أشعلت الاحتجاجات الحاشدة التي انطلقت في اليمن في كانون الثاني/يناير 2011 شرارة النزاعات القبلية والأيديولوجية والسياسية التي تدور روحاها في البلاد. وفي هذا الإطار، اتّخذ التمرّد الحوثي في محافظة صعدة الشمالية منحى مقلقاً جداً. فيما تستغل جماعة الحوثي الاحتجاجات في صنعاء لتوسيع رقعة الأراضي الخاضعة لسيطرتها، يكثّف الناشطون السلفيون معارضتهم لجماعة الحوثي، وتهدّد الاشتباكات العنيفة بين الحوثيين والسلفيين بإذكاء النزاع الطائفي في المنطقة.
بدأ النزاع المسلّح في صعدة في العام 2004 بعدما نظّمت حركة "الشباب المؤمن"، وهي مجموعة محلية نشأت للدفاع عن الثقافة الزيدية، احتجاجات ضد النظام وصلت في نهاية المطاف إلى صنعاء. واندلع العنف عندما حاولت الحكومة اعتقال زعيم المجموعة، حسين بدر الدين الحوثي، النائب السابق عن حزب الحق وابن الفقيه الزيدي الشيخ بدر الدين الحوثي، وهو الشخصية المحترمة لمعارفه اللاهوتية ومهارته في فضّ النزاعات بين القبائل والعشائر في المحافظات الشمالية. وعلى الرغم من أن القوات الحكومية تمكنت من قتل الزعيم في 9 أيلول/سبتمبر 2004، إلا أن التمرّد استمرّ.
وقد عبّر أتباع الحوثي (الذين عُرِفوا لاحقاً بالحوثيين) عن مزيج من المظالم الاقتصادية والاجتماعية فضلاً عن المظالم المرتبطة بالهوية، فاعترضوا على الاهمال الانمائي للمحافظة وعلى إضعاف نفوذ الزيديين وهويتهم، واتّهموا النظام بتقديم دعم ضمني لتوسّع عمل الناشطين السفليين في المنطقة.
لقد سارع عدد كبير من المراقبين إلى وصف النزاع بأنه احياء للانقسام السنّي-الشيعي القديم، إلا أن هذا التفسير يتجاهل الممارسة العقيدية والثقافية على السواء في اليمن. فالطائفة الزيدية (التي يعتنقها 35 إلى 40 في المائة من اليمنيين، إنما تشكّل في الإجمال فرعاً صغيراً جداً من مجمل الشيعة في العالم) تُعتبَر أقرب من فروع الشيعة الأخرى إلى المدرسة الشافعية في الإسلام السنّي (الذي تعتنقه أغلبية اليمنيين). حتى إن بعض معتنقي المذهب الاثني عشري الأكثر انتشاراً في الشيعة والذي يُمارَس في إيران وأماكن أخرى، يقولون عن الطائفة الزيدية إنها المدرسة الخامسة في الفقه السنّي.
فضلاً عن ذلك، من المهم أن نتذكّر أن المعارك لا تدور فقط حول نزاعات مذهبية. ففي الجولات المتعدّدة من المواجهة العسكرية، حارب عدد من القبائل والعشائر الزيدية إلى جانب القوات الحكومية. حتى إن عدداً كبيراً من الشخصيات الحكومية هم من أصل زيدي ولكنهم لا يشيرون إلى هذه الهوية في عملهم السياسي، ومنهم الرئيس السابق علي عبدالله صالح.
من أجل تحليل أكثر دقّة للنزاع، يجب الإقرار بأن التمييز بين الزيدية والشافعية يتداخل الى حد كبير مع الانقسامات القبلية التي تقع في قلب السياسة اليمنية، كما ان التوزيع المذهبي يتطابق مع التوزيع الجغرافي. فكل القبائل تقريبا التي تقيم في المرتفعات في الشمال الأوسط تنتمي الى الزيدية، اما الشافعيين فيشكّلون غالبية السكّان في الأراضي المنخفضة والمدن. ونظراً إلى التداخل بين الهوية المذهبية والانتماءات القبلية والمناطقية، يمكن أن يشكّل المذهب على الدوام عاملاً من عوامل تجنيد المتمرّدين.
لقد أدرك نظام صالح هذا الأمر، فمارس طوال عقود "الإدارة من خلال النزاع"، التي شكّلت السمة الأساسية للحكم في المحافظات الشمالية. فبالنسبة للسكّان في هذه المحافظات، ليست الدولة اليمنية أكثر من مجرّد "حاجز تفتيش" يظهر على الطريق السريع في شكل عدد قليل من الجنود يقفون إلى جانب برميل نفط فارغ، أو "دولة عسكرية" تقوم من حين لآخر بدوريّات على الطريق الذي يربط بين المناطق الأساسية في المحافظات. واتّهم النقّاد أيضاً نظام صالح باستغلال المذهبية في أوساط القبائل للحصول على مساعدات مالية وعسكرية من الرياض التي لطالما توجّست شراً من قيام منطقة زيدية-حوثية تتمتّع باستقلال ذاتي عند حدود المملكة. وانخرطت المملكة العربية السعودية في القتال علناً في تشرين الثاني/نوفمبر 2009، عندما شنّت قواتها عمليةً عسكريةً كبيرةً ردّاً على عمليات التوغّل الحوثي على حدودها الجنوبية. وأعرب المحللون عن القلق من أن تَورُّط السعودية قد يدفع بإيران إلى أن تحذو حذوها. فإن الجذور المتشابكة للمذهبية المسيَّسة تقع في صلب التنافس السعودي-الإيراني في المنطقة وسياسة المناورة التي استخدمها صالح.
لقد اكتسب النزاع خلال العام الماضي ملامح مذهبية أوسع نطاقاً. فلطالما اشتكى الحوثيون من انتشار السلفية في اليمن، لكنهم لم يبدأوا باستهداف النشاطات الدينية السلفية في شكل مباشرالا مؤخراً. فكانت للهجمات التي شنّها الحوثيون على المساجد السلفية واحتلالهم لها ارتدادات عبر ائتلاف الشبكات السلفية المتداخل والغير الهرمي والمنتشر في مختلف أنحاء البلاد. فان الحراك السلفي الذي ظهر في اليمن في ثمانينيات القرن العشرين (والذي أحضره معهم العمّال اليمنيون المهاجرون العائدون من السعودية اضافة الى آلاف الجهاديين اليمنيين الذين حاربوا ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان)، ليس له سلطة مركزية واحدة، بل إنه منظّم حول مراكز التعليم الديني، والمنظّمات الخيرية، والمساجد.
بلغت المواجهات، وبصورة دراماتيكية، مستويات عنيفة عندما فرض المتمرّدون الحوثيون حصاراً على بلدة دماج في صعدة في منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2011 وشنّوا هجمات على معهدها الديني الشهير، دار الحديث، الذي يديره السلفيون. وأدّى الحصار الذي استمر شهرَين إلى قطع الإمدادات الأساسية عن البلدة، بما في ذلك المياه والمواد الغذائية. وقُتِل عشرات الطلاب، بما فيهم عدد من الأجانب، في المعهد.
علاوةً على ذلك، وخلال العام الماضي، استغلّ الحوثيون انسحاب الجيش إلى صنعاء لمؤزارة النظام المحاصَر في العاصمة وعمدوا إلى توسيع رقعة عمليّاتهم. ولم تكن هذه المرّة الأولى التي تحاول فيها الحركة نقل عملياتها إلى خارج صعدة،الا أن هذا التوسّع الجغرافي الطموح غير مسبوق في تاريخ الحوثيين الذين باتوا يسيطرون الآن على محافظة صعدة بكاملها إلى جانب عدد كبير من المناطق في المحافظات المجاورة، أي عمران والجوف وحجة. ويبدو أنهم يسعون إلى الوصول إلى ميناء ميدي على البحر الأحمر الذي من شأنه أن يؤمّن لهم ممراً بحرياً يحصلون عبره على الأسلحة والدعم اللوجستي من إيران.
لايزال حجم التدخّل الإيراني غير واضح، لكن أفادت تقارير مؤخراً أن إيران تتقرّب أكثر فأكثر من الحوثيين على المستوى السياسي، وتزيد من دعمها اللوجستي والمالي لهم. ولقد قاطع الحوثيون اتفاق نقل السلطة - بما في ذلك الاستفتاء الرئاسي في شباط/فبراير - الذي جرى توقيعه في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي برعاية مجلس التعاون الخليجي. ورفضوا أيضاً الدعوات التي وجّهتها إليهم الحكومة الانتقالية برئاسة الرئيس اليمني الجديد عبد ربه منصور الهادي لتسليم سلاحهم والمشاركة في العملية السياسية الانتقالية. وأعلن الحوثيون مؤخراً أنهم لن يشاركوا في الحوار الوطني الذي سينطلق قريباً لأن "الولايات المتحدة وبلداناً أخرى فرضته بالقوّة".
لسوء الحظ، ليست هناك مؤشّرات إيجابية عن آفاق هذا النزاع في المستقبل؛ ففيما تتوسّع رقعة النزاع أكثر فأكثر ويتفاقم طابعه المذهبي، ثمة خطر بأن يتجه أيضاً نحو مزيد من التدويل.
خالد فتاح محاضر زائر في مركز الدراسات الشرق أوسطية في جامعة لوند في السويد. حائز على شهادة دكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة ساينت أندروز في المملكة المتحدة.