فاز حزب الشعوب الديمقراطي، وهو حزب اشتراكي ديمقراطي مناصر للأكراد، بنسبة 13 في المئة من الأصوات في الانتخابات التشريعية التي أجريت في تركيا يوم الأحد الماضي، متخطّياً عتبة العشرة في المئة الضرورية من أجل أن يتمكّن أي حزب من الحصول على تمثيل في البرلمان. لأول مرة منذ ثلاثة عشر عاماً، حرمت النتائج حزب العدالة والتنمية الحاكم من الفوز بأكثرية برلمانية.
تبيّن أن قرار حزب الشعوب الديمقراطي خوض الانتخابات كحزب سياسي بدلاً من ترشيح مستقلين كما كان يحصل في السابق (لايخضع المستقلون لعتبة العشرة في المئة)، مخاطرة مبرّرة. لكن نظراً إلى تنامي القوة السياسية للتيارات الكردية في العراق وسورية، كان محتوماً أن يقدّم هذا القرار خياراً رابحاً للأكراد في تركيا في مختلف الأحوال، حتى ولو كان يمكن أن تترتب عنه خسائر للحزب في المدى القصير. لو عجز حزب الشعوب الديمقراطي عن تجاوز عتبة العشرة في المئة، التي تشكّل جزءاً من منظومة اقتراع تهدف إلى الحؤول دون دخول الأحزاب الصغيرة إلى الهيئة التشريعية، لكان برهن عن مزاياه كحزب مناصر للديمقراطية أمام شريحة واسعة من الناخبين في مختلف أنحاء البلاد. ولكان اكتسب مصداقية جديدة كفاعل سياسي مشروع حرمه نظام يعاني من شوائب جمة من الحصول على التمثيل في البرلمان.
لكن حزب الشعوب الديمقراطي تجاوز العتبة المطلوبة، وبات يتمتّع الآن بالزخم اللازم لاقتراح أو دعم تشريع جديد في البرلمان يمكن أن يساهم في تطبيع المناخ السياسي المشحون في تركيا. وقد تكون البداية مع إسقاط قانون متشدّد حول الأمن الداخلي أقرّته حكومة حزب العدالة والتنمية في وقت سابق هذا العام، وإعادة فتح ملفات الفساد ضد سياسيين كبار في حزب العدالة والتنمية، وخفض العتبة الانتخابية التي لطالما عارضها حزب الشعوب الديمقراطي، أو حتى إلغائها.
لقد ظفر حزب الشعوب الديمقراطي بـ80 مقعداً في مجلس النواب، أي أكثر من ضعف الرقم الأعلى الذي سجّله عبر ترشيح أشخاص مستقلّين عندما كان يُعرَف تحت اسم حزب السلام والديمقراطية. علاوةً على ذلك، تمكّن الحزب من استعادة التمثيل خارج المناطق الكردية، مثل أنقرة وإزمير. في اسطنبول، ارتفعت نسبة الأصوات التي نالها حزب الشعوب الديمقراطي من 4.8 في المئة في الانتخابات العامة في العام 2011 (عندما كان يُعرَف بحزب السلام والديمقراطية) إلى 12.6 في المئة. من أجل تحقيق قفزة نوعية في نسبة الأصوات، عمل حزب الشعوب الديمقراطي على استقطاب الناخبين الأكراد المسلمين في المحافظات الواقعة في الشرق والجنوب الشرقي للبلاد، كما في المقاطعات الأساسية في اسطنبول حيث كان الناخبون يميلون إلى حزب العدالة والتنمية في الانتخابات السابقة. وقد ذهب أردوغان إلى حد استخدام نسخة من القرآن مترجمة على عجل إلى اللغة الكردية قبيل الانتخابات في محاولة منه للحفاظ على الدعم من الأكراد المتديّنين. بيد أن مشاعر الولاء لحزب العدالة والتنمية تراجعت في أوساط الأكراد جراء سلسلة من خيبات الأمل - عملية السلام المتعثّرة التي تقودها الحكومة مع حزب العمال الكردستاني؛ ومأساة روبوسكي/أولوديري التي وقعت في أواخر كانون الأول/ديسمبر 2011 ولم يجرِ التحقيق في ملابساتها، بعدما شنّت الحكومة هجمات جوية وقتلت عن طريق الخطأ 34 مدنياً كردياً اعتقدت أنهم مقاتلون في حزب العمال الكردستاني؛ وعدم استعداد حزب العدالة والتنمية لاتخاذ قرار حاسم بمساعدة الأكراد في كوباني. من جهته، سعى حزب الشعوب الديمقراطي إلى الظهور في موقف استيعابي للأديان، ووصف رئيسه المشارك صلاح الدين دميرتاش نفسه بأنه يساري ومسلم مؤمن في الوقت نفسه. في العام 2011، فاز حزب العدالة والتنمية بستة من أصل 11 مقعداً برلمانياً في مدينة ديار بكر ذات الأغلبية الكردية، أما يوم الأحد الماضي، فلم يحتفظ سوى بمقعد واحد فيما سيطر حزب الشعوب الديمقراطي على المقاعد العشرة الأخرى.
وكذلك عمل حزب الشعوب الديمقراطي على استقطاب مجموعة من الناخبين العلمانيين والليبراليين-الديمقراطيين المقيمين في المدن، والذين يتداخلون في شكل أساسي مع أنصار الحزب المعارض الأساسي في تركيا، حزب الشعب الجمهوري، الذي يسعى جاهداً إلى إعادة اختراع نفسه في الأعوام الأخيرة. فقد تحدّى رئيس الحزب، كمال كيليجدار أوغلو، خط الحزب التقليدي معرباً عن أمله، خلال الحملة الانتخابية، بأن يتمكّن حزب الشعوب الديمقراطي من تجاوز عتبة الأصوات، كما أنه أحجم عن ثني ناخبي حزبه عن التحوّل نحو التصويت لحزب الشعوب الديمقراطي. وقد اقترح حزب الشعب الجمهوري أن يمنح نحو 3.5 في المئة من ناخبيه أصواتاً استراتيجية "مناهضة لأردوغان" إلى حزب الشعوب الديمقراطي من أجل الحؤول دون قيام نظام رئاسي واسع الصلاحيات، ودون حدوث مزيد من التأكّل في الحقوق والحريات. وقد أقر دميرتاش، في خطاب مابعد الانتخابات، بأن نجاحهم يعود في جزء منه إلى الأصوات التي نالوها من خارج قواعدهم الناخبة الأساسية، ووعد بتحويل هذه الأصوات التي تمت استعارتها من حزب الشعب الجمهوري إلى دعم قوي وصادق للحزب.
لقد مُنِح حزب الشعوب الديمقراطي تفويضاً لتمثيل مزيجٍ من الناخبين المتنوّعين أيديولوجياً، بما في ذلك خليط من المحتجين المناهضين للحكومة، والمدافعين عن البيئة، والأكراد المحافظين دينياً. تشير نتائج الانتخابات في المحافظات والمقاطعات إلى أن المجموعة الأخيرة تشكّل حصة الأسد في صفوف الناخبين الجدد لحزب الشعوب الديمقراطي. بيد أن بعض الناخبين الأكراد، في الكتلة المحافظة وفي أوساط القوميين على السواء، قد يستاؤون من سلوك سياسيي حزب الشعوب الديمقراطي لأن نَسْب الفضل في الفوز الانتخابي إلى برنامج يساري قد يأتي على حساب مكانة الأكراد وهويتهم. قد يجد حزب الشعوب الديمقراطي صعوبة في تلبية المطالب المستندة إلى الهوية في معاقله في المناطق الكردية فيما يستمر في التصرّف كحزب يمثّل شريحة واسعة من الناخبين في مختلف أنحاء تركيا.
لكن ليس واضحاً حتى الآن ماذا يمكن أن يفعل حزب الشعوب الديمقراطي بمقاعده الجديدة. بما أن حزب العدالة والتنمية أخفق في الحصول على 276 مقعداً، وهو العدد المطلوب لتشكيل حكومة أكثرية، يتعيّن على النواب تشكيل حكومة ائتلافية في غضون 45 يوماً لتفادي إجراء انتخابات جديدة. في هذه المرحلة المبكرة، هناك ثلاثة سيناريوات أساسية تشمل تشكيل ائتلاف بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية المتشدد الذي فاز بنسبة 16 في المئة من الأصوات؛ أو تشكيل حكومة أقلية تضم حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية مع منحها الثقة من حزب الشعوب الديمقراطي؛ أو تشكيل "ائتلاف كبير" بين حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري. وعلى الرغم من أن كل واحد من أحزاب المعارضة الثلاثة استبعد علناً إمكانية تشكيل ائتلاف مع حزب العدالة والتنمية في هذه المرحلة، ثمة مؤشرات بأن حزب الشعب الجمهوري أو حزب الحركة القومية قد يوافقان على العمل مع حزب العدالة والتنمية في حال قبوله ببعض الشروط، مثل اكتفاء أردوغان بممارسة صلاحياته المنصوص عليها في الدستور. في غضون ذلك، لايريد أي من الأفرقاء أن توجَّه إليه أصابع الاتهام بأنه المذنب في فشل المفاوضات الهادفة إلى تشكيل ائتلاف حكومي، عبر الدفع قبل الأوان نحو إجراء الانتخابات من جديد. فمن شأن ذلك أن يدعم مزاعم حزب العدالة والتنمية بأنه لايمكن حكم تركيا إلا من خلال حكومة أكثرية قوية.
في الأسابيع المقبلة، سوف تطغى على المشهد التركي الجهود الهادفة إلى تشكيل ائتلاف وإطلاق حوار بين الأطراف. وأحد العوامل الأساسية في أي ائتلاف سيتمثّل في مدى قدرة الأفرقاء على الاتفاق حول كيفية التعاطي مع عملية السلام في المستقبل، وشروط تجريد حزب العمال الكردستاني من السلاح. بعدما أصبح حزب الشعوب الديمقراطي ممثَّلاً بصورة رسمية في البرلمان، سيكون من الصعب على الحركة الكردية تبرير العودة إلى المقاومة المسلّحة كوسيلة لضمان حقوق الأكراد. على الرغم من أن عبدالله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون، سيبقى رمزاً للسلطة الكردية القومية، إلا أنه في حال ظهر أي مؤشر بأنه يسيطر على حزب الشعوب الديمقراطي ويتدخل مباشرة في البرلمان، سيدفع ذلك بالقاعدة الجديدة الداعمة للحزب إلى فقدان ثقتها به ويمكن أن يؤدّي إلى انحراف المطالب السياسية لحزب الشعوب الديمقراطي عن مسارها الصحيح. في حين قال النائب عن حزب العدالة والتنمية، يالسين أكدوغان، إن أي اتفاق سلام مع الأكراد من دون وساطة من حزب العدالة والتنمية ليست لديه أي حظوظ بالنجاح، جدّد حزب الشعوب الديمقراطي التأكيد بأن زيادة عدد مقاعده في البرلمان ساهمت في تعزيز مكانته وقدرته على التوصل إلى حل دائم.
قد يتبيّن أنه من الممكن تشكيل ائتلاف بين أحزاب المعارضة الثلاثة إذا وُضِع إطار عمل قانوني برلماني لتنظيم عملية السلام. ومن شأن الضمانة بأن حزب العمال الكردستاتي لن ينتهك وقف إطلاق النار أن تشكّل الشرط الأول لأي اتفاق من هذا النوع. وقد يساعد إنشاء لجنة للحقيقة والمصالحة، بحسب المطلب الذي لطالما رفعته الأحزاب المناصرة للأكراد، على تسهيل التوصّل إلى مثل هذا التفاهم. إذا تم التوافق على بعض الشروط البنيوية، مثل جعل المحادثات مع حزب العمال الكردستاني أكثر شفافية مما كانت عليه في ظل حزب العدالة والتنمية، قد توافق أحزاب المعارضة - ولو على مضض - على استكشاف خيارات التعاون. وإلى جانب الأصوات "المستعارة" من حزب الشعب الجمهوري، يمكن أن يؤمّن التعاون على أساس القضايا المطروحة، أرضية لشراكة ناعمة بين حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي. يشير القرار المشترك الذي اتّخذته الأحزاب بتعطيل إقرار مشروع قانون حول الأمن الداخلي تقدّم به حزب العدالة والتنمية في البرلمان في شباط/فبراير الماضي، إلى أن هذه الشراكة ممكنة. بيد أن تمسك حزب الحركة القومية المنتمي إلى أقصى اليمين بموقفه الرافض للمباحثات مع حزب العمال الكردستاني، يجعل من الصعب تشكيل تحالف ثلاثي الأطراف.
سوف تتوقّف الآمال التي تعقدها تركيا على إنشاء ديمقراطية تعددية، على برلمان قد يتبيّن أن عمره قصير. في ظل الظروف الحالية، لن يؤدّي إجراء انتخابات جديدة في وقت لاحق هذا العام إلى إعطاء الأفضلية تلقائياً لأي من الخصوم السياسيين. قد يسعى البرلمان العتيد إلى خفض العتبة الانتخابية أو إلغائها قبل ذلك، لكن المشترعين يدركون أن هذا سيؤدّي على الأرجح إلى تغيير تركيبة البرلمان المقبل. قد يكون ذلك جزءاً من مخطط حزب العدالة والتنمية الجديد: فعلى الرغم من أن الحزب رفض خفض عتبة العشرة في المئة خلال حكمه الذي استمر ثلاثة عشر عاماً، إلا أنه قد يوافق في نهاية المطاف على خفضها إذا ارتأى أنه بإمكانه أن يتخطّى مايعتبره خسارة تكتيكية قصيرة المدى أمام حزب الشعوب الديمقراطي، وأن يستعيد أصوات الأكراد المتديّنين. إذا جرى خفض العتبة الانتخابية، ليس واضحاً إذا كان حزب الشعوب الديمقراطي سيتمكّن من الاحتفاظ بالأصوات "المستعارة"، ماقد يُتيح لحزب العدالة والتنمية الحصول على العدد الضروري من المقاعد في البرلمان لفرض أغلبية من حزب واحد.
حصل حزب الشعوب الديمقراطي على دعم شعبي كضمانة في وجه تراجع الديمقراطية، ويواجه الآن مهمة شاقة. إذا أمكن ترجمة الهوية الديمقراطية الواسعة النطاق التي بناها حزب الشعوب الديمقراطي بشق النفس، إلى معارضة مجدية، وإذا ساهمت هذه الهوية في زيادة حظوظ التوصل إلى اتفاق سلام، سيكون أمام التعددية الديمقراطية فرصة كي تتجذّر في تركيا.
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.