المصدر: Getty
مقال

البوكمال: الاستعداد الروسي-الإيراني لاستقبال بايدن في سوريا

مع قدوم إدارة بايدن، سعت روسيا وإيران إلى إحداث تغييرات في شكل وجودهما العسكري شرقي سوريا لإيصال رسائل لواشنطن وتل أبيب أن موسكو قادرة على ضبط الميليشيات الإيرانية، الأمر الذي يصب لمصلحة طهران التي تعاني قصفاً مستمراً على مواقع نفوذها في سوريا.

 تيم الحاج
نشرت في ٥ فبراير ٢٠٢١

شهد الشهران الأخيران من عام 2020، حراكاً عسكرياً روسياً ملفتاً في مدينة البوكمال شرقي سوريا، التي تعدّها طهران أكبر مكسب لها هناك، حيث تمثل المدينة التي تقع على بعد 130 كيلومتراً من مدينة دير الزور وثمانية كيلومترات من الحدود مع العراق، أهمية استراتيجية عسكرية واقتصادية لكل من سوريا والعراق وإيران، وتتجه الأنظار إليها لوقوعها على الطريق الذي تستخدمه الميليشيات الإيرانية للتحرك بين سوريا والعراق وإيصال إمدادتها العسكرية إلى الداخل السوري وحتى إلى حزب الله في لبنان قادمة من طهران، وهو النشاط الذي تسعى إسرائيل لوقفه، فهي ترى أن الوجود الإيراني في سوريا يقوّض جهود الحفاظ على الاستقرار في المنطقة، وتتهم النظام السوري بالسماح لإيران ووكلائها باستخدام المنشآت العسكرية والبنية التحتية بسوريا لترسيخ وجودها، ما يشكل خطراً على أمنها. ينسجم مسعى إسرائيل هذا مع رؤية الإدارة الأميركية الجديدة، إذ يعتبر الرئيس بايدن مواجهة وجود إيران ونفوذها في سوريا أولوية لدى إدارته، لأن طهران تساهم في زعزعة استقرار المنطقة بدعمها النظام في دمشق الذي يقمع شعبه بوحشية، وأيضا بضخّها الأسلحة في العراق ولبنان وسوريا.

أما إيران فهي ماضية في ترسيخ وجودها في سوريا على الرغم من تشديد الضربات على ميليشياتها من قبل إسرائيل، ووفق مصادر محلية فإن إيران تعزز نقاطها عسكرياً بعد كل قصف يستهدفها مما يعني أن ليس لديها نية بالخروج.

البوكمال.. شراكة استراتيجية روسية- إيرانية

شهدت المدينة الحدودية انتشاراً عسكرياً روسياً هو الأول من نوعه منذ انتزاع السيطرة عليها من يد تنظيم الدولة الإسلامية نهاية عام 2017، بعد معارك صاخبة قادها قائد الحرس الثوري الإيراني السابق، قاسم سليماني الذي قُتل بغارة أميركية في مطار بغداد مطلع عام 2020.

وتزامن هذا الانتشار الروسي الذي جاء محدوداً كماً ووقتاً، مع حراك لجنرالات روس في أرياف دير الزور عبر لقاءات مع وجهاء من عشائر المنطقة، حملت هذه اللقاءات رسالة واحدة هي أن روسيا قررت وقف الفوضى في تلك المنطقة، وعادت لتتسلم زمام الأمور، وفُهم من هذا الحراك أن المقصود هو الحد من التحكم الإيراني في تلك المنطقة والحد من تسلط ميليشياتها على سكانها.

 يقوّي الانتشار الروسي في البوكمال شبكات التواصل العسكرية بين طهران وموسكو عامة بسوريا، التي من وظائفها دعم استمرار النظام السوري، كما لهذا الانتشار دور كي لاتنزلق المنطقة نحو نزاع مع أميركا، التي تتحدث مصادر محلية عن وجود نية بسيطرة قوة تدعمها أميركا على البوكمال، وإذا ما نظرنا إلى بلدة الباغوز المطلة على البوكمال، والتي تمتلك فيها أميركا قاعدة بنتها مؤخراً، فيمكن أن تكون  قوات سوريا الديمقراطية (قسد) هي القوة المرجحة لفعل ذلك، خاصة وأن قائد المجلس العسكري لدير الزور، أحمد الخبيل، سبق وأن أبدى رغبته مع قواته التي قدّرها بـ 15 ألف مقاتل في طرد الميليشيات الإيرانية من دير الزور كلياً.

ومن هنا يرى المحلل السياسي الروسي أندريه أنتكوف1، أن البوكمال هي منطقة استراتيجية، ولا يستبعد أن يكون الاهتمام بها فقط عند الروس والإيرانيين، بل لدى الولايات المتحدة الأميركية، إذ يعتقد أن التواجد العسكري الروسي فيها وعند المعبر الحدودي بين العراق وسوريا يضمن التواصل والتبادل التجاري بين دمشق وبغداد ويُزيل الخطر بأن تصبح هذه المنطقة تحت سيطرة القوى المعادية للنظام السوري وروسيا وإيران. التواجد الروسي في البوكمال هو لمصلحة موسكو ودمشق وطهران، وفق أنتكوف، الذي يعتبر أن روسيا، عبر خطوة انتشارها هذه، تُعيق القدرات الأميركية في سوريا، حيث من المهم لروسيا أن تشكل كل الظروف لعرقلة كل التحركات الأميركية، والانتشار في البوكمال إحدى تلك العراقيل.

ينعكس النفوذ الإيراني في البوكمال من الصورة القائمة هناك، إذ يقود الحرس الثوري الإيراني فيها، منذ نهاية 2017، طيفاً متنوّعاً من الميليشيات التي تعمل على تحقيق أهدافه العسكرية في حماية منطقة نفوذه. وعبر تجنيد شبّان محليين في صفوف هذه الميليشيات، يلبّي الحرس حاجته العددية إلى مزيدٍ من المقاتلين، صانعاً أتباعاً يمكن دمجهم في تشكيلاتٍ محليةٍ أكبر وأصلب عوداً في المستقبل، تُجذّر النفوذ الإيراني في دير الزور، وتُشكّل بديلاً عن الميليشيات الأجنبية. فضلاً عن ذلك، تقدّم الأنشطة والأعمال المدنية التي يضطّلع بها المركز الثقافي الإيراني ومنظمة جهاد البناء على نحوٍ خاص، صورةً ودودةً لإيران تجاه المجتمعات المحلية، تحاول إيران من خلالها اكتساب شرعيةٍ وتقبّلٍ من هذه المجتمعات لأدوارها المختلفة. ولميليشيات إيران مقرات وحواجز على امتداد مساحة البوكمال التي تقدر بـ 6,807.01 كم²، وضمن هذه المساحة أنشأت إيران قاعدة الإمام علي الاستراتيجية التي طالما كانت هدفاً للصواريخ الإسرائيلية.

تمكنت روسيا، خلال شهري نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول من عام 2020، من إحداث اختراق في البوكمال عبر إرسال قواتها إلى هناك، وتجولت على الحدود مع العراق وفي مطار الحمدان العسكري، برفقة مستشارين من الحرس الثوري الإيراني، إذ جاءت هذه الجولة بعد ممانعة من قبل بعض حواجز الميليشيات قبل أن تأتيهم الأوامر بالسماح بدخول الروس. ويعطي مشهد مرافقة الإيرانيين للروس في البوكمال تصوراً عن الشراكة الاستراتيجية والمركبة بين إيران وروسيا في سوريا عموماً، وهذه الشراكة هي التي أفضت إلى دخول روسيا إلى أقصى الشرق السوري، وهذا الحدث يأتي بعكس ما يقال إن سوريا تحولت إلى ميدان صعب للتعاون بين روسيا وإيران، لأن روسيا وعبر انتشارها في مناطق النفوذ الإيراني، عكست فهماً كبيراً بين الطرفين، ومع ذلك فإن التفاعل الروسي- الإيراني يبقى تكتيكياً وليس بالضرورة أن يلتقي دوماً وفق مواقف سابقة جرت بينهما.

وفي هذا الشأن، يرى العميد الركن هشام جابر رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات2، أن روسيا تسعى منذ زمن لتكون هي ضابط الإيقاع الأول والوحيد على المسرح العسكري السوري، ولإيران مصلحة في أن تتعاون مع روسيا في البادية السورية والبوكمال والحدود العراقية- السورية، كي تأمن الغارات الإسرائيلية والأميركية، لكن ليس على حساب أن تتخلى عن السيطرة عن البوكمال ومعبر القائم الحدودي، أما مصلحة روسيا بالتواجد في الشرق السوري عند البوكمال فتنبع من الرغبة في التمدد أكثر في الجغرافية السورية على غرار تمددها في الجنوب السوري، وهي تعلم أن انتشارها لن يمنع الضربات الاسرائيلية لكنه سيحد منها.

رسالة إلى بايدن

ترك الدخول الروسي إلى البوكمال انطباعاً أن الهدف منه سياسي وليس عسكرياً. وذلك من خلال تفحص المواقع التي زارها المستشارون العسكريون الروس، واختيار مقاتلين محليين موالين لموسكو للتمركز في بعضها كـالفندق السياحي وسط المدينة الذي تنتشر به ميليشيا القاطرجي، وميليشيا لواء القدس التي استولت برفقة 20 جندياً من القوات الروسية في يوليو/ تموز 2020 على حقل الورد النفطي الواقع قرب بلدة الدوير في منتصف المسافة بين مدينتي البوكمال والميادين شرقي دير الزور.

يعتقد الخبير في العلاقات الدولية العراقي عمر عبد الستار3، أن المنطقة تستقبل جو بايدن، وعليه فإن روسيا وإيران تستقبلان بايدن أيضاً بمجموعة اتفاقات عبر تقاربات لم تكن في السابق بينهما، ويرى أن روسيا قد تكون تُحَضِر المنطقة لا تفاق يشبه اتفاق هلسنكي المبرم عام 1975، والذي دعا إلى خلق أسس للأمن والتعاون بين الدول الأوروبية.

ويقول عبد الستار في إمكانية التوصل لمثل هذا الاتفاق في منطقة الشرق الأوسط، إن بايدن يأتي وهو يريد أن ينفتح على إيران للعودة إلى الاتفاق النووي، وأن المنطقة اليوم مستعدة كي تكون فاعلا إقليميا مستعداً للجلوس بين إيران مع خمسة زائد واحد للاتفاق، وروسيا مستعدة للعودة للاتفاق النووي، وهو مايفسر بعض الشيء تحركاتها على الحدود بين سوريا والعراق وفي البوكمال، فهي مستعدة كي تكون الضابط لمجريات الصراع في الشرق الأوسط بين إيران والخليج، وبين إيران وإسرائيل.

العميد الركن خالد حمادة مدير المنتدى الإقليمي للاستشارات والدراسات4، يرى أن روسيا تدرك أن الإدارة الأميركية الجديدة قد تجري بعض التعديلات والتغييرات على صعيد السياسة الخارجية، وقد تكون سوريا إحدى هذه الساحات، ويعتقد أن روسيا تستطيع انتزاع موقع الشريك الأكبر في سوريا مع الولايات المتحدة الأميركية. ووجودها في البوكمال سيعطيها عمقاً استراتيجياً أكبر وسيكرس وجودها في منطقة ترتسم فيها عمليات نفوذ جديدة، وقد تستطيع روسيا إلزام طهران ببعض التنازلات بما لا يكسر الشراكة مع طهران وإنهاء وجودها.

أما العميد هشام جابر فيرى أن قرار إدارة بايدن بإبعاد الوجود الإيراني في سوريا يتوقف أولاً على معرفة ما إذا كانت هناك عودة للاتفاق النووي الإيراني مع مجموعة خمسة زائد واحد، متوقِعاً أن تدخل أميركا بهذا الاتفاق سواء أكان معدلاً أم غير معدل. ثانياً أن سياسة بايدن تجاه إسرائيل لن تتغير بشكل دراماتيكي فيما يخص الحد من الانتشار الإيراني، لكن هذا الدعم يمكن ترشيده أو إدارته، عبر اللجوء للدبلوماسية الهادئة وليس الارتجالية.

إسرائيل تراقب وتشدد ضرباتها

يبدو أن مساعي إيران لحماية ميليشياتها من القصف الإسرائيلي عبر إشراك الروس في مناطقها لم تؤت أُكلها، إذ تعرضت عدة مواقع للميليشيات الإيرانية منتصف يناير/ كانون الثاني 2021 لضربات جوية واسعة، وصفها القائد السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، عاموس يادلين، عبر سلسلة تغريدات على حسابه في تويتر، بـ "الاستثنائية". وعدّ هذا الهجوم دليلاً على أن إسرائيل مصممة على مواجهة القدرات العسكرية التي تبنيها إيران في العمق السوري، حتى في عهد الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن.

 أعلن الجيش الإسرائيلي في خطوة نادرة، في تقريره السنوي الأخير، أنه قصف خلال عام 2020 حوالي 50 هدفاً في سوريا، دون أن يقدم تفاصيل إضافية. وتعتبر إسرائيل أن هذا القصف أبطأ وتيرة ترسيخ الوجود الإيراني في سوريا، وسبق للمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي أن قال في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، غداة إعلان إسرائيل عن قصفها أهدافا عسكرية لفيلق القدس الإيراني وللجيش السوري في جنوب سوريا، إن إسرائيل "ستواصل التحرك وفق الحاجة لضرب التموضع الإيراني في سوريا الذي يشكل خطرا على الاستقرار الإقليمي".

وبالعودة إلى التحرك في البوكمال، استبعد العميد الركن خالد حمادة، أن تكون روسيا قد لعبت دوراً في حماية الميليشيات الإيرانية من الطائرات الإسرائيلية التي تجوب المنطقة وتقوم بضربات في العمق، تؤذي البنية التحتية الإيرانية، مدللاً على اعتقاده بالغارات التي جرت في دير الزور. ويرى أن اتفاق موسكو مع طهران في البوكمال يجعل الأخيرة تشعر ببعض الأمان لجهة الحد من خسائرها والاستمرار بنوع من التواجد المعنوي والسياسي وربما الميداني في الشرق السوري، متوقعاً استمرار القصف الإسرائيلي مع الإدارة الأميركية الجديدة وسيتم تحت عنوان أنه لا تراجع عن القصف، لأنه بات يستهدف المشروع النووي العسكري الإيراني الذي من المفترض أنه يقع ضمن الأولويات الأميركية والإسرائيلية وحتى العربية التي دخلت في مرحلة التطبيع مدفوعة بالخوف من تطور النفوذ الإيراني في المنطقة. مرجحاً أن تدفع إيران ثمن استظلالها بروسيا شرقي سوريا.

تيم الحاج، صحفي ومعد تحقيقات وملفات في العمق في الشأن السوري.

لمتابعته في تويتر :  @taim_alhajj


1 أجريت معه مقابلة بتاريخ 9 يناير/كانون الثاني 2021

2 أجريت معه مقابلة بتاريخ 12 يناير/كانون الثاني 2021

3 أجريت معه مقابلة بتاريخ 10 يناير /كانون الثاني 2021

4  أجريت معه مقابلة بتاريخ 12يناير/ كانون الثاني 2021

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.