المصدر: Getty
مقال

كردستان وفرصة الإصلاح الضائعة

المأزق السياسي داخل حكومة إقليم كردستان يعرقل التحوّل من نظام تنفيذي إلى نظام برلماني.

 كريستين مكافراي فان دين تورن و رعد القادري
نشرت في ١٥ سبتمبر ٢٠١٥

خلال الأسابيع القليلة الماضية، احتدم السجال حول تمديد ولاية رئيس حكومة إقليم كردستان، مسعود البارزاني، سنتَين إضافيتين. لقد سعى خصوم البارزاني السياسيون إلى ربط أي تمديد لولايته باشتراط إنشاء نظام برلماني في كردستان. بيد أن البارزاني والحزب الديمقراطي الكردستاني يرفضان تسليم أيٍّ من الصلاحيات التي يتمتّعان بها، أو تطبيق أيٍّ من التغييرات الفعلية المطلوبة، ويصرّان على أن الرئيس يملك كامل الحق القانوني في البقاء في منصبه. وقد كشف هذا المأزق النقاب عن الانقسامات في صفوف النخبة السياسية، وأظهر أن عملية صنع القرارات تتأثّر إلى حد كبير بالمصالح السياسية والشخصية على حساب التعدّدية وسيادة القانون. بإمكان الديناميكيات الجديدة في أوساط الشعب الكردي والطبقة السياسية الكردية أن تُعيد في نهاية المطاف تنظيم الهيكليات الحكومية والحزبية، بيد أن المصالح المتجذّرة للحزب الديمقراطي الكردستاني ومعارضيه تعوّق هذا التحول. سوف تدفع كل الأحزاب السياسية باهظاً ثمن ضياع فرصة الإصلاح المؤسساتي.

جرى تمديد ولاية البارزاني سنتَين إضافيتين في حزيران/يونيو 2013، مع العلم بأن مسوّدة الدستور الكردستاني تفرض عدم التمديد لأكثر من ولايتَين. لم يتوقّع أي من خصومه - أو حلفائه العرَضيين - منه أن يتنحّى مع انتهاء الولاية الممدّدة في 19 آب/أغسطس 2015. بل إن السؤال المطروح بالنسبة إليهم كان: هل يمكنهم استعمال تجديد الولاية من أجل انتزاع صلاحيات من البارزاني والحزب الديمقراطي الكردستاني؟ من شأن برنامجهم الهادف إلى تحويل حكومة الإقليم من النموذج الرئاسي الحالي إلى نموذج أكثر برلمانية، أن يحدّ كثيراً من سلطة البارزاني ويعزّز إلى حد كبير السلطة التنفيذية للمجلس الوطني الكردي وللأحزاب المتنافسة، الأمر الذي سوف يُتيح توزيعاً أكبر للسلطات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والأحزاب الأخرى - وهو مايسعى الخصمان الأكبران للحزب الديمقراطي الكردستاني، الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة غوران (التغيير)، إلى تحقيقه منذ أكثر من خمس سنوات.

لقد رفض البارزاني وحزبه باستمرار الدعوات لإنشاء نظام برلماني، لأنه من شأنه أن يشكّل تحدياً للسلطة التي يسعيان إلى الاحتفاظ بها. في 19 آب/أغسطس الماضي، عطّل الحزب الديمقراطي الكردستاني النصاب في البرلمان، فأسقط بذلك مبادرةً كانت لتؤدّي إلى إعادة انتخاب البارزاني إنما تجريد الرئاسة من صلاحيات أساسية. وكذلك رفض الحزب الديمقراطي الكردستاني تقديم تنازلات خلال المفاوضات المطوّلة مع الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة غوران، ماعزّز الشكوك الواسعة بأن الرئيس وحزبه مصمّمان على الإبقاء على الأوتوقراطية التآكلية التي تنطبع بها حكومة إقليم كردستان بصورة متزايدة. وفي العاشر من آب/أغسطس الماضي، اعتبر البارزاني في تصريح علني أن الجهود الهادفة إلى منعه من الحصول على تمديد غير مشروط هي بمثابة انقلاب، وبعد ذلك، دعمته قوات البشمركة من خلال استعراض علني جداً لقوتها في إربيل، ماعزّز أكثر فأكثر الاعتقاد بأنه لا البارزاني ولا حزبه مستعدّان للقبول بالإصلاح.

لقد ساهم خصوم الحزب الديمقراطي الكردستاني في المأزق الذي وصلت إليه الأمور. فالدعوة إلى إنشاء نظام برلماني كانت مطلباً أكبر من قدرة آل البارزاني على تقبّله، ولم يكن الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة غوران مستعدّين أو قادرَين على تقديم بديل حيوي، مايُظهر عجزهما عن التوصّل إلى تسوية. وقد كشف الاتفاق المحتمل الوحيد عن انقسامات داخل المعارضة. وافق الحزب الديمقراطي الكردستاني في المبدأ على مبادرة اقترحها أمين عام الاتحاد الوطني الكردستاني، برهم صالح، في العاشر من آب/أغسطس الماضي. ينصّ "مشروع الإصلاح الوطني" الذي اقترحه صالح على إنشاء لجنة رفيعة المستوى (مؤلّفة من الرئيس ورئيس الوزراء في حكومة إقليم كردستان، ونوّابهما، وممثّلين عن الأحزاب السياسية الكبرى)، مهمّتها الإشراف على إعادة هيكلة المؤسسات القضائية والأمنية والإدارية في كردستان على امتداد عامَين. لو توحّدت الأحزاب والشخصيات خلف دعم هذه الخطة، لربما أرغمت البارزاني والحزب الديمقراطي الكردستاني على تقديم بعض التنازلات بصورة تدريجية، على الرغم من أن منتقدي المبادرة اعتبروا أنها توفيقية أكثر من اللزوم، وتترك للرئيس وحزبه السيطرة التامة على اللجان الأساسية وحكومة إقليم كردستان. بيد أن الخطة انهارت في نهاية المطاف تحت تأثير الخصومات الداخلية في صفوف الاتحاد الوطني الكردستاني وبين برهم صالح ونوشيروان مصطفى، زعيم حركة غوران. فقد رفض هذا الأخير دعم الخطة، مفضّلاً حماية مايعتبره احتكار حركة غوران للإصلاح في إقليم كردستان.

تمسّك الحزب الديمقراطي الكردستاني بموقفه، رافضاً أي اتفاق يهدّد الوضع القائم. وقد قال المفاوضون باسم الحزب إن أكثر مايمكن أن يقبلوا به هو تنظيم استفتاء وطني لتمديد ولاية البارزاني (أو حتى انتخابات نيابية)، يقيناً منهم بأن التصويت سيصبّ في مصلحة الحزب. الوقت هو لصالح الحزب الوطني الكردستاني. فمع استمرار المأزق، سيستغل البارزاني الالتباس القانوني المحيط بولايته من أجل الاستمرار في نهج الحكم نفسه. يدرك الرئيس وحزبه أنه من شأن أية تسوية محتملة أن تسمح للبارزاني بالاحتفاظ بمنصبه. علاوةً على ذلك، ربما يعتبرون أنه كلما توالت الأحداث الدرامية فصولاً، سيبدو خصومهم أشدّ عجزاً. في غضون ذلك، ستشتدّ المخاوف من زعزعة الاستقرار في الداخل، وسوف تتراجع الضغوط الأميركية على الحزب الديمقراطي الكردستاني من أجل تقديم تنازلات، ماقد يشكّل عامل إلهاء إضافياً عن الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية.

في المدى القصير، وعلى الرغم من النزاع بين الأحزاب الرئيسة، غالب الظن أن الحزب الديمقراطي الكردستاني سيحافظ على استقراره إلى حد كبير. ببساطة، سيؤدّي تمديد ولاية الرئيس - مع تنازلات أو من دونها - إلى تعزيز النظرة الشعبية التي تعتبر أن البارزاني والحزب الديمقراطي الكردستاني لايتزحزحان من السلطة، مايُثني منتقدي النظام عن تحدّيه بصورة جدّية. على الرغم من تزايد الانتقادات للبارزاني والحزب الديمقراطي الكردستاني على المستوى الشعبي، تُعزّز شبكات المحسوبيات الواسعة قدرتهما على إسكات أي معارضة ممكنة. ومن شأن النجاح الاقتصادي الذي حقّقه إقليم كردستان خلال العقد المنصرم، فضلاً عن التهديد الأمني الذي يشكّله تنظيم الدولة الإسلامية، أن يُقنع شرائح واسعة من الأكراد بأن الوضع القائم يحمل قيمة كافية تبرّر حمايته على الأقل في الوقت الراهن.

لكن في المدى الأطول، سوف يؤدّي النزاع الأخير إلى تشويه صورة الحزب الديمقراطي الكردستاني وخصومه على السواء، بما يؤدّي في نهاية المطاف إلى تقويض الدعم الشعبي لهم. فعبر رفض النظر في تسوية عملية، سلّطت كل الأطراف المعنية - الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني وحركة غوران وسواها - الضوء على الخصومات الشخصية المزمنة في مابينها. إذا وافق الاتحاد الوطني الكردستاني الآن على تمديد ولاية البارزاني، فسوف يُعرّض نفسه للاتّهامات بأنه مقرّب جداً من الحزب الديمقراطي الكردستاني - كما حصل عندما أعطى مباركته لتمديد ولاية البارزاني في العام 2013. لقد سجّل الدعم الشعبي للحزب تراجعاً كبيراً خلال العامَين الماضيين، ماأرغمه على اللجوء إلى تزوير نتائج التصويت1. من شأن تراجع الاتحاد الوطني الكردستاني ووجوده في موقع ضعف أن يعود بالفائدة على حركة غوران، لكنه سيكون انتصاراً باهظ الثمن. فقد كشفت الأحداث عن النزعة الانتهازية لدى حركة غوران، وعلى الرغم من حديث قادتها عن الإصلاح، إلا أنهم يضعون المصالح السياسية الشخصية أولاً، فيحرمون بذلك الحزب من فرصة حقيقية للدفع معاً نحو تغييرات تدريجية ومحدّدة جيداً.

في نهاية المطاف، قد يدفع البارزاني والحزب الديمقراطي الكردستاني الثمن الأغلى. فتعنّتهما في عدم الإذعان لمطالب التغيير سيكلّف الحزب (وامتداداً، حكومة إقليم كردستان) خسارة دعم شعبي واسع. ربما كانت المحاولة التي بذلها الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة غوران من أجل ليّ ذراع الحزب الديمقراطي الكردستاني في موضوع تمديد ولاية البارزاني، عقيمة، لكنها تعكس الإحباط المتنامي الذي تشعر به قواعدهما الناخبة جراء تراجع فعالية الحكم في حكومة إقليم كردستان. على الرغم من مقاطعة الحزب الديمقراطي الكردستاني للمجلس الوطني الكردي في حزيران/يونيو الماضي، حافظت أحزاب المعارضة على عدد كافٍ من المقاعد لتأمين النصاب - وفي ذلك تحذيرٌ للبارزاني بأنه لايستطيع الافتراض بأن الأمور ستسير دائماً بحسب مايريده هو.

كما أن عجز الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني عن تقاسم السلطة وممارسة الحكم بفعالية يزيد من حدّة الانقسامات بين قواعدهما الشعبية. قد يدفع التململ الذي يشعر به بعض القادة الحزبيين في العلن، بالاتحاد الوطني الكردستاني وحركة غوران إلى السعي إلى تحقيق استقلالية أكبر في محافظة السليمانية، في حين يتحصّن الحزب الديمقراطي الكردستاني في إربيل ودهوك. لاتزال حواجز التفتيش المعزّزة قائمة على طول الحدود الداخلية غير الرسمية، وقد تعرّض أعضاء حركة غوران للمضايقات في طريقهم إلى إربيل. علاوةً على ذلك، يشتدّ الاستياء من الطبقة السياسية ككل على المستوى المحلي، لاسيما بسبب عدم تسديد الرواتب منذ أشهر، والنقص في الكهرباء والماء والغاز. خلف الأبواب المغلقة، حتى البشمركة تنتقد الفساد، والتعيينات على أساس الواسطة، وسلسلة القيادة الرديئة، وغياب التدريب أو الإمدادات، ماأدّى إلى ارتكاب هفوات وسقوط ضحايا في المعارك الأخيرة. على غرار المدنيين، يتغيّب عدد كبير من عناصر البمشركة من دون إذن رسمي، بحسب التقارير، ويذهبون خلسةً إلى أوروبا2.

يواجه الأكراد مزيداً من التحدّيات في فرض الأمن في الأراضي المتنازع عليها وحكمها، مثل محافظتَي نينوى وديالى، والتي سيطروا عليها في الأشهر الخمسة عشر الماضية. لقد أظهرت حكومة إقليم كردستان عجزها عن حكم شعوب غير كردية أو مناهضة للحزب الديمقراطي الكردي بغالبيتها الكبرى، وسوف يستاء عدد كبير من العرب والتركمان الذين يفضّلون ألا يعيشوا في ظل الحكم الكردي، من وصاية حكومة إقليم كردستان، ويتصدّون لها في نهاية المطاف.

سوف يشكّل تدهور الظروف الاقتصادية والمالية اختباراً إضافياً لتماسك حكومة إقليم كردستان. لقد سدّد هبوط أسعار النفط، وتوقّف التصدير عبر منطقة جيهان في تركيا، وتراجع التحويلات من الموازنة الحكومية في بغداد، ضربة قوية لخزانة حكومة إقليم كردستان، مايتسبّب بالتأخّر في تسديد رواتب موظّفي القطاع العام وتزايد العجز المالي. وكان للضغوط المالية دورها في الأزمة السياسية الراهنة؛ الشهر الماضي، تبادل وزير الموارد الطبيعية (من الحزب الديمقراطي الكردستاني) ووزير المالية (من حركة غوران) اللوم على خلفية تحديد الوزارة المسؤولة عن الهبوط الشديد في العائدات النفطية. فضلاً عن ذلك، من شأن إجراءات التقشّف التي تكتسب أكثر فأكثر طابعاً ضرورياً، أن تؤثّر في المحسوبيات الحزبية، وتُعرِّض الحزب الديمقراطي الكردستاني للانتقادات الشعبية، نظراً إلى ارتباطه الوثيق بسياسة التصدير المستقل الراهنة والسيطرة المالية العامة لحكومة إقليم كردستان.

في نهاية المطاف، سوف يؤدّي هذا الوضع إلى إضعاف البارزاني وحزبه والطبقة السياسية. سوف يؤمّن التهديد الذي يشكّله تنظيم الدولة الإسلامية، بعض الغطاء للحزب الديمقراطي الكردستاني في المدى القصير، مايتيح له استخدام الأزمة الأمنية لتهميش الخصوم وكبح المعارضة. بيد أن خصوم-حلفاء الحزب الديمقراطي الكردستاني سيسعون في نهاية الأمر إلى الإفادة إلى أقصى حد من كل مايعتبرونه إخفاقاً حكومياً في إحياء جهود الإصلاح.

كريستين مكافراي فان دين تورن مديرة معهد الدراسات الإقليمية والدولية في الجامعة الأميركية في العراق في محافظة السليمانية. رعد القادري محلل للشؤون السياسية في الشرق الأوسط والعراق ومستشار سابق في وزارة الخارجية والكومنولث البريطانية. 

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.


1. بالاستناد إلى مقابلات أجرتها الكاتبة في إقليم كردستان العراق في العام 2014.
2. بالاستناد إلى مقابلة أجرتها الكاتبة مع عنصر في البشمركة.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.