المصدر: Getty
مقال

الدولة الإسلامية وأزمة الأنبار

على الرغم من نجاحها في السيطرة على الموصل تسعى الدولة الإسلامية في العراق والشام إلى ترسيخ مكاسبها في محافظة الأنبار، خاصة بعد الإنهاك الذي تتعرّض له في سورية.

نشرت في ١٢ يونيو ٢٠١٤

بعد نصف عام على خروج الفلوجة عن سيطرة الحكومة الاتحادية، وفشل تنظيم الدولة الإسلامية في تحقيق السيطرة الكاملة على مدينة الرمادي، أو توسيع رقعة التمرد المسلح، على الأقل، إلى باقي مدن الانبار، ومع ازدياد حدة القصف بالبراميل المتفجرة واحتمالات اقتحام الفلوجة، وبهدف التخفيف عنها، انتهجت الدولة الإسلامية الى القيام بهجمات خاطفة تختار زمانها ومكانها وفق ما يلائم قدراتها لفرض سيطرتها على بعض المدن ومن ثم الخروج منها، كما حدث في سامراء مؤخرا، لتشتيت الجهد العسكري للقوات الحكومية، أو الدخول إلى مدن كبرى والسيطرة عليها والاستقرار فيها، كما حدث في مدينة الموصل، بعد أربعة أيام من القتال مع القوات الحكومية التي فشلت في الحفاظ على المدينة بعد فرار كبار قيادات القوات الأمنية والعسكرية، والسياسية أيضاً. ومع ذلك تبقى لالصحراء الغربية على الحدود العراقية السورية، 300 كيلومتر غرب مدينة الرمادي في محافظة الأنبار، المعقل الرئيسي لتواجد عناصر ومعسكرات الدولة الإسلامية في العراق والشام، أهمية إستراتيجية تلزم الدولة الإسلامية بالحفاظ على السيطرة في المنطقة.  

أما في الأنبار، التي تمثل نقطة استراتيجية للتواصل البري عبر الحدود وتسهيل عملية انتقال المقاتلين والسلاح من وإلى شرق وشمال شرق سورية الذي تفرض الدولة الإسلامية سيطرتها على مساحات مهمة منه، فقد ركّز تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام معظم جهوده الراهنة على مدينة الرمادي بعد دخوله العلني إليها، واتخذها مسرحاً رئيسياً لعملياته بالدرجة الأولى، في محاولة منه للتخلص من الصحوات العشائرية القديمة التي يقودها أحمد أبو ريشة، والجديدة التي يقودها محمد الهايس، والحيلولة دون بناء تحالف قوي قادر على طرده من هناك. الصدامات التي اندلعت بعد اعتقال النائب أحمد العلواني في كانون الأول/ديسمبر 2013، وما أعقبه من مواجهة بين القوات الحكومية ومجموعات مسلّحة معظمها أبناء عشائر غاضبين لاعتقال النائب وقتل شقيقه، أتاحت وصول عناصر الدولة الإسلامية إلى الرمادي وفرض سيطرتهم على أحياء عدة في المدينة.

بعد سيطرة الدولة الإسلامية على ضواحي الرمادي، مثل مناطق البو بالي والملاحمة وجزيرة الخالدية وغيرها، والتي شهدت بدورها معارك عنيفة، هاجر أغلب سكانها إلى مناطق أخرى أكثر أمناً. لكن الدولة الإسلامية سرعان ما تخلت عن الأرض وباتت تتبع استراتيجية حرب العصابات حيث تشن هجمات متواصلة على القوات الحكومية التي عادت إلى تلك المناطق. ولم يستطع الجيش العراقي حتى اليوم فرض سيطرته على معظم المناطق والبقاء فيها، إذ تدخل قواته أحياناً إلى منطقة ما وتتعرض لضربات شديدة تنسحب على إثرها، وفي أحيان أخرى تقوم الدولة الإسلامية بسحب مقاتليها من المنطقة ليقوم الجيش بدخولها لكن ما إن تمضي ساعات حتى تشن الدولة الإسلامية هجوماً معاكساً على المنطقة وتستعيد سيطرتها عليها ثانية. وهذا يفسّر استمرار العمليات العسكرية التي تعلن عنها الحكومة في منطقة حي الملعب القريب من مبنى المحافظة وسط المدينة، على الرغم من الإعلانات المتكرّرة بأن القوات الحكومية أحكمت سيطرتها على المنطقة بكاملها، وقد بثت قنوات محلية أكثر من مرة صوراً عن انتشار القوات الحكومية فيها بزعم السيطرة عليها، لكنها لم تقرّ لاحقاً بفقدان سيطرتها عليها.

سعت الدولة الإسلامية بنفس الوقت إلى تركيز سيطرتها في مثل مناطق الصوفية والبو عبيد والبو بالي والبو فراج، وفي بعض الأحياء السكنية ضمن حدود مركز مدينة الرمادي، مثل حي الضباط وحي التأميم وحي الملعب، وبعض الأحياء الأخرى التي تقع على طول شارع ستين، وهو شارع عريض باتجاهين يصل بين غرب المدينة وشرقها من الجهة الجنوبية للمدينة. وشهدت المعاقل الأهم مثل أطراف حي الضباط وحي الملعب وحي البكر، قتالاً عنيفاً بين قوات سوات والشرطة المحلية والفرقة الذهبية بإسناد من بعض قوات الصحوة القديمة التي يقودها الشيخ أحمد أبو ريشة، فيما غابت الصحوات الجديدة عن المشهد بشكل كامل لعدم توفر الدعم الحكومي اللازم لها عند تشكيلها، وعودة غالبية عناصرها إلى الصحوات القديمة بعد وقوف زعيمها أحمد أبو ريشة إلى جانب القوات الحكومية بعد عام من القطيعة مع الحكومة الاتحادية.

بعد نجاح الدولة الإسلامية في كانون الثاني/يناير 2014 بدخول الفلوجة، التي يراد منها أن تكون نقطة الانطلاق لشن هجمات على بغداد، شهدت حالة توافق (أو بالأحرى اتفاق غير مكتوب) بين الدولة الإسلامية وثوار العشائر والمجلس العسكري الذي يضم فصائل المعارضة المسلحة السابقة وبعض ضباط الجيش السابقين، يُحدّد شروط وجود التنظيم وتحرّكاته في داخل المدينة فقط. يتضمن الاتفاق عدم قيام الدولة الإسلامية بعمليات انتقامية تستهدف ممتلكات الدولة، أو المسؤولين السابقين، أو قيادات أحزاب أو صحوات سابقين؛ وعدم اتباع منهج تكفير أيّ شخص كان؛ والامتناع عن رفع رايات وأعلام الدولة الإسلامية، أو فرض البيعة على الآخرين؛ والعمل بتنسيق كامل مع المجلس العسكري للمدينة وثوار العشائر في كل ما يختص بالعمل العسكري أو الإدارة المدنية، كما يتضمن عدم تبني أي عمل عسكري ضد القوات الحكومية بشكل منفرد. يعطي وجود الدولة الإسلامية في الفلوجة ذريعة للحكومة وصحوات الرمادي لاقتحام المدينة وتدميرها، كما أنّه قد يضعف من موقف السُنَّة عموماً في المحيطَين المحلي والإقليمي. حتى لو واصل الجيش حصاره لأطول فترة ممكنة، لن يكون ذا أثر كبير على العمليات العسكرية، أو على قدرات المسلحين، لأسباب منها تفوُّق المسلحين في الخبرة القتالية التي اكتسبوها في عهد الرئيس الراحل صدام حسين، وتمَّ تعزيزها بواسطة التدريب على القتال خلال الاحتلال الأميركي، في الوقت الذي تفتقر فيه القوات الحكومية الى الكثير من الخبرات بسبب حداثة تشكيلها واعتمادها على عناصر فيلق بدر وحزب الله العراقي وجيش المهدي وغيرها في بنيتها الأساسية.

سيوفر سقوط الموصل بيد مقاتلي الدولة الإسلامية، على الأقل في المدى القريب، المزيد من المرونة في تحركات التنظيم على جبهتي قتاله في سورية والعراق، كما يضع تحت سيطرته خطوط تصدير النفط عبر خط الانابيب إلى ميناء جيهان التركي، إضافة إلى محطات توليد الطاقة الكهربائية في سد الموصل والقدرة على التحكم بمنسوب المياه بما يشكله من تهديد جدي يطال العاصمة نفسها. وعلى الرغم من المكاسب الحالية، يواجه تنظيم الدولة الإسلامية في الأنبار العديد من التحديات من بينها تشكل تحالف حكومي عشائري أوسع في مواجهة عدو مشترك في المحافظة، أو احتمالات وصول ثوار العشائر إلى تسوية سياسية مع الحكومة الاتحادية ستؤدي حتماً إلى انقلاب في موقف المجلس العسكري وثوار العشائر الذين على الرغم من كراهيتهم وعدم ثقتهم بنوري المالكي يفضلون العودة إلى الإندراج في المؤسسات الوطنية بدلا من ايواء منظمة مصنفة كمنظمة ارهابية. ومن بين التحديات الأخرى التي تواجهها الدولة الإسلامية دخول العامل الخارجي المتمثل بوقف تدفق مسلّحي الدولة الإسلامية إلى الأنبار، بسبب ما يجري من معارك في سورية بين الجيش السوري الحر ومن معه من الفصائل الإسلامية بما فيها جبهة النصرة من جهة، وبين الدولة الإسلامية من جهة أخرى. ففي الأشهر الماضية، فقدت الدولة الإسلامية الكثير من مناطق سيطرتها في محافظة دير الزور السورية على الحدود مع العراق، وانسحب معظم جنودها باتجاه محافظة الرقة بعيداً عن الحدود مع العراق. لكن في غضون ذلك، لابد من أنّ الحدود العراقية-السورية شهدت تدفقاً لمقاتلي الدولة الإسلامية إلى العراق، فقد أعلن التنظيم مثلاً عن مقتل أبو عبد الرحمن الكويتي، أحد قيادييه، في منطقة قريبة من مدينة الرمادي في أواخر آذار/مارس الماضي.

هناك الكثير من الإشارات الضمنية عن ضلوع الدولة الإسلامية بالجهد العسكري الأكبر في المعارك المسلحة الدائرة في الانبار، وهو ما لم تعكسه وسائل الإعلام التي تتبنى موقفاً مؤيداً للتمرد المسلح في الأنبار، حيث لا تبث أشرطة مصورة عن تلك العمليات رغم وفرتها على مواقع الإنترنت. لكن هذا قد لا يروق للدولة الإسلامية حتى النهاية، على الرغم من أنها مازالت ترحب بالإعلانات المتكررة لقادة سياسيين سُنّة وقادة المجلس العسكري وشيوخ العشائر الذين ينفون جميعاً وجود الدولة الإسلامية في الرمادي والفلوجة. ويبدو أنّ رضا الدولة الإسلامية وترحيبها بهذه الإعلانات يتأتيان من منطلق خشيتها من أنْ يكون الإعلان عن تواجدها الفعلي سبباً في تأليب القوات الحكومية والعشائرية للهجوم على الفلوجة وتدميرها، حيث تسعى الدولة الإسلامية لاستعادة علاقاتها مع المجتمع السُني، ومن جانب آخر لتأسيس وجود فعلي وبناء خلايا في الوسط السُني العراقي بما يتيح لها قدراً أكبر من حرية الحركة في تلك المدن مستقبلاً. كما تجد فيها فرصة للاحتكاك بالمجتمع وتغيير الصورة السلبية التي يحملها المجتمع السُني عنها، وهي أيضاً فرصة لقتال القوات الشيعية الطائفية وأيضاً القوات السُنيّة "المرتدة"، كما تُسميها، من الشرطة والصحوات وغيرها.

يخشى قادة المجتمع السُني في عموم العراق، وفي الانبار خاصة، بما في ذلك قادة العشائر والفقهاء الدينيون، من عودة سيطرة الدولة الإسلامية على مناطقهم كما كانت في العامَين 2005 و2006، والسبب ليس خشيتهم من سعي التنظيم إلى فرض فهمه المتشدد للإسلام، وإنما خشيتهم من الملاحقة أو القتل، لأنّهم تعاونوا مع القوات الأميركية وساندوها في قتالها الدولة الإسلامية في الأعوام 2006 و2007 و2008. وينطبق ذلك أيضاً على قادة فصائل المعارضة المسلحة السابقة التي قاتلت الدولة الإسلامية جنباً إلى جنب مع القوات الأميركية ضمن تشكيلات الصحوات العشائرية، وبالأخص حركة حماس العراق وكتائب ثورة العشرين وحركة جامع والجيش الإسلامي. 

نظراً إلى انشغال الدولة الإسلامية في القتال الدائر في سورية، حيث تقف منفردة في مواجهة جميع فصائل الجيش السوري الحر، بما فيها جبهة النصرة، وسواها من الفصائل، لا يمكنها تكبّد خسائر كبيرة في المعارك في الفلوجة والرمادي. يبدو أن الدولة الإسلامية تدرك جيداً المعادلة التي قد تواجهها من احتمالات انقلاب المجلس العسكري وثوار العشائر ضدها ولهذا السبب، يستقدم التنظيم مقاتلين جدد إلى محافظة الأنبار.

رائد الحامد صحافي عراقي وعضو في نقابة الصحفيين العراقيين. يساهم بانتظام في صدى.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.