ينفّذ الجيش المصري منذ أكثر من عامَين عمليات عسكرية واسعة النطاق في شمال سيناء رداً على سلسلة من الهجمات التي شنّها المتمرّدون ضد القوى الأمنية المصرية. بيد أن ردّ السلطات المصرية - بدعم من الولايات المتحدة وإسرائيل - على جماعة أنصار بيت المقدس التي تقود التمرّد في سيناء ودلتا النيل، يفتقر إلى الابتكار والقدرة على التكيّف. فقد أصبحت الحرب على الإرهاب قابلة للتوقّع بما يتيح استغلالها من جانب أنصار بيت المقدس. وهكذا، فإن الجيش المصري وحلفاءه سيعانون إلى حد كبير من عدم الفعالية في مكافحة هذا التهديد المتعاظم، إذا لم يفهموا جيداً استراتيجية أنصار بيت المقدس، ولم يتعلّموا من أخطاء الماضي في مقاربتهم لمواجهة التمرّد الإسلامي.
مما لاشك فيه أن جماعة أنصار بيت المقدس وأتباعها يرفعون علم القاعدة الأسود، إلا أنه يجب النظر إلى تبنّيهم لقضايا الجهاد العالمي انطلاقاً من منظار استراتيجي في شكل أساسي. فجماعة أنصار بيت المقدس هي ظاهرة محض مصرية، على النقيض من أفغانستان أو العراق أو حتى سورية، حيث تدفّق المقاتلون الأجانب للمشاركة في جهادٍ أكبر؛ حتى التدخّل الفلسطيني يعكس الديناميكيات السياسية الداخلية في مصر. في الوقت نفسه، يختلف أنصار بيت المقدس بوضوح عن الجماعات الإسلامية الأخرى في مصر. فهم يكنّون للإخوان المسلمين أكثر من مجرد ازدراء عابر، إذ يعتبرون أنهم خانوا القضية عبر انضمامهم إلى العملية السياسية بعد العام 2011، وذلك على الرغم من ادّعاء الدولة وجود تحالف بين أنصار بيت المقدس وجماعة الإخوان المسلمين التي صنّفتها الحكومة المصرية في خانة التنظيمات الإرهابية. يُظهر الهجوم الذي نفّذه أنصار بيت المقدس على إسرائيل في بداية رئاسة مرسي، تصميمهم على التسبّب بالمتاعب للحكومة المصرية، سواء كانت علمانية أم إسلامية. كما أنهم ليسوا على ارتباط بالجماعات السلفية التي تنشط في المدن الواقعة شمال سيناء، ولاسيما في العريش وشيخ زويد ورفح. بيد أن الدولة المصرية ردّت على هجمات جماعة أنصار بيت المقدس باستهداف الجماعات السلفية، مادفع هذه الأخيرة إلى دعم تصعيد العنف ضد الدولة. وهكذا يستفيد أنصار بيت المقدس فعلياً من هذه المعمعة.
تكتيكياً، يمكن تقسيم التمرّد الذي تشنّه جماعة أنصار بيت المقدس إلى مرحلتَين أساسيتين. ركّزت المرحلة الأولى على الاشتباك الذي اشتمل على شن عدد من الهجمات البارزة ضد إسرائيل. على الرغم من أنه اعتُبِر على نطاق واسع أن هذه الهجمات أخفقت على الصعيد التكتيكي، إلا أن الواقع كان مناقضاً تماماً. اهتزّت أسس السلام الحدودي بين مصر وإسرائيل، ما أدّى إلى تعديل اتفاقات كمب ديفيد بما أتاح لمصر نشر مزيد من الأسلحة الثقيلة في سيناء. وقد أسفر ذلك عن إطلاق "عملية النسر" في آب/أغسطس 2011، ومن ثم تجدّدها تحت مسمّى "عملية سيناء" في العام 2012. كان هذا بالتحديد هدف المرحلة الأولى، وقد جوبِه بردّ أمني مكثّف وواسع النطاق. نظراً إلى رداءة الإمكانات المصرية في مجال الاستخبارات البشرية في سيناء بعد عقود من العزلة الاقتصادية والسياسية، كان الرهان الأفضل بالنسبة إلى الدولة الأمل في أن يساهم ردّها "الناشط" في القضاء على الجهاديين المختبئين بين المدنيين، وبالطبع إسكات الصحافيين الذين يمكن أن يفضحوا تكتيكات القوى الأمنية. وقد كان هذا الرد عاملاً أساسياً في دفع السلفيين في سيناء نحو اعتماد موقف أكثر عنفاً تجاه الدولة.
أما المرحلة الثانية فقد ركّزت على الثأر، وخلالها ردّ أنصار بيت المقدس على العمليات الأمنية باستهداف المؤسسة الأمنية. وهكذا، عبر استهداف الجيش والشرطة بدلاً من المراكز المدنية المصرية، ينجح أنصار بيت المقدس وحلفاؤهم أكثر فأكثر في إظهار أنفسهم على أنهم يدافعون عن المدنيين المصريين الذين يتعرّضون إلى معاملة همجية على أيدي القوى الأمنية المصرية. وقد شهدت هذه المرحلة تصعيداً إبان مجزرة رابعة العدوية، التي كانت على الأرجح الهدية الأكبر التي يمكن أن يقدّمها الجيش المصري لجماعةٍ مثل أنصار بيت المقدس. فقد حصلت مع حلفائها على الفرصة الأمثل لتوسيع عملياتها في العمق المصري، حيث زرعت عبوات ضخمة قرب مديريات الشرطة ومراكز الأجهزة الأمنية في القاهرة وفي محافظتَي الدقهلية والشرقية، فضلاً عن استهداف وزير الداخلية في محاولة اغتيال فاشلة، واغتيال عميد في الشرطة. ليست هذه العمليات مؤشراً إلى حدوث تغيير أساسي في استراتيجية أنصار بيت المقدس، بل واقع الحال هو أنهم انتهزوا الفرصة لتنفيذ عمليات انتقامية في العمق المصري، ولعلّ هذا كان هدفهم منذ البداية.
بغض النظر عن المشاكل التي تعانيها جماعة أنصار بيت المقدس على صعيد صورتها في نظر الرأي العام - لايلقى انتماؤها إلى تنظيم القاعدة استحساناً لدى غالبية المصريين- فإن الرد المصري، المدعوم من الولايات المتحدة وإسرائيل، يصبّ مباشرة في مصلحة الاستراتيجية الكبرى التي تنتهجها الجماعة. يستند هذا الرد، والتفاؤل الناجم عن التراجع الذي سُجِّل مؤخراً في الهجمات الواسعة النطاق في سيناء والعمق المصري، إلى ثلاث فرضيات خاطئة، أولها هي الاعتقاد أن القصف الجوّي هو وسيلة فعّالة لمكافحة التمرّد. الحقيقة هي أن القوة الجوية عشوائية بطريقة خطيرة، مايولّد انطباعاً بأن الدولة تشنّ عدواناً على المدنيين ويؤدّي إلى زيادة الدعم للعنف الموجّه ضدها. الفرضية الثانية هي الاعتقاد بأن تراجع الهجمات على مشارف الانتخابات الرئاسية التي أجريت مؤخراً في مصر يشير إلى نجاح الاستراتيجية المصرية في مكافحة التمرد. الهدف الذي يتوخّاه أنصار بيت المقدس هو إحراج الدولة وتجريدها من مصداقيتها، لذلك كانت مصلحتهم تقتضي بأن يدعوا الأمور تأخذ مجراها في موضوع الانتخابات من دون أي تدخّل من جانبهم. فلو شنّوا هجوماً قبيل الانتخابات، كانوا ليضفوا، عن غير قصد منهم، شرعيةً على عملية انتخابية من الواضح أنها لم تكن نزيهة. بهذه الطريقة، استطاع أنصار بيت المقدس أن يتفرّجوا فيما كانت الدولة المصرية تتخبّط في حالة من الإحراج والارتباك.
أخيراً، يقول محللون سياسيون إن جماعة أنصار بيت المقدس تشكّل "تهديداً إرهابياً حقيقياً وخطيراً"، لكن التمرد في سيناء لايسبّب تحدياً أمنياً للولايات المتحدة وإسرائيل بقدر ماتبدو عليه الأمور في الظاهر. فمثل هذا الكلام يساهم في تعزيز الاعتقاد الأميركي الخاطئ بأن التمرد في سيناء مرتبط بالجهاد العالمي والنزاع العربي-الإسرائيلي، مايصبّ، مرةً أخرى، في مصلحة الاستراتيجية التي يعتمدها أنصار بيت المقدس. على الرغم من أن الجماعة وجّهت عملياتها الأولى ضد إسرائيل، إلا أن هذا لايعني أن هذه الأخيرة هي جبهة جدّية في الحرب التي يخوضها أنصار بيت المقدس. بل إن التكتيكات التي اعتمدوها في البداية، فضلاً عن اسمهم: أنصار بيت المقدس، كانت لأغراض دعائية على الساحة الدولية. وقد استخدموا موقع سيناء الاستراتيجي، وهشاشة مصر أمام الضغوط الأميركية، وهاجس الأمن الإسرائيلي الذي يطارد الولايات المتحدة باستمرار، كأدواتٍ للدفع باتجاه المواجهة العسكرية.
كانت ردود فعل الأفرقاء كافة متوقّعة فقد دعمت الولايات المتحدة شنّ السلطات المصرية هجوماً في سيناء ضاهى في نطاقه حملة القمع التي تزداد همجية ضد المعارضين السياسيين في الداخل. ويكتسب هذا الأمر أهمية مضاعَفة على ضوء امتناع أنصار بيت المقدس إلى حد كبير عن استهداف المواطنين المصريين، مايطرح علامات استفهام حول مصداقية المزاعم التي تردّدها الدولة المصرية بأنها تشنّ حرباً على الإرهاب. بدلاً من ذلك، قد يبدو أن مصر تخوض حرباً على شعبها خدمةً للمصالح الأميركية-الإسرائيلية، مايصب في مصلحة أنصار بيت المقدس عبر تشويه سمعة النظام العسكري المصري أكثر فأكثر في عيون مواطنيه. وهكذا، إذا لم تدرك مصر وحلفاؤها عواقب تصرّفاتهم في نظر الشعب المصري، فسوف يستمرّون، عن غير دراية، في مساعدة جماعة أنصار بيت المقدس على تحقيق مآربها.
جوشوا غودمان طالب دراسات عليا في العلوم السياسية في جامعة ييل، ومؤلّف "هويات متنافسة في جنوب سيناء: التنمية والتحوّل والتعبير عن هوية بدوية في ظل الحكم المصري" (2013).
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.