قد يتوقّف موظّفو القطاع العام في لبنان قريباً عن تقاضي رواتبهم، بحسب ما أوردته تقارير إعلامية في مطلع شهر آب/أغسطس الجاري. فعلى عتبة العام الدراسي الجديد، حيث يواجه معظم اللبنانيين صعوبة في تغطية النفقات المدرسية، قد يُحرَم خمس السكّان تقريباً (مع احتساب الأشخاص الذين يُعيلهم موظّفو القطاع العام)، من مدخولهم. يعاني القطاع العام اللبناني من شوائب كثيرة فضلاً عن المماطلة والتأخير، ومع الشلل الذي يضرب الاقتصاد وإيرادات الدولة بسبب الحرب الدائرة في سورية المجاورة، قد تنهار المالية العامة قريباً. بيد أن هذه التطوّرات تعكس على وجه الخصوص المجازفات والمزايدات السياسية ذات العواقب الوخيمة على البلاد، واستخفاف القيادات السياسية في لبنان بمخاوف المواطنين وهواجسهم. يُفترَض بالحكومة ومجلس النواب اللبنانيَّين الانعقاد من أجل صرف الأموال اللازمة لدفع الرواتب. لكن فريق 8 آذار/مارس الموالي لسورية وإيران يعطّل تشكيل حكومة جديدة ويشلّ عمل الحكومة الحالية، ويردّ فريق 14 آذار/مارس الموالي للسعودية والغرب بمقاطعة جلسات مجلس النواب. مرّة أخرى قد يتحوّل المواطنون اللبنانيون إلى رهائن في حرب خنادق سياسية.
غالب الظن أن المشكلة ستُحَلّ في اللحظة الأخيرة عن طريق مخرج إداري مايتجاوز المؤسسات السياسية المعطَّلة. مرّة أخرى سيحافظ جميع الأفرقاء على ماء الوجه عبر الموافقة على خرقٍ جديدٍ للأنظمة مرعية الإجراء، فيما يُمعِنون في استراتيجيات المواجهة التي تشلّ مؤسسات الدولة اللبنانية، مع العلم بأن البلاد أحوج ماتكون في هذه المرحلة إلى مؤسّسات تعمل كما يجب. ففي الوقت الذي يشتدّ الخطر على الاستقرار الداخلي بسبب تورّط الأفرقاء اللبنانيين مع طرفَي النزاع في سورية، يختار القادة اللبنانيون التضحية بمؤسّساتهم بدلاً من التوصّل إلى تسوية في مابينهم.
يملك المعسكران السياسيان في لبنان رهانات عالية في النزاع السوري، الأمر الذي يؤدّي إلى تورّطهما أكثر فأكثر. فما هو على المحك بالنسبة إلى حزب الله يتخطّى طرق الإمدادات والقواعد الخلفية. إذا سقط النظام السوري، فسوف ينهار المشروع الأيديولوجي الكامل للحزب وراعيته إيران، والمتمثِّل في بناء تحالف إقليمي ضد إسرائيل والولايات المتحدة والدول العربية التي تدور في فلكهما. فخلافاً لتأكيدات معارضي الحزب، لم يستخدم حزب الله قط إمكاناته العسكرية من أجل انتزاع حصّة أفضل للشيعة في النظام اللبناني القائم على توزيع السلطات على أساس طائفي. وعلى النقيض مما يدّعيه الحزب، ليس الدفاع عن لبنان أولويته - إلا إذا كان ذلك يمرّ عبر الدفاع عن حمص ودمشق.
الرهانات عالية أيضاً لدى الفريق الآخر، ولو كانت أكثر تعقيداً بقليل. فتيار المستقبل وآل الحريري يخسران، منذ هزيمتهما الساحقة على أيدي ميليشيات حزب الله وحلفائه في أيار/مايو 2008، أعداداً متزايدة من أنصارهما الذين يتحوّلون نحو المجموعات المتطرّفة والشيوخ المتشدّدين الذين يتبنّون أيديولوجيا تنظيم القاعدة. وفيما يحتدم الصراع في سورية، يبرز المسلّحون المتطرّفون أكثر فأكثر في الشارع السنّي اللبناني. انطلاقاً من ذلك يواجه تيار المستقبل خطر أن يصبح على الهامش أو يدخل في مواجهة مع حزب الله يتعذّر عليه الفوز فيها. يعتقد تيار المستقبل أن انتصار الثوّار في سورية - والذي يسعى من أجل تحقيقه عن طريق المساعدة على نقل السلاح والمقاتلين إلى البلاد - هو السبيل الوحيد لإرساء توازن في العلاقة مع حزب الله إذ أنه يؤدّي إلى تحجيمه.
في آذار/مارس الماضي، كانت الحكومة اللبنانية الضحيّة الأولى لهذه الضغوط، وسرعان ماتبعها مجلس النواب. فبعد فشل كل المحاولات للتوصّل إلى صيغة توافقية لقانون تُجرى الانتخابات التشريعية على أساسه، اختار النوّاب ببساطة إرجاء الانتخابات وتمديد ولايتهم الحالية 17 شهراً، لكن مجلس النواب لم ينعقد منذ ذلك الوقت. وفي هذا الإطار، تُطرَح علامات استفهام حول قدرة البرلمان المنقسم على ذاته والمشكوك في شرعيّته، على انتخاب خلف لرئيس الجمهورية ميشال سليمان عند انتهاء ولايته في أيار/مايو 2014. وقد بدأ ناطقون بلسان حزب الله يطالبون باستقالة الرئيس على خلفية الكلام الذي صدر عنه ورأى فيه أن "المقاومة" التي تجرّ لبنان إلى النزاع السوري، تفقد علّة وجودها. إضافةً عن ذلك، كان للشلل في المؤسسات السياسية تأثير على القوى الأمنية: فبسبب عجز الحكومة عن الاتّفاق على أسماء لتعيينهم في المناصب القيادية، أُرجئ تقاعد قائد الجيش العماد جان قهوجي ورئيس الأركان اللواء وليد سلمان.
حتى الأفرقاء السياسيون الذين يُظهرون تمسّكهم بسيادة القانون والتقيّد بالإجراءات المتّبعة، يفعلون ذلك لمآرب شخصية، الأمر الذي يزيد من حدّة المأزق. فقد عارض التيار الوطني الحر، بقيادة ميشال عون، كل أشكال التمديد وإرجاء التعيينات، ولاسيما في المؤسسة العسكرية. والسبب في ذلك أن تقاعد قائد الجيش كان ليفسح في المجال أمام وصول العميد شامل روكز، صهر عون، إلى المنصب. كما أن قادة الجيش يملكون حظوظاً وافرة بتسلّم رئاسة الجمهورية (مع أن الدستور يمنعهم من الترشّح لهذا المنصب)، ومن شأن تقاعد قائد الجيش الحالي قبل تسعة أشهر من الانتخابات الرئاسية أن يضعف موقعه في التنافس على كرسي الرئاسة الذي يريده عون لنفسه. وبما أن عون يبلغ الثمانين من العمر هذا العام، قد تكون هذه فرصته الأخيرة للفوز بالرئاسة - وهذا سبب إضافي ليرفض مبدأ التمديد من الأساس، خشية أن يفكّر أحد في إرجاء الانتخابات الرئاسية أيضاً. وإثباتاً لهذا الموقف، يقاطع التيار الوطني الحر أيضاً جلسات مجلس النواب، فينضمّ بذلك إلى فريق 14 آذار/مارس ويسهّل عليه مهمّته عبر منحه العدد الكافي لشلّ الندوة البرلمانية. وتساهم الطموحات الوزارية لوزير الطاقة والمياه الحالي جبران باسيل، وهو أيضاً صهر عون، في تعطيل تأليف الحكومة الجديدة، الأمر الذي يُقدّم مزيداً من المبرّرات لفريق 14 آذار/مارس لتحميل فريق 8 آذار/مارس مسؤولية تعطيل التشكيلة الحكومية، كما يُتيح لحزب الله أن يبعد عنه اللائمة في المأزق الحكومي.
في خضم هذا كله، ينتشر الجيش بصورة مستمرّة في منطقة طرابلس لمنع الاقتتال بين العلويين والسنّة. وتعيش منطقة البقاع الشرقي على وقع تبادل إطلاق النيران وعمليات الخطف بين السنّة والشيعة، الذين يدعم كلٌّ منهم أبناء طائفته في سورية، وينقسمون بين المعسكرَين السياسيَّين المتناحرَين في لبنان. وقد تعرّضت وحدات الجيش المنتشرة في تلك المناطق، مراراً وتكراراً، إلى مرمى النيران. ففي أواخر حزيران/يونيو الماضي، دارت معارك دامية بين الجيش اللبناني وأنصار أحد الشيوخ السلفيين، أسفرت عن مقتل مايزيد عن 20 جندياً في مدينة صيدا المختلطة بين السنّة والشيعة في جنوب لبنان. وفي 15 آب/أغسطس، تسبّب انفجار سيّارة مفخّخة بسقوط أكثر من 20 قتيلاً وإصابة نحو مئتَين بجروح، في أحد معاقل حزب الله في الضاحية الجنوبية لبيروت، بعدما كانت هجمات سابقة قد أوقعت أضراراً محدودة. وبعد ساعات من اقتراح الرئيس سليمان بأن تصبح ميليشيا حزب الله جزءاً من القوات المسلحة اللبنانية (الأمر الذي أثار حفيظة وسائل الإعلام المقرّبة من الحزب التي وصفت كلام الرئيس بالـ"فظيع")، سقطت صواريخ مجهولة المصدر في محيط القصر الرئاسي ومقرّ قيادة الجيش. لم يكن واضحاً ما إذا كان الهدف من الصواريخ الردّ على خطاب الرئيس، أم إذا كانت مناورة هدفها توريط حزب الله، وبالتالي التأكيد على وجهة نظر الرئيس.
يزداد الخطر بأن يتحوّل الجيش اللبناني - الموزَّع على جبهات كثيرة، والذي يعاني نقصاً في التمويل، مع خسائر متزايدة في صفوف وحدات النخبة، وقيادة مهتزّة الشرعية - مجرّد جهة عازلة بين متقاتلين يصرّون على فرض "أمنهم الذاتي" عن طريق حواجز التفتيش وانتشار المسلّحين وسيطرة الميليشيات. فعندئذٍ، تصبح المسألة مسألة وقت فقط قبل أن تندلع مواجهات كبرى.
ربما كان تورّط لبنان في الحرب الأهلية السورية أمراً محتوماً انطلاقاً من معطيات جغرافية وتاريخية. لكن قادته يدفعون بالبلاد الآن نحو حافة الهاوية؛ إنهم يغامرون بأرزاق شعبهم وأمانه، من دون أي مراعاة للناس أو تعاطفٍ معهم. إذا وضعوا خلافاتهم جانباً، وامتنعوا عن صبّ الزيت على النار، وتحلّقوا حول الجيش باعتباره المؤسسة الوحيدة التي لاتزال تحافظ على مظهر من مظاهر السيادة الوطنية، فقد يكون بالإمكان وقف تدهور الأوضاع في لبنان لبعض الوقت. لكن نظراً إلى ما آلت إليه الأمور، في لبنان وسورية على السواء، يُخشى أن يكون الأوان قد فات.
هيكو ويمن زميل دكتوراه في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية ويساهم بانتظام في نشرة صدى.
تُرجمت هذه المقالة من اللغة الإنكليزية.