في 23 أكتوبر/ تشرين الأول، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب موافقة السودان على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، مؤكدًا رفع السودان من قائمة الولايات المتحدة للدول الراعية للإرهاب، الأمر الذي من شأنه أن يفتح شهية المستثمرين الدوليين للدخول برؤوس أموالهم إلى البلاد.
التطبيع بين السودان وإسرائيل يأتي بعد أسابيع من إعلان البيت الأبيض عن اتفاقات سلام بين الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين وإسرائيل تُمهد وتسمحُ لهذه البلدان بتطبيع العلاقات والمضي في تبادل السفراء وتدشين الرحلات الجوية المباشرة والتعاون في مختلف المجالات السياسية والإقتصادية والأمنية. وفيما تُرحب غالبية دول الخليج (باستثناء الكويت) ومصر والسودان بهذه الاتفاقات، تتبنى كلٌ من تركيا وإيران وغالبية القوى والفصائل الفلسطينية مواقف منددة وناقدة.
خلفيات قرار التطبيع
ولئن كانت بوادر وإشارات التطبيع بين القيادة السودانية الجديدة قد تزايدت بعد الإطاحة بنظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير، وفي مقدمتها لقاء 3 فبراير/شباط 2020 بين رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبدالفتاح البرهان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في العاصمة الأوغندية عنتيبي، إلا أن رسائلَ وإشاراتٍ عدة قد صدرت سابقًا عن قياداتٍ في حزب المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم في السودان 1989- 2019) تؤكد أن السودان لطالما كان ينظُر إلى خيار التطبيع مع إسرائيل باعتباره بوابة للخلاص من أزماته الداخلية والخارجية المُتراكمة، أهم هذه المواقف ما صرح به وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور لجريدة "آخر لحظة" السودانية في منتصف يناير/ كانون الثاني 2016 بأنّ بلاده يمكن أن تدرس مسألة التطبيع مع إسرائيل.
عانى السودان منذ عام 1993 من أزمة اقتصادية خانقة بعد إدراجه في قائمة الولايات المتحدة للدول الراعية للإرهاب وتوالي العقوبات الاقتصادية بُعيد استضافة الخرطوم لزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن الذي غادر البلاد عام 1996، ويتحمل السودان دينًا خارجيًا ثقيلًا بنحو 60 مليار دولار، ورغم الرفع الجزئي للعقوبات الأمريكية عام 2017 إلا أن بقاء السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، بالإضافة إلى ما يشهده السودان من اضطرابات سياسية وأمنية، لم يشجع المستثمرين الدوليين على الدخول إلى البلاد.
يشتبك قرار تطبيع العلاقات السودانية الإسرائيلية جذريًا بعدة ملفات خارجية، في مقدمتها انتخابات الرئاسة الأمريكية وصراع المحاور (الإماراتي السعودي) و(التركي القطري) في المنطقة، إلا أنه وداخل السودان تحديدًا، يُمثل فرصة سانحة للسودانيين لتجاوز عقود من الصعوبات الاقتصادية والعزلة الدولية الخانقة. دوليًا، يتيح قرار التطبيع مع إسرائيل للخرطوم، وللقيادة السياسية الراهنة، تموضعًا أفضل والتقدم بخطوات واثقة في ثلاثة محاور؛ في محور العلاقة مع واشنطن حيث يستثمر الرئيس دونالد ترامب هذه الاختراق الجديد في ملف الصراع العربي الإسرائيلي كدلالة على دبلوماسيته القادرة على صناعة السلام في منطقة الشرق الأوسط أولًا، وفي محور العلاقة مع المحور الإماراتي السعودي الذي يلعب دورًا مساندًا وراعيًا لمرحلة ما بعد الإطاحة بالرئيس البشير ثانيًا، وأخيرًا، في محور العلاقة مع إسرائيل التي سيكون لها أن تتشارك مع السودان في عدة ملفات اقتصادية بالغة الأهمية للبلدين.
السودان: الفرص والتحديات
سياسيًا، يُمثل قرار تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل رافعة سياسية لرئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان، للبقاء على رأس السلطة، على أن ذلك لا يعني أن طريق البرهان تبدو سالكة وممهدة وصولًا إلى الاستحقاق الرئاسي الذي ستشهده البلاد عام 2022، من المتوقع أن يكون لمراكز القوة التي يحتفظ بها رموز النظام السابق داخل الدولة والجيش، وكذلك لقوى إعلان الحرية والتغيير (شريك الحكم)، القدرة على إعادة الحسابات في أي لحظة، وبما يشمل فرض معادلات جديدة ومؤثرة على أرض الواقع.
وعلى أي حال، قرار التطبيع السوداني الإسرائيلي هو اختبار جهد صعب سيكشف مدى تماسك التوليفة السياسية (مجلس السيادة الانتقالي) في السودان والتي تُمثل اتفاق تقاسم السلطة بين الجيش والقوى المدنية في البلاد، خصوصًا وأنه سيفتح الباب أمام عدة سيناريوهات قد تلقي بظلالها على الترتيبات والاتفاقات السياسية السابقة. ما قد يجعل الأمور أكثر إيجابية للمراهنين على خيار التطبيع، هو أن المواقف الشعبية متباينة وتبدو أكثر ليونة وتطلعًا لنتائج الاتفاق. يقيم في اسرائيل نحو 7700 لاجئًا سودانيًا كما أن نتائج استطلاعات للرأي، من أهمها المؤشر العربي التابع للمركز العربي للأبحاث وتحليل السياسات، تُشير إلى أن نسب قابلية السودانيين لتطبيع العلاقات مع إسرائيل تعتبر من النسب الأعلى في العالم العربي، بل أنها تزيد عن النسب المُسجلة في مصر التي ترتبط بعلاقات دبلوماسية مع اسرائيل منذ عقود.
اقتصاديًا، يمثل الوصول إلى إنجاز حقيقي في مؤشرات النمو الاقتصادي وجلب الاستثمارات الدولية إلى البلاد تحديًا صعبًا في ظل جائحة كورونا وتباطؤ الاقتصاد الدولي ومشاكل جوهرية تتعلق ببنية الاقتصاد السوداني وتفشي الفساد، إلا أن دعمًا إماراتيًا وسعوديًا وأمريكيًا جديدًا لمالية الدولة من شأنه أن يُعزز قناعة السودانيين بجدوى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، تجدر الإشارة هنا إلى أن السعودية والإمارات قدمتا دعمًا للسودان يبلغ 3 مليارات دولار في أبريل/ نيسان 2019.
على الصعيد ذاته، من المتوقع أن يستفيد السودان من نفوذ اللوبي الإسرائيلي في واشنطن للدفع في ملفات سياسية واقتصادية ملحة، في مقدمتها مُساعدة الخرطوم على الخروج من عزلتها الدولية. بطبيعة الحال، هذا الدعم سيكون مرهونًا بمدى جدية السودان في إقامة علاقات وشراكات تضمن لتل أبيب مكاسب استراتيجية واقتصادية وازنة على الأرض، وفيما يتعلق بالملف الأمني الداخلي، يمثل هذا الملف تحديًا وهاجسًا واختبارًا دقيقًا لمجلس السيادة الانتقالي خلال الأشهر المقبلة، السودان الذي كان لسنوات موئلًا للجماعات الإسلامية الجهادية والمتطرقة قد يتعرض لتحديات خطيرة خصوصًا من جانب الخلايا النائمة التي قد يحرضها قرار تطبيع العلاقات بين الخرطوم وتل أبيب على الخروج والفاعلية من جديد.
في المحصلة، اتفاق السلام بين السودان وإسرائيل هو فرصة سانحة لخروج السودان من عزلته الدولية والبدء في اصلاحات سياسية واقتصادية في البلاد، يبقى أن معادلات الداخل المُعقدة، ولعبة المحاور الإقليمية والدولية، قد تؤثر على مسار العملية الديموقراطية والإصلاحية في البلاد، خصوصًا أنها عملية لا تزال "هشة" و"ركيكة".
الإطار الإسرائيلي والدولي للتطبيع
على الجانب الإسرائيلي، لا شك أن إبرام الاتفاق مع السودان هو إنجازٌ يُضاف لسلة انجازات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي يقود، في تحالف وثيق مع الرئيس دونالد ترامب والإمارات، جهدًا دوليًا لفرض واقع جديد لمنطقة الشرق الأوسط يتجاوز الصراع العربي الإسرائيلي، ويقوم على أولوية ضمان المصالح بين دول المنطقة والاصطفاف الفعال بقيادة واشنطن في مواجهة إيران وأذرعها المُنتشرة في المنطقة. اقتصاديًا، يمثل السودان فرصة استثمارية واعدة في القطاعين الزراعي والغذائي لتل أبيب، فضلًا عن أن سواحل السودان البحرية ستتيح للإسرائيليين في السنوات المقبلة فرصة للتواجد على البحر الأحمر، الذي يمثل أهمية استراتيجية لتل أبيب، لمزاحمة - وربما تعويض - تواجد تركيا في جزيرة سواكن التي لا يُعرَف مصيرُ اتفاقيتها مع السودان حتى اليوم.
جديرٌ بالملاحظة، أن تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل إلى جانب اتفاقات السلام مع كل من الإمارات والبحرين، هو اختراق وتطور سيلقي بتداعياته على المنطقة خلال الأعوام المقبلة. لتل أبيب اليوم علاقات مُعلنة ووثيقة مع دول الخليج بعد عقود من العلاقات السرّية، كما أن هذه الاتفاقات ستفتح شهية دول أخرى للانضمام، منها سلطنة عمان ودولة قطر، وكذلك السعودية التي لا تزال تتحفظ في الإعلان عن أي نوع من العلاقات رغم وجود إشارات تؤكد أن نشوء علاقات أو تفاهمات بين تل أبيب والرياض قد لا يكون بعيدًا.
في مستوى صراعات المحاور في المنطقة، يُعزز توقيع الاتفاق السوداني الإسرائيلي قوة المحور السعودي الإماراتي الذي يضم كل من مصر والبحرين، وهو المحور الراعي لمؤتمر صفقة القرن (خطة ترامب للسلام) الذي استضافت أعماله العاصمة البحرينية المنامة في يونيو/حزيران 2019. يضمن الاتفاق لهذا المحور علاقات استراتيجية مع تل أبيب وواشنطن وسيعزز من نفوذه في واشنطن بغض النظر عن نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية المقررة في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
من جهة أخرى، وبعد تعثُر المحور السعودي الإماراتي في حسم ملف حرب اليمن والصراع الدائر في ليبيا، يُضاف لذلك عجزهُ عن إحكام سيطرته على مسار ومخرجات العملية السياسية في تونس، يُؤمن إتفاق التطبيع السوداني الإسرائيلي دفعةً جديدةً لهذا المحور وتقدمًا في احتواء الخرطوم وضمها لمناطق نفوذهِ في مُواجهته المفتوحة مع المحورين؛ التركي القطري والإيراني، على أكثر من مستوى، وفي أكثر من ملف. رغم ذلك، يجب التنبه إلى أنه من المبكر فعلًا، رغم هذا التقدم، الذهاب والجزم بأن الرياض وأبوظبي قد استطاعتا فعلًا، وبشكل كامل، إنهاء نفوذ المحور التركي القطري في السودان والسيطرة على مسار العملية السياسية في البلاد ومُخرجاتها.
وإذا كانت طهران قد عبرت عن الاتفاق الإماراتي البحريني مع إسرائيل باعتباره تهديدًا لها ولحدودها على الخليج، وقاعدة قد ينطلق منها الإسرائيليون للإضرار بمصالح طهران وأمنها الاستراتيجي، سيكون المحور التركي القطري مشغولًا بصياغة إعادة تموضع جديدة في المنطقة، خصوصًا فيما يتعلق بضمان تواجده في البحر الأحمر، نفوذه الإقليمي والتأثير على مستوى شراكته الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، وهو ما يُحيل إلى أننا نقف أمام متغيرات جديدة، قريبًا.
يُمكن الذهاب إلى أن المحور التركي القطري قد لا يسمح للمحور الإماراتي السعودي، المناوئ له، بالتقدم عليه والذهاب بعيدًا في علاقاته مع واشنطن وتل أبيب. وهو ما يُشير إلى احتمال تدشين اتفاقية سلام قطرية إسرائيلية تُعزز من مستوى العلاقات والتفاهمات القائمة بين الدوحة وتل أبيب منذ عام 1996 من جهة، ولقطع الطريق على أي أفضلية "مفترضة" للرياض وأبوظبي من جهة أخرى.
من المتوقع أن تشهد المنطقة نشاطًا وتسابقًا دبلوماسيًا بين هذين المحورين خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، على أن محصلة الفهم لهذه المحاور تتفق على أن مد وتجذير العلاقات مع تل أبيب هو العامل الرئيسي والطريق الأقصر في الوصول إلى تفاهمات أوثق وأكثر صلابة وقوة مع واشنطن. جديرٌ بالذكر أن الدوحة كانت قد تفردت في اعتماد هذا التكتيك وتوظيفه سياسيًا منذ عام 1996، وقتئذ؛ استثمرت قطر فتح مكتب التمثيل التجاري الإسرائيلي على أراضيها في مواجهة تهديدات السعودية والإمارات والبحرين عقب محاولة الإنقلاب الفاشلة. وهو على أي حال، ذات التكتيك الذي يستخدمهُ المحور السعودي الإماراتي اليوم، ويراهن عليه.
لا يُنتظر من هذا الاتفاق في زاوية تماسه/ اشتباكه مع الأزمة الفلسطينية أن يحُثَ الأطراف الفلسطينية على الدخول في عملية السلام وفق الصيغة الأخيرة المُقدمة من واشنطن، مقارنة بالتأثيرات المباشرة والآنية التي ستنعكس، وبوضوح، على لعبة المحاور في الإقليم وصراعاتها فيه، وبما يشمل صياغة فهم جديد لقواعد الصراع والاشتباك في المنطقة، وترتيب الأولويات. يبقى أن نشير إلى أن نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية، بين دورة رئاسية ثانية للرئيس دونالد ترامب أو دخول المرشح الديموقراطي جو بايدن إلى البيت الأبيض، سيكون لها بالغ الأثر في تحديد طبيعة وتفضيلات واشنطن خلال السنوات المقبلة؛ وهو مُعامل سيسعى الجميع، دون استثناء، للتكيّف معه ومُجاراته.
عادل مرزوق رئيس تحرير "البيت الخليجي للدراسات والنشر" بالمملكة المتحدة. لمتابعته عبر تويتر @ADELMARZOOQ.