المصدر: Getty
مقال

مناورات النخبة في المرحلة الانتقالية الليبية

خطة العمل التي وضعها غسان سلامة لليبيا تواجه عوائق عدّة من النخب السياسية المتجذّرة التي ترى فيها مجالاً إضافياً حيث يمكنها السعي إلى تحقيق مكاسب شخصية.

نشرت في ٢٣ فبراير ٢٠١٨

أسقطت المحكمة العليا الليبية، في 14 شباط/فبراير، حكماً صادراً عن محكمة استئناف البيضاء والذي كان قد قضى بقبول الطعن المقدَّم ضد تصويت الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور، في تموز/يوليو 2017، على الموافقة على مسوّدة الدستور، ما أدّى حينها إلى إيقاف المسوّدة. إذاً يمهّد قرار المحكمة العليا الطريق أمام إجراء استفتاء دستوري وانتخابات برلمانية ورئاسية في المستقبل. ويبدو أن ذلك يمنح اندفاعة لخطة العمل التي أعلن عنها مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى ليبيا، غسان سلامة، في أيلول/سبتمبر 2017، والتي أتت نتيجة شهرَين من المشاورات مع العديد من الأفرقاء الليبيين والدوليين. لقد شدّد سلامة على أن الخطة هي وليدة الأفكار والتطلعات الليبية من أجل إيجاد حلٍّ لما يشوب المرحلة الانتقالية المطوّلة من عدم قابلية للتوقّع وانعدام للاستقرار ملازمٍ لها. لقد تميّز سلامة عن أسلافه في هذا المجال، ما أتاح له، ولبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، الابتعاد عن السياسة غير المحدّدة المعالم القائمة على تعزيز محادثات الوحدة، والتي لم تحقّق أي تقدّم ذي مغزى منذ انطلاقتها في العام 2014. بيد أن خطته تواجه عوائق متعدّدة، لا سيما من النخب السياسية المتجذّرة في مواقعها التي ترى في خطة العمل التي وضعها سلامة مجالاً إضافياً حيث يمكنها السعي إلى تحقيق مكاسب شخصية.

صُوِّرت خطة العمل، بنفحةٍ تفاؤلية ربما، بأنها تُقدِّم مساراً واضحاً نحو قيام دولة دستورية. وهي تنص، أولاً، على تعديل الاتفاق السياسي الليبي الذي يشكّل إطار العمل القانوني للمشهد السياسي الراهن، وذلك بالاستناد إلى اتفاقات بين مجلس النواب في شرق البلاد – الهيئة التشريعية المنتخَبة المعترَف بها دولياً – والمجلس الأعلى للدولة، وهو هيئة استشارية تتّخذ من طرابلس مقراً لها. من شأن ذلك أن يساهم في تسهيل قيام سلطة تنفيذية فاعلة بإمكانها بسط الاستقرار في البلاد عبر التصدّي لبعض الأزمات الأكثر فورية، مع المساهمة في الوقت نفسه في تسهيل تطبيق باقي مندرجات خطة العمل. ويُستتبَع ذلك بعقد مؤتمر وطني يُشارك فيه الأفرقاء المعنيون الليبيون من مختلف الأطياف السياسية بهدف توحيد الأطراف السياسية والاقتصادية والأمنية في ليبيا ودفعها لرصّ صفوفها دعماً للتغييرات القانونية، والحد من الفرص المتاحة أمامها لممارسة التعطيل. وبعد انعقاد المؤتمر، يمكن أن يركّز مجلس النواب على صياغة القوانين الانتخابية من أجل تنظيم استفتاء دستوري، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة.

يتّفق معظم الليبيين مع سلامة على أن الأزمات التي تعاني منها ليبيا تقتضي حلولاً منبثقة عن الليبيين أنفسهم، غير أنّ المبعوث الأممي قلّل من شأن الصعوبات التي تعترض حمل الشخصيات السياسية على تطبيق هذه الحلول. المثير للقلق هو أن الأفرقاء الليبيين والدوليين على السواء يركّزون باطّراد على الانتخابات المزمع إجراؤها كوسيلة للالتفاف على هذه العقبات – في مقاربة تحمل في طياتها خطر تكرار تجربة حكومة الوفاق الوطني التي أنشئت على عجل قبل التوصل إلى اتفاق كامل بشأنها. ولذلك اعترض عليها مجلس النواب ولم يمنحها ثقته، وظلّت، على امتداد عامَين، هيئة تنفيذية غير فاعلة رفضها عدد كبير من الليبيين معتبرين أن الأمم المتحدة فرضتها عنوةً.

على الرغم من أن العناصر التقنية في مقاربة سلامة للأزمة الليبية كانت سليمة، إلا أن خطة العمل أخفقت، في شكل خاص، في فهم الوضع القائم السياسي الذي حال دون تحقيق تقدّم فعلي على مدار ستة أعوام. ترى النخب السياسية في العملية الانتقالية بحد ذاتها، منافسةً محصّلتها صفرية، إي إما غالب أو مغلوب، بما يُتيح فرض السيطرة الكاملة على ليبيا. تحافظ هذه النخب على السلطة من خلال السيطرة على الأراضي والموارد، ما يمنحها شرعية دولية والقدرة على شراء ولاء المجتمعات المحلية. إنما ليست لهؤلاء الأفرقاء السياسيين المسيطِرين قيادة وطنية ذات فاعلية تُذكَر، نظراً إلى أنهم يتحرّكون في دوائر أصغر فأصغر، فضلاً عن تراجع تأثيرهم المباشر في أوساط السكّان. علاوةً على ذلك، ليس هناك من سبب يدفعهم إلى تطبيق خطة سلامة، التي تسعى إلى إنهاء الوضع القائم الذي يخدم مصالحهم، بل هم يستعملونها بوقاحة كأداة لتحسين مكانتهم الخاصة.

تتجلّى هذه السياسة الواقعية التبسيطية، مثلاً، في المحاولات الآيلة إلى الموافقة على التعديلات الدستورية. حاول سلامة التسريع في المفاوضات حول الاتفاق السياسي الليبي عبر اقتراح تعديلات مُعَدَّة مسبقاً – بالاستناد إلى اتفاقات غير رسمية جرى التوصل إليها في مفاوضات سابقة – من أجل عرضها على مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة للموافقة عليها. تضمّنت هذه التعديلات تقليص حجم المجلس الرئاسي المثقَل من تسعة إلى ثلاثة أعضاء، ووضع المؤسسات العسكرية تحت الإشراف المدني للمجلس الرئاسي. أما مجلس النواب، الذي تعرّض لتهميش مطّرد، فيتحوّل إلى الهيئة التشريعية في منظومة سياسية تعمل على أكمل وجه، مع تمتّعه بصلاحيات الإشراف على السلطة التنفيذية. وقد سارع رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، إلى تنظيم تصويت في 21 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، كانت نتيجته الموافقة على هذه التعديلات، بعدما تمكّنَ من تجاوز المشكلات المعهودة التي يواجهها المجلس في تأمين النصاب، من خلال استئجار طائرة لنقل النواب من طبرق وإليها من أجل التصويت.

غير أن المجلس الأعلى للدولة، وتحديداً رئيسه عبد الرحمن السويحلي، قام بتعطيل هذه التعديلات في 24 تشرين الثاني/نوفمبر، وأصدر في هذا الإطار بياناً رفض فيه الاقتراح في موقفٍ يتناقض مع رغبات باقي أعضاء المجلس الأعلى للدولة، وذلك في محاولة وقحة من جانبه لاستغلال الوضع من أجل تحقيق مكاسب شخصية. وقد طالب السويحلي بأن يتشارك المجلس الأعلى للدولة السلطات بالتساوي مع مجلس النواب، كشرطٍ مسبق للموافقة على التعديلات، وعبّر عن مطالب جديدة غير متّصلة بالموضوع، مثل قيام ليبيا بإنهاء التدخّل المصري في المحادثات الموازية لتوحيد الجيش. علاوةً على ذلك، حاول في أيلول/سبتمبر إطلاق مبادرته الانتقالية الخاصة بمعزل عن خطة سلامة، وأعلن في 27 كانون الأول/ديسمبر أن المجلس الأعلى للدولة وافق على قانون لتنظيم استفتاء على الدستور. على الرغم من أن مثل هذا القانون ليس من اختصاص المجلس الأعلى للدولة، إلا أن الهدف منه هو إعادة توجيه النقاش بعيداً من التعديلات المتعثّرة المراد إدراجها في الاتفاق السياسي الليبي، ودفعه باتجاه التركيز على الانتخابات المقبلة.

هذا فضلاً عن أن الجهود التي يبذلها السويحلي من أجل وضع قانون لتنظيم استفتاء على الدستور، تتيح للمجلس الأعلى للدولة تسجيل هدف في مرمى مجلس النواب الذي يعرقل عملية وضع اللمسات الأخيرة على الدستور الجديد. لطالما أبدى عقيلة صالح، الذي يخشى أن يؤدّي إجراء الانتخابات في ظل نظام دستوري إلى الحد من سلطته كرئيس لمجلس النواب، معارضته للهيئة التأسيسية لصياغة الدستور، التي تُعتبَر مكوِّناً أساسياً في نجاح خطة العمل. عندما وافقت الهيئة على مسودة الدستور في تموز/يوليو 2017، كان يُفترَض بمجلس النواب إقرار قانون لتنظيم استفتاء على الدستور في غضون ثلاثين يوماً. لكن في 16 آب/أغسطس، أبطلت محكمة استئناف البيضاء تصويت الهيئة على مسودة الدستور لأسباب إجرائية. وعندما طعنت الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور بالحكم، أصدرت المحكمة العليا التي تتخذ من طرابلس مقراً لها، قراراً بإبطاله في 14 شباط/فبراير، معتبرةً أن المحاكم الإدارية لا تتمتّع بصلاحية الحكم في القضايا المتعلقة بالهيئة التأسيسية لصياغة الدستور. على الرغم من أن الهيئة نجحت في فرض الاعتراف بعملية التصويت على مسودة الدستور، إلا أنه لا يزال ممكناً أن تتعرّض للتحدّي المباشر أمام المحكمة العليا. علاوةً على ذلك، يمتلك صالح القدرة على عرقلة عملية إقرار الدستور، وخير دليل على ذلك ما حدث في 20 شباط/فبراير، عندما أصدر ثمانية عشر نائباً من شرق ليبيا، بياناً أشاروا فيه إلى أنهم لا يعتبرون حكم المحكمة العليا ساري المفعول، وإلى أنهم سيرفضون إصدار قانون لتنظيم استفتاء على الدستور.

في حين يعمد بعض الأفرقاء السياسيين إلى عرقلة الخطوات التقنية في خطة سلامة، يحاول آخرون تشويه المنتَج النهائي. يسعى المشير خليفة حفتر إلى التعجيل في إجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة وإلى التحكّم بنتائجها. على الرغم من أن حفتر يبقى خارج إطار الهيكلية السياسية الانتقالية في ليبيا، إلا أنه انتزع دوراً لنفسه، في الأعوام الثلاثة الماضية، عبر السيطرة عسكرياً على الجزء الأكبر من شرق ليبيا وغالبية المواقع النفطية في البلاد. لكنه غير قادر على غزو المناطق الأخرى، ولا على الإبقاء على سيطرته على الفصائل التي يتألف منها الجيش الوطني الليبي بقيادته، لذلك وافق على مفهوم الانتخابات كوسيلة للارتقاء من منصب قائد عسكري إلى رئيس للبلاد، كما فعل عبد الفتاح السيسي في مصر. ومنذ ذلك الوقت، يحاول السيطرة على العملية الانتخابية، موجِّهاً اتهامات متكررة إلى المفوضية الوطنية العليا للانتخابات التي قال عنها إنها "ابتُليَت" بالإخوان المسلمين، وطالب بنقل مقرّها إلى مدينة طبرق شرق البلاد. وزعم، في خطاب متلفز في 17 كانون الأول/ديسمبر، أن مدّة الاتفاق السياسي الليبي قد انقضت، وأن الجيش الوطني الليبي الذي أعلنه بنفسه ويتزعّمه، هو بالتالي المؤسسة الشرعية الوحيدة المتبقّية. وقال، في محاولة منه لتجنّب الإشراف المدني والضوابط الدستورية التي يُرجَّح أن تفرضها خطة العمل، إنه لن يُعير بعد الآن آذاناً صاغية للمجتمع الدولي، بل سيصغي فقط إلى الشعب الليبي. وبعدما فشلت هذه الحيَل في جعل المؤسسات التي تخطّط للانتخابات وتشرف عليها، تحت سيطرته، أعلن في تصريح يُنذر بالأسوأ، خلال مقابلة له مع مجلة "جون أفريك" في شباط/فبراير الجاري، أنه سيُضطرّ إلى فرض السيطرة العسكرية الكاملة على البلاد، في حال لم تُسفر الانتخابات عن حلٍّ مُرضٍ.

مع تعثُّر خطة العمل على مختلف الجبهات، يواجه سلامة واقعاً يفرض عليه تغيير مقاربته من أجل تحقيق النجاح المرجو في ليبيا. من شأن الدعم من المجتمع الدولي أن يمنحه الوقت والموارد اللازمة لاستنباط طريقة بغية التصدّي للمصالح المتجذّرة التي تعرقل الإصلاح. قد يقتضي ذلك، مثلاً، إيجاد محاورين جدد يمكنهم إحداث تغيير، فعلى الرغم من أن السياسيين الحاليين يتمتعون بالسلطة الاسمية، إلا أن تأثيرهم وتفويضاتهم القانونية وسيطرتهم المؤسسية ضعيفة. بإمكان هؤلاء المحاورين أن يُقدّموا، من خلال سعيهم لإنجاز المصالحة الوطنية ووضع خطة عمل تنفيذية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، شيئاً ما يجتمع حوله شمل الليبيين، وأن يبدأوا بالحد من القيمة التي يرتديها الوضع القائم بالنسبة إلى عدد كبير من الأفرقاء السياسيين. فضلاً عن ذلك، يشعر الليبيون بإحباط متنامٍ وملموس من الوضع القائم، الأمر الذي يمكن استخدامه من أجل حشد الزخم وممارسة الضغوط على المؤسسات كي تؤدّي وظائفها بفاعلية أكبر. تعيين سلامة، ووجود مسودة دستور، والرغبة الشعبية في التغيير تشكّل مجتمعةً فرصة نادرة إنما غير مصقولة لوقف الانحدار الليبي في مرحلة ما بعد الثورة والذي يدفع بالبلاد في اتجاه التحوّل إلى دولة فاشلة ومصدر لعدم الاستقرار في المنطقة. إذا أُهدِرت هذه الفرصة، ليس واضحاً متى يمكن أن تلوح في الأفق الليبي فرصةٌ مماثلة أخرى.

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.

طارق المجريسي محلل سياسي ليبي وزميل زائر في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية. لمتابعته عبر تويتر: Tmegrisi@

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.