المصدر: Getty
مقال

تحدّيات صنع السياسات العامة في السعودية

يلتف تطبيق "رؤية المملكة 2030" على مؤسسات الدولة، ما يولّد أزمة في السياسات العامة ويتسبّب بمزيد من الإضعاف للمؤسسات الحكومية.

نشرت في ٢٢ مايو ٢٠١٩

في 17 آذار/مارس، أطلق وزير البيئة والمياه والزراعة السعودي عبد الرحمن الفضلي برنامج "قطرة"، وهو برنامج وطني جديد للحفاظ على المياه بغية ترشيد استهلاكها في السعودية التي تُعتبَر من البلدان الأكثر جفافاً في العالم وهي ثالث أكبر مستهلك للمياه للفرد الواحد. في الأسبوع التالي، أعلن مكتب الإدارة الاستراتيجية لرؤية 2030 إطلاق العديد من المشاريع الجديدة الكبرى في العاصمة لبناء مساحات خضراء، منها حديقة الملك سلمان ومشروع الرياض الخضراء. الهدف من المشروعَين هو تحويل قلب الرياض إلى الحديقة المدينية الأكبر في العالم. تبلغ كلفة مشروع الرياض الخضراء 23 مليار دولار، ويشتمل على حديقة مائية تمتد على مساحة 14 هكتاراً (35 أكراً) وقناة بطول 3.5 كليومترات (2.2 ميلَين). سوف تستهلك الحديقة المزمع إنشاؤها ما لا يقل عن ربع مليون متر مكعّب من المياه يومياً، ما يؤدّي إلى استنفاد كميات المياه التي يمكن ادّخارها بموجب برنامج "قطرة" في منطقة الرياض.1 تُبصر هذه المشاريع والبرامج المتعارِضة النور في معظم القطاعات الحكومية؛ وتُسلّط الضوء على سوء تنظيم عملية صنع السياسات في المملكة وعلى الحاجة الملحّة إلى تعزيز هذه الآلية.

صُمِّمت رؤية المملكة 2030 بهدف تحقيق الحوكمة الفاعلة والكفوءة، مع اقتصادٍ متنوّع ومزدهر منفتح على الاستثمار الطويل المدى. لكن وفي حين أن الرؤية نبيلة، يُثير تطبيقها تساؤلات عدّة. التحدّي الأساسي الأول المشترك بين هذه المشاريع الإنمائية المحلية هو أن الحكومة السعودية تتعاطى معها استناداً إلى تفكير إداري، وليس إلى مبادئ في السياسات العامة. في سياق الأعمال، تضع القيادة أولاً استراتيجيةً (خطة رفيعة المستوى)، ثم تضع الخطط والسياسات (القواعد) اللازمة لتطبيقها. وفي السياق الحكومي، "السياسات العامة" هي المبادئ الأعلى مستوى التي تُوجِّه الحوكمة والإدارة العامة، ثم توضَع استراتيجيات لتطبيقها.

للقيادة الحكومية السعودية استراتيجية متفاوتة (من اختصاص المستشارين الإداريين) في التعاطي مع السياسات العامة (التي هي من اختصاص موظّفي الخدمة المدنية). في الحكومة، الاستراتيجية هي عبارة عن خطة عمل ذات مخرجات ونتائج ومؤشّرات محدّدة مسبقاً. رؤية المملكة 2030 مليئة بالبنود عن إعادة الهيكلة الحكومية والخصخصة والتحوّل الوطني وما شابه. أما السياسات فهي مبادئ للعمل، إنها بمثابة دليل لاتخاذ القرارات وتحقيق النتائج. فعلى سبيل المثال، تقوم السياسة النفطية السعودية على الحفاظ على التوازن في أسواق النفط العالمية. تُملي هذه السياسة الموجِّهة الآلية التي ينبغي على السعودية اعتمادها لضبط الصادرات وتحديد الأسعار والاستثمار في المشاريع النفطية. استناداً إلى هذه السياسة، تصوغ السعودية استراتيجيات وتُطبّقها، على غرار تعزيز أنشطة المصب والمنبع من خلال "أرامكو" أو زيادة الوصول إلى الأسواق في آسيا. معظم ما يُنظَر إليه بأنه سياسة حكومية سعودية، باستثناء السياسة النفطية على الأرجح، هو في الواقع عبارة عن وثائق في الاستراتيجيات لا ترتكز إلى مبادئ سليمة في السياسات. تُعِدّ جهات استشارية أجنبية – غربية في معظمها – هذه الوثائق التي تضعها الحكومة السعودية في عهدة البيروقراطيات الوزارية لتطبيقها من أعلى الهرم إلى أسفله. 

من الأسباب التي تقف خلف غياب سياسات عامة واضحة ومتماسكة لتطبيق الاستراتيجيات، وجود شبكة معقّدة من التحديات البيروقراطية، بدءاً من المركزية الشديدة لعملية صناعة القرارات وصولاً إلى تداخل الاختصاصات والصلاحيات بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية. غالباً ما يجد الموظفون الحكوميون ذوو الرتب المتدنّية صعوبة في تحقيق الأهداف والنتائج، ويرفعون تقارير عن سير العمل إلى مكاتب إدارة المشاريع في وزاراتهم، وعلى هذه المكاتب أن ترفع بدورها تقارير عن تطبيق الاستراتيجية إلى فريق رؤية المملكة 2030 الملحَق بالديوان الملكي.

تُلقي القيادة السعودية بضغوط شديدة على هؤلاء الموظفين الحكوميين لإنجاز المشاريع ضمن مهلٍ زمنية ضاغطة. وهذه الإلحاحية تُحرّكها عوامل اقتصادية خارجية متعددة منها التقلبات في أسعار النفط، فضلاً عن العمليات الانتقالية السياسية أو إعادة التنظيم داخل النظام الملَكي. وهكذا تحوّلت صياغة السياسات، وهي آلية طويلة وبطيئة بطبيعتها – بدءًا من التحاليل المعمّقة للسياسات وإجراء استشارات وصولاً إلى تطوير أدوات سليمة في السياسات وبناء أطر عمل للتنسيق – إلى مجرد عصف ذهني يُستخدَم لتقديم وثائق استراتيجية أو صياغتها.

لقد باتت آلية صناعة السياسات مشابهة للإدارة الصغرى للأعمال – حتى إن مكتب الإدارة الاستراتيجية لرؤية 2030 شكّل "مركز الإنجاز والتدخل السريع" للتدخل عند الاقتضاء بهدف دعم التطبيق – عندما تمتنع البيروقراطيات والوزارات عن أداء هذه المهمة. فبدلاً من تسليم الموظفين الحكوميين سياسات محددة (مبادئ توجيهية واضحة عن صناعة القرارات)، يتوجّب على هؤلاء الموظفين، سواءً على المستوى المركزي أو المحلي، تحقيق نتائج محددة لا يعرفون الكثير عنها، والأهم من ذلك لا رأي لهم في بلورتها. على سبيل المثال، في حالة حديقة الملك سلمان ومشروع الرياض الخضراء، وبدلاً من قيام هيئة تطوير مدينة الرياض والمجلس البلدي بتصميم سياسة إنمائية مدينية وطنية واضحة وتنفيذها، التفّ مركز الإنجاز والتدخل السريع على هذين الجهازَين البيروقراطيين وعمدَ إلى إنشاء هيئات منفصلة وشبه مستقلة للإشراف على المشروعَين تحت مظلة رؤية 2030.

فضلاً عن ذلك، وفي حين يقوم المستشارون بوضع الاستراتيجيات، تتعاقد الحكومة معهم أيضاً لتولّي مهمة التنفيذ انطلاقاً من فرضية أنهم مطّلعون على الاستراتيجيات أكثر من سواهم. وهذا الالتفاف على موظفي الخدمة المدنية والتكنوقراط والمسؤولين الحكوميين المنتخَبين أو المعيّنين، لا يَحدّ وحسب من تطوّرهم المهني، إنما يُقوّض عملية بناء القدرات على نطاق أوسع لتعزيز الخبرات الوطنية في مجال السياسات العامة. إذا لم تتم المبادرة عاجلاً إلى معالجة هذه المسألة، فسوف يحول ذلك دون قدرة الحكومة السعودية على تحقيق الأهداف والتطلعات الواردة في رؤية 2030.

حتى الآلية التي اعتُمِدت لوضع الرؤية همّشت عملية صنع السياسات العامة. وبما أن المستشارين الاستراتيجيين أقحموا أربعة أنواع من الأهداف في السياسات – التوزيعي والتأسيسي والتنظيمي وإعادة التوزيع – أصبحت أجندة السياسات مثقَلة جداً بالأعباء وغير منسَّقة. على سبيل المثال، حاول برنامج الخصخصة السعودي، من دون أن يُفلح في ذلك إلى حد كبير، خصخصة الكيانات العامة في مرحلةٍ شهدت انهياراً في القيَم التخمينية بسبب الأزمة الاقتصادية. لم تنطلق خصخصة أي من المطارات التي نصّ نموذج الشراكات بين القطاعَين العام والخاص على خصخصتها في مدينتَي الرياض والطائف في العام 2017. ولا يزال مشروع الشراكات مجمَّداً، لا سيما بسبب غياب آلية السياسات، والاكتفاء بخطة للإنجاز.

بما أن المستشارين يشرفون على إعداد الاستراتيجية وتنفيذها على السواء، ونظراً إلى ارتفاع معدّل تبدّلهم بسبب المهل الزمنية القصيرة للمشاريع، تفتقر الوزارات إلى الذاكرة المؤسسية وتتعرض لمزيد من التهميش والإقصاء من الانخراط في السياسات العامة. هذا فضلاً عن ندرة البيروقراطيين المؤهَّلين أكاديمياً وذوي النوعية الفائقة الذين يستطيعون تنسيق السياسات في المدى الأبعد، وكثرة المستشارين الرفيعي المستوى الذين يقودون المشاريع الحكومية لكنهم يغادرون الوزارة عندما يتبدّل الوزير. على سبيل المثال، عندما أقال الملك وزير الاقتصاد والتخطيط عادل فقيه في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، غادر معظم المستشارين الوزارة أيضاً، ومنهم هاني خوجة، الشريك سابقاً في شركة "ماكنزي". وقد اضطُرّ الفريق الجديد بقيادة الوزير محمد التويجري إلى توظيف مزيد من الأشخاص، وفي بعض الحالات، البدء بالمشاريع من جديد.

يتطلب تعزيز آلية صناعة السياسات العامة في السعودية تمكين الكيانات الحكومية وغيرها من أصحاب الشأن، لا سيما الخدمة المدنية المهنية. يقتضي ذلك تطوير إمكاناتهم في تحليل السياسات وإعدادها، واستخدام موظفين حكوميين مؤهّلين ويتقاضون رواتب جيدة، وتأمين مشاركتهم وتمكينهم في إطار الآلية الكاملة لصناعة السياسات العامة – بدءاً من وضع الأجندة وصياغة السياسات وصولاً إلى اتخاذ القرارات بشأن تلك السياسات وتطبيقها وتقييم النتائج. من شأن ذلك أن يساهم في تعزيز الدور الطبيعي لوزارة الاقتصاد والتخطيط في صناعة السياسات المحلية.

ومن شأن السعودية أن تُفيد أيضاً من مأسسة لوبي السياسات العامة ودمقرطته، بما يُفسح في المجال أمام مشاركة مجموعات المصالح المختلفة في عملية التأثير في الحكومة. في الوقت الراهن، يقتصر لوبي السياسات العامة على الشركات الاستشارية المتخصصة في الاستراتيجية الإدارية وبعض الأفراد النافذين، وهم عادةً أفراد الأسرة المالكة أو وكلائهم في الأعمال، وبالتالي يفتقر قطاع اللوبي في السعودية إلى الشفافية إلى حد كبير، كما أنه شديد الإقصاء. يمكن أن يُشكّل قطاع اللوبي في الولايات المتحدة نموذجاً يُحتذى في هذا المجال. لقد أتقنت الحكومة السعودية العمل في قطاع اللوبي الأميركي، لكنها لم تطبّق النموذج نفسه للإفساح في المجال أمام المشاركة في عملية تحليل السياسات، والتشاور بشأنها، وتنسيقها داخل المملكة.

لن تساهم مأسسة لوبي السياسات العامة في السعودية، في ادّخار الأموال الحكومية وحسب (عبر خفض الإنفاق على الاستشارات التي تُقدّمها الشركات المتخصصة في الاستراتيجيات)، بل سوف تؤدّي أيضاً إلى استحداث وظائف جديدة، وتداوُل الأموال الاستشارية داخل الاقتصاد السعودي، وصقل الخيارات في السياسات، وتحسين تطبيق السياسات. ومن شأن دمقرطة اللوبي أن تتيح مجالاً أكبر أمام الرأي العام – وسائر أصحاب الشأن مثل المنظمات غير الحكومية، والمؤسسات الأكاديمية، والقطاع الخاص – للإدلاء بدلوهم في آلية السياسات. وهذا يُخفّف من وطأة الاعتقاد السائد لدى الرأي العام بأنه مقصيٌّ من السياسات العامة، بما يساهم في التخفيف من الضغوط السياسية على الحكومة.

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.

هادي فتح الله مدير منطقة المشرق ومجلس التعاون الخليجي في مجموعة NAMEA Group، زميل في معهد كورنيل للشؤون العامة في جامعة كورنيل، وعضو في مجموعة "المشكِّلين العالميين" (Global Shapers)، وهي مبادرة منبثقة عن المنتدى الاقتصادي العالمي. لمتابعته عبر تويتر Hadi_FAO@


1. استناداً إلى حسابات الكاتب المستندة إلى معيار استهلاك المياه في حديقة السلام في الرياض.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.