المصدر: Getty
مقال

حزب العدالة والتنمية والقدرة على الصمود في تركيا

نجح حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا في إقناع شريحة واسعة من الناخبين بأنه الحزب الوحيد القادر على الحفاظ على الاستقرار الداخلي.

نشرت في ٤ نوفمبر ٢٠١٥

حقّق حزب العدالة والتنمية فوزاً كاسحاً في الانتخابات التشريعية المعادة التي أجريت في تركيا في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري - بعد خمسة أشهر فقط من الاقتراع المحوري الذي أدّى إلى خسارة حزب العدالة والتنمية الحاكم أكثرية الحزب الواحد بعد ثلاثة عشر عاماً من الحكم المتواصل. وفي تحدٍّ لاستطلاعات الرأي التي حذّرت من أن نتائج الانتخابات ستزجّ البلاد في مأزق سياسي، متوقّعةً أن تعكس عن كثب نتائج الانتخابات السابقة التي أجريت في السابع من حزيران/يونيو الماضي، فاز حزب العدالة والتنمية بـ49 في المئة من الأصوات على مستوى البلاد. وقد فشل حزب الشعوب الديمقراطي الاشتراكي المناصر للأكراد في تكرار الفوز الذي حقّقه في الانتخابات السابقة، عندما تجاوز بسهولة عتبة العشرة في المئة من الأصوات لدخول مجلس النواب. فبالكاد تمكّن الحزب من تجاوز العتبة يوم الأحد الماضي، مع فوزه بـ10.75 في المئة من الأصوات وخسارة 21 مقعداً. إلا أنه أصبح ثالث أكبر حزب في البرلمان، مع حصوله على 59 مقعداً. ويتبعه في المرتبة الرابعة حزب الحركة القومية المتشدّد الذي تراجعت حصّته من 80 إلى 40 مقعداً.

توجّه الناخبون إلى مراكز الاقتراع يوم الأحد بعد تجدّد أعمال العنف في الأشهر الأخيرة بين القوى الأمنية الحكومية وحزب العمال الكردستاني والتي انطلقت شرارتها من جديد في تموز/يوليو الماضي، وسقوط أعداد متزايدة من الضحايا، مماأدّى إلى انهيار وقف إطلاق النار المستمر منذ عامَين. فقد لقي 16 جندياً مصرعهم في يوم واحد في هجوم داجليكا في السادس من أيلول/سبتمبر الماضي؛ وبحسب التقارير يفوق مجموع الجنود ومسؤولي الشرطة الذين قضوا في القتال، 160 شخصاً. وقد شهدت تركيا أخطر هجوم إرهابي على امتداد 92 عاماً من تاريخها، عندما نفّذ انتحاريان يقال إنهما على صلة بتنظيم الدولة الإسلامية، تفجيرَين في العاصمة أنقرة في العاشر من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ماأسفر عن سقوط أكثر من مئة قتيل في صفوف المدنيين. لقد اعتبر النقّاد أن حزب العدالة والتنمية ضحّى بالسلام من أجل انتخابات خاطفة. لكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أصرّ في حديثه أمام المراسلين يوم الأحد الماضي، على أن الانتخابات أصبحت ضرورية بعد فشل عملية الاقتراع في حزيران/يونيو الماضي في إرساء أسس الاستقرار على المستوى الوطني. بالفعل، حدّد خطاب حزب العدالة والتنمية السياسي قبل الانتخابات، أهداف الحزب التي تتمثّل في الاستقرار والأمن والوحدة. ومع اشتداد الاضطرابات الداخلية وسط التهديدات بشنّ تنظيم داعش هجمات في البلاد والالتباس بشأن مستقبل عملية السلام مع الأكراد، ربطت الحكومة الانتخابات بخطر الفوضى في حال لم يمنح الناخبون تفويضاً قوياً لحزب العدالة والتنمية كي يحكم البلاد لولاية إضافية أخرى على الأقل. 

تختلف انتخابات الأول من تشرين الثاني/نوفمبر عن الاقتراع قبل خمسة أشهر من خلال عدد من التغييرات في السياق السياسي. أولاً، في حين أن التصويت في حزيران/يونيو تمحور حول صعود حزب الشعوب الديمقراطي المناصر للأكراد كقوة سياسية جديدة، أجريت الانتخابات يوم الأحد الماضي وسط التساؤلات عن مستقبل حزب العدالة والتنمية، وعن إمكانية ظهور قوة فاعلة جديدة في صفوف أعضاء الحزب المستائين الذين سئموا من سيطرة الرجل الواحد التي يمارسها أردوغان. وفيما تنتشر من وقت لآخر شائعات عن عودة الرئيس السابق عبدالله غول، أحد مؤسّسي حزب العدالة والتنمية والذي أُقصي لاحقاً من الدوائر الداخلية لصنّاع القرار في الحزب، برزت مؤشرات عن إمكانية ظهور حزب جديد منشق عن حزب العدالة والتنمية، ويستعيد القيم الديمقراطية التي كان الحزب يتبنّاها في سنواته التأسيسية. بيد أن نتائج الانتخابات الأخيرة تجعل هذا السيناريو مستبعداً إلى حد كبير، مع نجاح حزب العدالة والتنمية في ترسيخ قبضته على السياسة المحافظة اليمينية وعدم الإفساح في المجال أمام ظهور خصم يلتقي معه حول العقيدة نفسها.

ثانياً، انطبعت الحملة الانتخابية بردود فعل الأفرقاء السياسيين على تنامي العنف السياسي. فمع احتدام القتال ضد الأهداف التابعة لحزب العمال الكردستاني، ظهرت من جديد ممارسات سلطوية في جنوب شرق البلاد مثل فرض حظر التجوال لفترات مطوّلة والحضور الأمني المكثّف، وقد سعت هذه الممارسات فضلاً عن الرابط المتكرّر الذي أقامه التكنوقراط في حزب العدالة والتنمية ووسائل الإعلام الموالية للحكومة بين حزب الشعوب الديمقراطي وحزب العمال الكردستاني، إلى إنجاز مهمتين اثنتين في الوقت نفسه. الأولى هي حشد أصوات القوميين الأتراك الذين تخوّفوا من عودة أعمال العنف التي شهدتها البلاد في التسعينيات. بحسب استطلاع آراء أجري إبان انتخابات السابع من حزيران/يونيو، شكّل ناخبو حزب الحركة القومية النسبة الأعلى بين الأشخاص الذين أقرّوا بأنه تمت استعارة أصواتهم لأغراض استراتيجية. وقد تمكّن حزب العدالة والتنمية من استعادة الأصوات المحافظة القومية بسبب تعنّت حزب الحركة القومية خلال المباحثات لتشكيل ائتلاف حكومي، والحملة القوية التي شنّها حزب العدالة والتنمية لمكافحة الإرهاب. وكان الهدف الثاني لحزب العدالة والتنمية إقناع الأكراد المحافظين اجتماعياً الذين وقفوا تاريخياً إلى جانبه بأن حزب الشعوب الديمقراطي ليس صديقاً لهم. وقد عمد حزب العدالة والتنمية هذه المرة إلى تغيير قوائم مرشّحيه في المناطق الكردية الأساسية، آخذاً في الاعتبار التفضيلات المحلية، ومسلّطاً الضوء على شخصيات بارزة بإمكانها استنهاض الولاءات السابقة. وقد ارتفعت نسبة الأصوات التي نالها حزب العدالة والتنمية في ديار بكر يوم الأحد الماضي إلى 22 في المئة، بعدما كانت 14 في المئة في حزيران/يونيو. لقد استعاد الحزب، على الأقل جزئياً، قدرته على القول بأنه يمثّل الكتلة الناخبة المناصرة للأكراد في الجزء الشرقي والجنوبي الشرقي من البلاد.

وقد سعى الرئيس المشارك في حزب الشعوب الديمقراطي، صلاح دميرطاش، في محاولة منه للرد على الصورة التي روّجها حزب العدالة والتنمية عن حزب الشعوب الديمقراطي بأنه الناطق باسم حزب العمال الكردستاني - سعى إذاً إلى أن يؤدّي دور وسيط السلام من أجل وضع حد للدوامة الانحدارية التي تدفع بالبلاد نحو العنف الذي لاتُحمَد عقباه. وهكذا أعلن، في خطوة لافتة في 23 آب/أغسطس الماضي، أنه ينبغي على حزب العمال الكردستاني وقف هجماته من دون "إذا أو لكن". لكن هذا لم يكن كافياً لإقناع الناخبين بأن حزب الشعوب الديمقراطي مستعد أو قادر على النأي بنفسه عن الهيكلية القيادية القتالية لحزب العمال الكردستاني. لقد خسر حزب الشعوب الديمقراطي أصواتاً في مراكز مدن أساسية مثل أنقرة وإزمير واسطنبول. فـ"الأصوات المستعارة" المناهضة لأردوغان التي ساهمت في دفع حزب الشعوب الديمقراطي نحو الفوز في حزيران/يونيو الماضي عادت إلى جذورها، إذ تحوّل بعضها من جديد نحو حزب الشعب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي، لكن البعض الآخر تحوّل أيضاً نحو حزب العدالة والتنمية. لم يُكرّر حزب الشعوب الديمقراطي في حملته الانتخابية الأخيرة، التعهّد الذي قطعه بأن يكون حزباً لجميع المواطنين الأتراك، والذي قاده إلى الفوز في الانتخابات في السابع من حزيران/يونيو الماضي. لقد أثار إقدام بعض المحافظات والأقاليم في المناطق الكردية على إعلان "الحكم الذاتي الديمقراطي" بصورة أحادية، القلق لدى ناخبي حزب الشعوب الديمقراطي في المدن، إذ رأوا أن أصواتهم تُستعمَل لتبرير الحمّى الانفصالية التي لايؤيّدونها بالضرورة.

على الرغم من احتفاظ حزب الشعوب الديمقراطي بسيطرته الأكيدة على المحافظات ذات الغالبية الكردية في جنوب شرق البلاد، إلا أنه تكبّد خسائر حتى في تلك المحافظات. فقد تراجعت نسبة المقترعين له في بينكول وآغري وكارس وبدليس وفان، ومحافظات أساسية أخرى. وخسر الحزب 7.8 نقاط في معقله في ديار بكر. فعدد كبير من الأكراد المحافظين اجتماعياً الذين أعطوا حزب الشعوب الديمقراطي فرصة في الانتخابات السابقة، تحوّلوا من جديد نحو دعم حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة. لقد تسبّب خطاب حزب الشعوب الديمقراطي العالي النبرة ضد الحكومة، في إثارة نفور الناخبين الأكراد غير المرتاحين لدور حزب العمال الكردستاني في تجدّد العنف، وموقفه الإقصائي من الأحزاب المنافسة له في المنطقة، وزعمه السيطرة على النضال من أجل حقوق الأكراد على حساب السياسة المدنية. لقد تسبّب العنف الذي يحظى بغطاء من حزب العمال الكردستاني، بالقضاء على الفرصة التي حصل عليها حزب الشعوب الديمقراطي بشق النفس لتمثيل المدنيين في أنقرة، الأمر الذي كان ليفتح صفحة جديدة ليس فقط في مايتعلق بتوسيع الحقوق الكردية إنما أيضاً بنشر الديمقراطية الحقيقية في مختلف أنحاء تركيا. تُظهر النتائج أيضاً أن التفضيلات السياسية للأكراد تدحض الافتراض بأن الاقتراع يتم فقط على أساس الولاءات الإثنية المتشدّدة.

ثالثاً، جرت انتخابات الأحد في سياق سياسي يتّسم بالتشنّج الحاد بين المؤسسات الديمقراطية المستقلة ذاتياً في تركيا وجهاز الدولة المترامي الأطراف الخاضع لسيطرة حزب أحادي. منذ الانتخابات في حزيران/يونيو الماضي، يتعرّض الصحافيون المعارضون لرقابة أشد وطأة، وقبل أربعة أيام فقط من انتخابات الأحد، جرت مداهمة صحيفتَين ومحطتين تلفزيونيتين مملوكة من شركة Koza-Ipek Media الموالية لغولن، وإغلاقها ووضعها تحت شكل من أشكال "الوصاية" الحكومية. كما أن المخاوف من أن القضاء لم يعد مؤسسة عامة محايدة ساهمت في تعزيز الانطباع بأن حزب العدالة والتنمية تحوّل إلى حزب دولة هجين، مايتناقض في شكل صارخ مع المزاعم الطموحة التي أطلقها الحزب قبل عقد من الزمن مدّعياً أنه صوت الجماهير المهمّشة. لكن الناخبين إما لم يأخذوا على محمل الجد المخاوف من انحسار الديمقراطية واضمحلال الحريات الفردية والإعلامية، وإما ضحّوا بالديمقراطية والحريات من أجل وعود حزب العدالة والتنمية ببسط النظام العام والأمن. ثمة علامة استفهام كبيرة حول ماإذا كانت هذه المقايضة ستصب في مصلحة الديمقراطية الجامعة والمستندة إلى التوافق في المدى الطويل في تركيا.

حزب العدالة والتنمية مصمّم على التحلّي بالنفَس الطويل، ويركّز على إنشاء "تركيا جديدة" تتّسم بالنفوذ الاقتصادي والسياسي بحلول المئوية الأولى لقيام الجمهورية في العام 2023. قال رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو ليل الأحد الماضي: "لانزال في بداية الطريق". غالب الظن أن مسألة الإصلاح المؤسساتي ستُدرَج على جدول أعمال حزب العدالة والتنمية من جديد، وهذه المرة، يتمتع أردوغان بقوة أكبر للدفع باتجاه نظام رئاسي معزّز حيث تكون السلطة التنفيذية منوطة بالرئاسة، والذي لطالما اعتبر أردوغان أنه النظام الأنسب لتركيا. وعلى الرغم من أن حزب العدالة والتنمية ترشّح على أساس الزعم بأنه يتيح الفرصة الوحيدة لتحقيق الاستقرار الطويل الأمد في البلاد، إلا أنه ليس أكيداً بعد إذا كانت حكومة حزب العدالة والتنمية ستتعامل بحزم مع الجماعات الإسلامية المتشدّدة التي تشكّل مصدراً لتجنيد الخلايا التابعة لتنظيم داعش في تركيا. فضلاً عن ذلك، إذا أعيد إنعاش عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني بطريقة من الطرق، قد يسعى حزب العدالة والتنمية المسيطر إلى تجاوز حزب الشعوب الديمقراطي والتعامل مباشرةً مع عبدالله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني الموجود في السجن، من أجل التوصّل إلى تسوية بحسب شروطه الخاصة بدلاً من التعاون مع حزب الشعوب الديمقراطي بغية وضع خطة للسلام.

لاتزال تركيا منقسمة. المقلق في ماآلت إليه السياسة التركية الآن ليس الانقسامات العميقة على أساس الولاءات الحزبية أو الانتماءات العقائدية - فالآراء المتنوّعة لا بل المتصادمة تشكّل ركيزة أساسية في الديمقراطيات المتينة - إنما عدم استعداد النخب السياسية للإصغاء إلى الطرف "الآخر"، بسبب الغمامة الموضوعة على عيونها انطلاقاً من شعورها بالاطمئنان إلى بقائها في مناصبها.

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.