرورة، للتعمير عن مصالح فئات عريضة من خلال صناديق الاقتراع، وهذا هو العامل الحاسم الجديد الذي يعول عليه كثيرا. ولعل تجربة الانتخابات في تونس والمغرب، وفوز الحركات الإسلامية فيها بأكبر عدد من المقاعد هي خير تعبيرعن التوازنات الجديدة التي تناولناها.

 أما في الدول التي لا زالت تفاضل بين خياراتها مثل المغرب والاردن، فإن الصورة تبدو اقل اشراقا، وليس من الواضح كيف سيتبلور التوازن الجديد بالنظر الى أن معظم مطالب الشارع تتم الاستجابة اليها بزيادة الانفاق العام، وليس من خلال رسم سياسات تختلف جذريا عما هو سائد.  أما في دول الخليج ، فقد تم اللجوء حتى الآن الى التوسع  في الانفاق العام؛ كما يحصل في السعودية وقطر؛ إلا ان الصورة في عمان والكويت تختلف. أما البحرين فقد لجأت لمقاربة امنية للتعامل مع المحتجين، وهناك مطالبات بالتغيير في الدول الخليجية لا زالت في طور التبلور. 

الحقيقة الثابتة في كل ما يجري هو أن توازنا جديدا أكثر تمثيلا ويعبر عن مصالح  شرائح مختلفة، هو في طور التبلور سواء لأسباب موضوعية مثل مصر وتونس أو لأسباب تتعلق بنموذج اقتصادي جديد كما في دول الخليج، وهناك أطراف عديدة تحاول تحسين وضعها فيما تسعى القوى التقليدية  للحفاظ على الوضع القائم. والتحدي هو كيف يمكن للوافدين الجدد الى ساحة صنع القرار، التحالف والتوصل الى توازن جديد وتحقيق نمو اقتصادي يساعد في حل المشاكل التي تعانيها الدول المعنية. 

إبراهيم سيف باحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، وباحث اقتصاد متخصّص في الاقتصاد السياسي للشرق الأوسط، تركّز أبحاثه على الاقتصادات الانتقالية، والحوكمة المؤسساتية، واقتصاد سوق العمل.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.