المصدر: Getty
مقال

مالي والتداعيات الإقليمية

تبدو آفاق التسوية في مالي قاتمة، ولذلك سيكون على حكومات شمال أفريقيا أن تنظر جنوباً في مايتعلّق بالشؤون الأمنية في السنوات المقبلة.

 بنجامين نيكلز
نشرت في ٦ يونيو ٢٠١٣

فيما تتفاقم الأزمة في مالي، تصبح التداعيات بالنسبة إلى البلدان المجاورة أشدّ سوءاً. فشمال أفريقيا ليس محصّناً أمام العوامل المخلّة بالأمن التي تنطلق من شمال مالي، حيث تسبّبت الأزمات العالمية والإثنية والحكومية والبيئية باضطرابات تجاوزت في حدّتها حركات الطوارق التمرّدية أو الانقلابات المعتادة في غرب أفريقيا. لقد ساهمت الردود الوطنية والإقليمية والدولية في كبح الفوضى في مالي، إلا أنها لم تؤسّس لاستقرار دائم، ولم تظهر بعد حلول حقيقية طويلة الأمد. وفي الانتظار، فإن تعاظم الأزمة يزيد من حدّة التأثيرات الأمنية التي يمكن أن تترتّب على بلدان شمال أفريقيا.

التداعيات الأكثر مباشرةً وفورية، التي تواجهها منطقة شمال أفريقيا، إقليمية الطابع. فقد أنعشت أزمة مالي من جديد النشاط الإرهابي في بلاد المغرب العربي. تتحوّل مالي أكثر فأكثر إلى موقع أساسي مرتبط بالإرهاب في شمال أفريقيا، سواء من خلال تأمينها ملاذاً آمناً للإرهابيين أو معقلاً للتدريب أو نقطة انطلاق لهم أو وجهة نهائية لنشاطهم، مع تسليط الضوء في الآونة الأخيرة على اتّساع دائرة النشاط الإرهابي باتّجاه تونس والمغرب. أما التأثير الثاني الأساسي فيتمثّل في تفاقم الجريمة المنظّمة. يبدو أن عدم الاستقرار في مالي أفسح في المجال أمام المهرّبين للتحرك بحرية أكبر في بلد متورّط أصلاً في الشبكات الإقليمية والعالمية للاتجار غير المشروع بالمخدرات والأسلحة والبضائع والأشخاص، ويرتبط على وجه الخصوص بتهريب المهاجرين في ليبيا والجزائر والمغرب. كما تعاني بلدان شمال أفريقيا من تحدّيات ديموغرافية بسبب الأزمة في مالي. فقد تدفّق الماليون عبر الحدود، وأصبح عشرات الآلاف منهم لاجئين في البلدان المجاورة، منها الجزائر وموريتانيا. كما أن مايواجهه الطوارق من تقلّبات في أوضاعهم، تتأرجح بين إعلان استقلال أزواد وبين المعاملة التعسّفية على يد الجيش المالي، يطرح مجدداً تساؤلات عن مصير هذه المجموعة التي تمتدّ شمالاً وصولاً إلى الجزائر وليبيا.

إلى جانب التداعيات على صعيد المنطقة عموماً، تسبّبت أزمة مالي أيضاً بتقويض الأمن داخل بعض الدول في شمال أفريقيا، عبر إحداث تشوّش في الاستراتيجيات الوطنية وزيادة التشنّجات الداخلية. ففي الجزائر مثلاً، أجهضت الأزمة مقاربة تعتمدها الحكومة منذ وقت طويل للإشراف على الشؤون الأمنية في بلدان الساحل. فبعدما سَعَت الجزائر جاهدةً طوال سنوات لتفادي الوجود الغربي المباشر عند حدودها الجنوبية، وأشرفت على مختلف أشكال التعاون الإقليمي، وعملت على إقصاء منافسيها في شمال أفريقيا ومنعهم من التدخّل، تسير الأمور الآن في الاتجاه المعاكس تماماً. فبسبب الأزمة في مالي، حلّقت الطائرات الفرنسية فوق الأراضي الجزائرية، وتتمركز القوات الفرنسية على مقربة من الحدود. كما أن "بعثة الدعم الدولية في مالي بقيادة أفريقية"، التي تشكّلت بمجهود إقليمي، أدّت إلى تهميش الجزائر التي تتبنّى سياسة عدم التدخّل، ومبادراتها الأمنية الإقليمية المتعدّدة. فضلاً عن ذلك، وفي حين طالب البعض في المجتمع الدولي الجزائر ببذل مزيد من الجهود، لمّحوا علناً إلى أنه من شأن دول أخرى في شمال أفريقيا أن تتسلّم زمام الأمور في المنطقة.

أما في موريتانيا، فتؤثّر أزمة مالي في الديناميكيات الداخلية الأساسية. لقد كان للتشنّجات والمظالم الإثنية-العرقية دور رئيس في تحديد التوجّهات الموريتانية في الجهة الأخرى من الحدود. فمع أن نواكشوط تملك خبرة في التدخّل في شمال مالي ضد الإرهابيين، رفضت الانضمام إلى قوات باماكو أو إلى الفرقة العسكرية التابعة للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) في مواجهتها مع الطوارق. وقد انتظرت صدور تفويض من الأمم المتحدة قبل التعهّد بإرسال جنود. لكن ومع أن مجلس الأمن الدولي وافق منذ وقت قصير على تشكيل "بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي"، قد يعمد الرئيس محمد ولد عبد العزيز إلى فرملة نشر الجنود الموريتانيين، لأن كل خطوة يقوم بها في مايتعلق بالأزمة في مالي، تتعرّض إلى التدقيق الشديد والانتقادات الحادّة من المعارضة السياسية في الداخل، والتي ندّد معظمها بالتدخّل الخارجي الواسع في شؤون الدولة المجاورة.

في هذا السياق، يضع اللاجئون الحكومة في نواكشوط أمام تحدّيات كبيرة. لقد استقبلت موريتانيا العدد الأكبر من اللاجئين القادمين من مالي، ويقيم جميعهم تقريباً، وعددهم 70 ألفاً، في مستوطنة واحدة في مبيرا التي تقع عند الحدود الشرقية للبلاد مع مالي. وقد استنكرت الوكالات الدولية تردّي الظروف الصحية في المخيم، والنقص في المياه والسكن الملائم، وسوء التغذية، إلا أن الموريتانيين يعانون أيضاً من ظروف معيشية سيئة فضلاً عن النقص السنوي في المواد الغذائية في بلدان الساحل. لذلك تخاطر الحكومة الموريتانية برصيدها السياسي في حال اعتبر مواطنوها أنها تدعم اللاجئين الغرباء وتقدّم لهم المنافع. وهكذا لايزال الرئيس الموريتاني مضطراً، على ضوء الأزمة في مالي، إلى السير على حبل رفيع بين الالتزامات الدولية وبين الواجبات المُلقاة على عاتقه في الداخل.

لاتلوح في الأفق بوادر حقيقية بأن دول شمال أفريقيا ستتحرّر قريباً من التحديات الأمنية التي تطرحها الأزمة في مالي. تحتاج دول المنطقة إلى إنجازات سياسية كبرى وتعديلات أساسية في سياساتها كي تتمكّن فعلاً من تحسين طريقة تعاطيها مع الأزمة. فمن أجل كبح التداعيات الآتية من الساحل والتي تتسبّب بزعزعة الأمن، على حكومات شمال أفريقيا أن تنخرط على نطاق واسع في أنشطة مثل تبادل المعلومات، والتنسيق القانوني، والتدريب المشترك للجيش والأجهزة الأمنية. لقد بُذِلت جهود في هذا الاتجاه من قبل، إلا أنه يُستبعَد قيام تعاون إقليمي حقيقي قبل التوصّل إلى تسوية دائمة لأزمة الصحراء الغربية ونزع فتيل العداوات في بلاد المغرب العربي. إضافة إلى ذلك، يجب أن تكون دول المنطقة قوية أولاً كي تتمكّن من التعامل بحزم مع الأزمة، بيد أن تونس ومصر وليبا تتخبّط، كلٌّ على طريقتها، لتصويب مسارها بعد الربيع العربي. والواقع أن شكوكاً جدّية تُطرَح بشأن قدرة ليبيا على إنقاذ استقرارها الداخلي في خضم الأزمة المتعاظمة، فما بالكم بقدرتها على المساعدة في تسوية المشاكل في مالي.

بيد أن حظوظ التوصّل إلى حلول للأسباب الجذرية التي تقف خلف الفلتان الأمني لاتزال ضئيلة، مع بقاء العوامل الكثيرة التي تغذّي الأزمة في مالي على حالها. كما أن الانتخابات التي ستجرى على عجل ومن دون تنظيم الشهر المقبل، قد تولّد حكومة تتمتّع بالصفة القانونية لكن ليس بالشرعية، فيما يدخل شمال مالي وبلدان الساحل بكامله في مايُعرَف بـ"موسم القحط" الذي يشهد انعداماً شديداً للأمن الغذائي. فضلاً عن ذلك، ليس أكيداً أن الاستثمارات الدولية الكبيرة في أمن النيجير سوف تساهم في كبح الفلتان الأمني في ذلك البلد، وقد تجتمع تداعيات الأزمة في مالي مع الاضطرابات المستمرة في حوض بحيرة تشاد، أو يمكن أن تطلق نشاطاً متطرفاً عنيفاً في الدول الساحلية في غرب أفريقيا، مثل السنغال وساحل العاج وغانا.

انطلاقاً من هذه النظرة القاتمة، سيكون على حكومات شمال أفريقيا أن تنظر جنوباً في مايتعلّق بالشؤون الأمنية في السنوات المقبلة. في نهاية المطاف، يمرّ الحلّ على الأرجح، ولو كان تحقيقه صعباً، في التعاون الإقليمي الذي يشكّل حالياً المسار الأفضل نحو إرساء الاستقرار الدائم في بلاد المغرب العربي والساحل الأفريقي على السواء. لكن السؤال يبقى: هل ستنجح حكومات شمال أفريقيا أخيراً في العمل معاً من أجل حفظ الأمن في دول الساحل، بما يعود بالفائدة عليها وعلى الآخرين، وكيف ستفعل ذلك؟

 بنجامين نيكلز أستاذ مشرف على مادة التهديدات العابرة للأوطان ومكافحة الإرهاب في مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية. يستند المقال إلى أحاديث مباشرة أُجريَت منذ آذار/مارس 2013 مع مسؤولين حكوميين وممثّلين عن المجتمع المدني من بلدان شمال أفريقيا والساحل الأفريقي، في الجزائر ونواكشوط ونيامي وداكار وواشنطن.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.