تنشر صدى في هذه المناقشة ثلاثة مقالات تناقش الوضع الإنساني والسياسي في ظل الصراع المسلح بين الجيش و الدعم السريع، وتداعيات ذلك على مستقبل البلاد واحتمالات التدخلات الخارجية، ولاسيما من دول لعبت تاريخيا أدوارا بارزة في السودان مثل مصر.
في المقال الأول يجادل الكاتب السوداني يوسف بشير أن اختفاء مظاهر الدولة تمامًا منذ اليوم الأول يفاقم آثار الصراع على الأوضاع الإنسانية المترتبة على اندلاع الحرب التي يُرجح الكاتب أن تكون استنزافية طويلة الأمد، وذلك لامتلاك طرفي القتال كما هائلا من العتاد العسكري، ولعدم استعدادهما لإيقافها قبل أن تلحق بأحدهما خسائر لا يمكن يتحملها.
ويُرجح يوسف بشير أن تؤدي الحرب إلى فقدان ملايين الأشخاص في المناطق الحضرية أعمالهم ووظائفهم، ما يجعلهم في أعداد المحتاجين لمساعدات. وأشار إلى وجود عشرات الآلاف ممن فروا إلى المدن الآمنة. ويقول بشير إنه مع استمرار القتال سيرتفع عدد النازحين داخليًا لدرجة يصعب تقديرها الآن، وقد كانوا قبل الحرب 3.7 مليون شخص.
أما المقال الثاني في هذه المناقشة الخاصة بالسودان، فقد كتبته السودانية وئام الشريف التي تسرد تاريخ وأسباب اندلاع الصراع المسلح، موضحة أنه على الرغم من انخراط الجيش والدعم السريع في العملية السياسية، إلا أن تصريحاتهما الإعلامية كانت تَشي بوجود خلافات عميقة بينهما خاصة في الموقف من الاتفاق الإطاري، ظهرت بوضوح في تعزيز قواتهما في العاصمة الخرطوم خلال الفترة الماضية. وتبين وئام الشريف أن القوى المدنية المنخرطة في العملية السياسية تعتقد أن أنصار النظام السابق لعبوا دورًا في تأجيج هذه الخلافات، حيث يُشكل تسليم السلطة إلى المدنيين خطرًا على أنشطتهم التي عادت بعد انقلاب أكتوبر/ تشرين الأول.
من خلال سرد تاريخي للأحداث تقول وئام الشريف إنه كان متوقعا دخول الطرفين في قتال نظرًا لتضارب المصالح. تشدد الكاتبة أنه، الآن، وبعد اندلاع القتال في 15 أبريل/ نيسان الماضي، بات مهمًا إيقافه بسبب تكلفة الحرب الباهظة، وإن لم يحدث ذلك بسرعة فإن التدخل الإقليمي والدولي يكون ورادًا ما سيعقد النزاع.
أما جورجيو كافيير فيناقش في المقال الثالث من هذه المناقشة بشؤون السودان رهانات مصر العالية في السودان في ظل القتال الدائر بين القوتين العسكريتين. ويجادل كافييرو أنه على الرغم من المخاوف المصرية بشأن النزاع في السودان، فإن هذه الأزمة تتيح فرصة محتملة للرئيس المصر عبدالفتاح السيسي ليقدّم نفسه في موقع القائد المهم على الساحة الدولية. مشيرا إلى أن السيسي أعرب عن رغبته في الاضطلاع بدور الوساطة بعيد اندلاع الأزمة.
ويقول كافييرو إنه على الرغم من أن القاهرة قدّمت دعمًا راسخًا للبرهان واعتبرت أن قوات الدعم السريع تشكّل تهديدًا محدقًا، تَواصل المسؤولون المصريون مع حميدتي من خلال اجتماع عقده السيسي في القاهرة. وبناء على ذلك يرجح الكاتب أن واشنطن وموسكو وعواصم عربية سترى في السيسي قائدًا قادرًا على الاضطلاع بدور بنّاء لنزع فتيل التصعيد في النزاع بين أميرَي الحرب في السودان.
كيف يؤثر الصراع بين الجيش والدعم السريع على السودان؟
أدى النهب والقصف في الخرطوم والمدن الكبرى توقف إمداد الاحتياجات اليومية، ورفع أسعار السلع الغدائية إلى أضعاف مضاعفة، والمتوقع أن يقود هذا إلى ارتفاع معدل التضخم ودخول ملايين السُّكان في زمرة الجوعى.
يوسف بشير
ظهرت آثار الاشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع سريعًا في ولاية غرب دارفور، بتحول القتال بين القوتين إلى نزاع عرقي بين القبائل العربية والأفريقية كأخطر إضافة يُمكن أن تؤثر على أوضاع السودان المتأزمة أصلا على صُعدها السياسية والأمنية والاقتصادية.
اندلعت الاشتباكات في 15 أبريل/ نيسان الماضي، على خلفية خلافات القادة العسكريين على مسائل القيادة والسيطرة والمواقيت الزمنية لدمج الدعم السريع في الجيش التي نُوقشت في سياق عملية سياسية مدعومة دوليًا، غرضها تسليم السُّلطة إلى المدنيين وإجراء عسكري ينتهي بتكوين جيش وطني مهني نظامي، لكن خطوات الحل السياسي تعثرت عند ظهور تباينات عميقة بين طرفي القتال الحالي.
عملت القوى السياسية المنخرطة في العملية السياسية على منع نشوب الحرب، لكن انعدام الثقة بين القوتين، واعتراض القوى، التي ساعدت الجيش في تنفيذ انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، على كيفية إدارة عملية تسليم السُّلطة، ورفض أذرع النظام السابق للعملية عجل بوقوع الاشتباكات.
بعد اندلاع الحرب، زعم قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان "حميدتي"، أن قتاله الحالي يأتي من أجل انتقال البلاد إلى الديمقراطية، وهو موقف يتنافى مع مشاركته في الانقلاب، قبل أن يندم عليه لاحقًا ويقول إن وراءه عناصر النظام السابق الراغبين في السيطرة على السلطة من جديد؛ فيما يقول الجيش إنه يقمع تمردًا على الدولة، مُبديًا في ذات الوقت التزامه بالعملية السياسية.
زعمُ حميدتي بحماية الانتقال الديمقراطي والتزامُ الجيش بالعملية الديمقراطية زائفان، حيث إن الانتقال الديمقراطي يحتاج إلى حوار، وإغلاق بابه باستخدام القوة العسكرية يؤكد رغبتهما في الانفراد بالحكم. وبالنظر إلى أنه عادة ما تنتهي الحروب بالتفاوض، يُرجح أن تتفاوض القوتين، لكن سيكون محور المفاوضات وقف العدائيات وتبادل الأسرى والترتيبات الأمنية وإعادة تمركز القوات وتقاسم السُّلطة والنفوذ، ولن يكون موضوع التفاوض انتقال السلطة إلى القوى المدنية. وهذا يعني أن القوى السياسية والحركة الاحتجاجية السلمية ستظل متفرجة وليست فاعلة، حيث ستفقد تأثيرها القوي تدريجيًا بعد عسكرة الحياة العامة.
بدأت القوى المؤيدة للديمقراطية في تكوين ائتلاف جديد، يقول إعلانه الأول إنه يعمل على إيقاف الحرب وتوفير الاحتياجات الحياتية للسُّكان واستعادة الانتقال وإبعاد العسكر عن الحياة السياسية والاقتصادية، دون أن توضح هذه القوى كيفية تحقيق تلك الأهداف في ظل وضع يزداد هشاشة كل يوم، فقد انعدم الأمن تمامًا في الخرطوم وسادت عمليات النهب وتحول الاشتباك في ولاية غرب دارفور بين القوتين إلى نزاع عرقي دامٍ، ويُتوقع أن ينتقل إلى مناطق أخرى خاصة بعد نشر الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام مقاتلين لتأمين مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور، حيث إنه في حال حدوث أي احتكاك بينهما والمجتمعات المحلية يمكن أن تخرج فيها الأوضاع عن السيطرة في ظل انتشار خطاب الكراهية، ربما يتعدى إقليم دارفور إلى شرق السودان والنيل الأزرق.
علقت الأمم المتحدة أنشطتها الإنسانية التي تُقدم عبرها مساعدات إلى 12.5 مليون من أصل 15.5 مليون شخص في حاجة إليها، بينهم 8.5 مليون طفل. وهؤلاء الأطفال أكثر المتأثرين بالحرب، ومن ضمنهم نحو 50 ألف طفل يعانون من سوء التغذية الحاد الوخيم معرضون للموت لانقطاع العلاج، كما أن الانقطاع المتوالي في الكهرباء وشح الوقود يُمكن أن يتلف اللقاحات ما يعرضهم لأمراض مميتة.
ويُرجح أن تؤدي الحرب إلى فقدان ملايين الأشخاص في المناطق الحضرية أعمالهم ووظائفهم، ما يجعلهم في أعداد المحتاجين لمساعدات، يُضاف إليهم عشرات الآلاف الذين فروا إلى المدن الآمنة، ومع استمرار القتال سيرتفع عدد النازحين داخليًا لدرجة كبيرة يصعب تقديرها الآن، وقد كانوا قبل الحرب 3.7 مليون شخص.
ونظرًا لتركز مصانع الأدوية والمواد الغذائية وشركات الاستيراد الكبرى في الخرطوم، وتعرضها للنهب والقصف، فقد توقف إمداد الاحتياجات الحياتية اليومية تمامًا، مما رفع أسعار السلع الغدائية إلى أضعاف مضاعفة، وسيقود هذا إلى ارتفاع معدل التضخم ودخول ملايين السُّكان في زمرة الجوعى.
وكان الاقتصاد في السودان قبل الاشتباكات يُعاني من الركود وتباطؤ النمو. وبعد الحرب سيدخل السودان في انكماش على مدى طويل لتعطل عمل الصناعة التي تُساهم بـ 21 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، لكن التأثير الأكبر سيقع على الزراعة التي يعتمد قطاع كبير من السودانيين عليها في ظل شح الوقود وانعدام السماد، إذ يساهم هذا القطاع الزراعي بـ 32.7 في المئة من إجمالي الناتج المحلي.
يفاقم من هذه التأثيرات اختفاء مظاهر الدولة تمامًا منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب التي يُرجح أن تكون استنزافية طويلة الأمد، وذلك لامتلاك الطرفين كما هائلا من العتاد العسكري، ولعدم استعدادهما لإيقافها قبل أن تلحق بأحدهما خسائر لا يمكن يتحملها.
يوسف بشير، صحافي سوداني، لمتابعته على تويتر: @youseifbasher.
صراع نفوذ الجيش والدعم السريع يتحول إلى قتال مُهلك
أيقظ التباين، بشأن القيادة والسيطرة وسنوات دمج قوات الدعم السريع في الجيش، خلافات القوتين القديمة التي طالما سعى القادة العسكريون إلى إخفائها على الرغم من توتر العلاقات بينهما في الفترة الأخيرة.
وئام الشريف
ظهرت أولى بوادر خلافات قادة الجيش والدعم السريع، عندما غادر قائد الأخير محمد حمدان "حميدتي" العاصمة الخرطوم إلى دارفور في يونيو/ حزيران 2022، بذريعة إبرام مصالحات مع القبائل المتحاربة، لكنه عاد منها بعد إعلان قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان الموافقة على مشروع الدستور الانتقالي ليكون أساسًا لنقل السُّلطة إلى المدنيين.
وبالفعل، انخرط قائدي الجيش والدعم السريع في عملية سياسية مُيسرة إقليميًا ودوليًا، أسفرت عن توقيع اتفاق إطاري، تحدث عن تسليم الحكم إلى القوى المدنية بعد التوافق على قضايا شائكة من بينها الإصلاح الأمني والعسكري. نجحت أطراف العملية السلمية في التوافق على كل هذه القضايا في ورش عمل باستثناء ثلاثة بنود في الإصلاح الأمني والعسكري، وهو نجاح جعلهم متفائلين بتوقيع اتفاق نهائي وتشكيل حكومة مدنية بحلول 11 أبريل/ نيسان المنصرم.
قبل أن تتفجر الخلافات في ورشة الإصلاح الأمني والعسكري، وقّع قائدي الجيش والدعم السريع على رؤية لإصلاح هذا القطاع، تضمنت وضع آليات متدرجة للقيادة والسيطرة وصولا إلى الجيش المهني الواحد، تبدأ بتوحيد القيادة وتتبعها توحيد هيئة الأركان ثم قيادة المناطق والفرق تباعًا، على أن يحدث ذلك في فترة لا تتعدى الـ 10 أعوام.
تغيب قادة الجيش عن الجلسة الختامية لورشة الإصلاح، احتجاجًا على تجاهل مقترحاتهم الخاصة بدمج الدعم السريع في غضون عامين ووقف عمليات التجنيد وتعديل قانون الدعم السريع بإعادة المادة التي تنص على تبعيته للجيش، وهي مادة شطبها الجنرال عبد الفتاح البرهان بعد فترة وجيزة من سيطرته على مقاليد البلاد، ما جعل القوة شبه العسكرية مستقلة بصورة كبيرة عن الجيش.
أدت هذه الوضعية المستقلة إلى تعزيز طموح حميدتي في الانفراد بالسلطة دون أن يعلن ذلك، لكن كان هذا واضحا في تقربه من القوى المؤثرة في المجتمع السوداني سواء في الجماعات الأهلية أو القوى السياسية المطالبة بالديمقراطية؛ وهو طموح فطن له بعض قادة الجيش فنفذوا انقلابا عسكريا على حكومة الانتقال في 21 سبتمبر/ أيلول 2019، ورغم إحباط تحركهم العسكري إلا إنهم دافعوا عنه باستماتة في جلسات محاكمتهم.
رغم انخراط الجيش والدعم السريع في العملية السياسية، إلا أن تصريحاتهم الإعلامية كانت تَشي بوجود خلافات عميقة بينهما خاصة في الموقف من الاتفاق الإطاري، ظهرت بوضوح في تعزيز قواتهما في العاصمة الخرطوم خلال الفترة الماضية.
بينما كان قادة الجيش يلمحون بالتراجع عن الاتفاق الإطاري، ظل حميدتي مدافعًا عنه بصورة قوية، معبرًا عن ذلك في حديثه أن خلافه ليس مع الجيش وإنما مع المتمسكين بالسُّلطة. ورغم هذا الدفاع، إلا أن المتتبع لمسيرة حميدتي عسكريًا وسياسيًا، تشير إلى استعداده للتحالف مع الجميع في سبيل تثبيت طموحه وجعله أمرًا واقعًا. فقد ظل يُدافع عن الرئيس المعزول عمر البشير، وسرعان ما أبدى ترحيبًا حذرًا بالحركة الاحتجاجية، لينضم إلى جنرالات أطاحوا بالبشير مشكلين مجلسًا عسكريًا قاده البرهان الذي جعل حميدتي نائبًا له وانتقل الاثنان بذات الوضعية رئيس ونائب إلى مجلس السيادة الانتقالي بعد الاتفاق على تقاسم السلطة مع المدنيين، قبل أن يطيحوا بهم في انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021؛ ليصل إلى مرحلة الاتفاق الإطاري.
لا يمكن اختزال خلافات الجيش والدعم السريع في الموقف من الاتفاق الإطاري ومسائل القيادة والسيطرة والفترة الزمنية للاندماج، وإنما بما يعنيه ذلك فيما يتعلق بصورة رئيسة في نفوذ قادة القوتين، بجانب توسع قوات الدعم السريع في التجنيد والتسليح ونشاطه التجاري النامي بقوة وتأسيسه لعلاقات خارجية منفصلة.
كل هذا، جعل حميدتي أكبر مهدد للدولة ذاتها ناهيك عن الجيش. إضافة إلى ذلك، تعتقد القوى المدنية المنخرطة في العملية السياسية أن أنصار النظام السابق لعبوا دورًا في تأجيج هذه الخلافات، حيث يُشكل تسليم السلطة إلى المدنيين خطرًا على أنشطتهم التي عادت بعد انقلاب أكتوبر/ تشرين الأول.
وإزاء كل ذلك، كان متوقعا دخول الطرفين في قتال نظرًا لتضارب المصالح، وبعد اندلاعه في 15 أبريل/ نيسان الماضي، بات مهمًا إيقافه بسبب تكلفة الحرب الباهظة، وإن لم يحدث ذلك بسرعة فإن التدخل الإقليمي والدولي يكون ورادًا ما سيعقد النزاع وقد يطيل أمده.
وئام الشريف، طبيبة وكاتبة سودانية مهتمة بقضايا النزاعات.
رهانات مصر العالية في الأزمة السودانية
يظهر المسؤولون في القاهرة قلقا كبيرا من تداعيات الاضطرابات السياسية والعسكرية في السودان على المصالح الجيوسياسية والاقتصادية والأمنية لبلادهم.
جيورجيو كافييرو
فيما تعاني مصر من وطأة التضخم الشديد، وارتفاع أسعار المواد الغذائية، وأزمة الديون، وتدهور قيمة العملة، وغيرها من التحديات الكبرى، باتت الدولة التي يبلغ عدد سكانها 109 ملايين نسمة عرضة لخطر تمدد الاضطرابات في السودان إليها. وسط الأزمة المستمرة في السودان، استقبلت مصر العدد الأكبر من اللاجئين السودانيين، والذي بلغ نحو 50 ألف من أصل نحو 150 ألف سوداني لجأوا إلى البلدان المجاورة منذ الشهر الماضي. يمكن أن يتسبب استمرار النزاع السوداني بتفاقم المشكلات الداخلية الشديدة التي تعاني منها مصر.
تاريخيا، خضع السودان للتأثير المصري إلى حد كبير، حيث اعتبرته القاهرة بمثابة "فنائها الخلفي". وقد حافظ الجيشان التابعان للدولتين العربيتين على علاقات وطيدة. وفيما تنظر القيادة المصرية إلى جيشها الوطني بأنه الضامن للاستقرار الداخلي، تعتبر القاهرة أن الجيش الوطني السوداني هو أيضًا المؤسسة الأساسية في البلاد القادرة على بسط الأمن والنظام في الدولة المجاورة لمصر.
في عام 2019، أُسقِط الرئيس عمر البشير، الذي اعتبره الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي متسامحًا جدًا تجاه الإسلام السياسي ومقرّبًا جدًا من تركيا وقطر، على وقع ثورة شعبية ضد حكمه الديكتاتوري الذي استمر ثلاثين عامًا. وقد أتاح خلع البشير فرصة لمصر، وكذلك للإمارات العربية المتحدة والسعودية، من أجل كسب نفوذ أكبر في الخرطوم على حساب أنقرة والدوحة.
في آذار/مارس 2021، عمد الجيشان المصري والسوداني إلى توطيد التعاون بينهما من خلال إبرام اتفاق بشأن التدريب والأمن الحدودي. تبعًا للاتفاق، نفّذ الجيشان تدريبات مشتركة. وبعد سبعة أشهر، قاد الفريق أول عبد الفتاح البرهان الانقلاب ضد الجناح المدني في الحكومة الانتقالية السودانية. ونتيجةً لذلك، توطدت العلاقات بين القاهرة والخرطوم.
منذ اندلاع النزاع السوداني الشهر الفائت، فرضت مصر نفسها في موقع الجهة الفاعلة الخارجية المهيمنة التي تدعم البرهان في معركته ضد قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (الملقّب بحميدتي). في النزاعات في البلدان العربية، تعتبر مصر أنه يجب أن تحصل الجيوش الوطنية – لا مجموعات المرتزقة، أو الميليشيات، أو الجهات الفاعلة الأخرى غير الحكومية – على الدعم من الدول العربية. يفسّر هذا الأسلوب في التفكير إلى حد كبير دعم السيسي للنظام البعثي في دمشق والجيش العربي السوري على مدى الأزمة السورية. والموقف المصري من المسألة السودانية هو أن البرهان يتمتع بالشرعية، خلافًا لحميدتي. على الأرجح أن القاهرة ستستمر في النظر إلى حميدتي بأنه يشكّل تهديدًا، وستواصل التزامها بدعم الجيش الوطني السوداني.
تطرح الطبيعة غير المتوقعة للنزاع الداخلي السوداني أسئلة مهمة عن مستقبل الأمن المائي والغذائي في مصر. تكتسي قضية سد النهضة الأثيوبي الكبير أهمية كبيرة للقاهرة، إذ تعتبر الحكومة المصرية أن الوصول إلى مياه نهر النيل هو شريان حياة لمواطنيها. وبعد الاجتياح الروسي لأوكرانيا العام الماضي، ازدادت حاجة المصريين إلى المياه انطلاقًا من سعيهم إلى تنمية القطاع الزراعي في إطار الجهود التي يبذلونها للتعويض عن خسارتهم لواردات القمح من أوكرانيا.
على مر السنوات، تكاتفت مصر والسودان ضد أثيوبيا في النزاع على سد النهضة. وكان اصطفاف الخرطوم إلى جانب القاهرة في هذه القضية ذا أهمية بالغة لمصر. ولكن الأزمة السودانية قد تتسبب بإضعاف الموقف المصري. تسود مخاوف في القاهرة من أن مصر قد تخسر السودان كشريك في قضية سد النهضة، ما قد يؤدي إلى تراجع نفوذها.
على الرغم من المخاوف المصرية بشأن النزاع في السودان، تتيح هذه الأزمة فرصة محتملة أيضًا للسيسي كي يقدّم نفسه في موقع القائد المهم على الساحة الدولية. لقد أعرب رئيس الدولة المصرية عن رغبته في الاضطلاع بدور الوساطة بعيد اندلاع الأزمة. وعلى الرغم من أن القاهرة قدّمت دعمًا راسخًا للبرهان واعتبرت أن قوات الدعم السريع تشكّل تهديدًا محدقًا، تَواصل المسؤولون المصريون مع حميدتي من خلال اجتماع عقده السيسي بنفسه مع زعيم التنظيم شبه العسكري في القاهرة. غالب الظن أن واشنطن وموسكو وعواصم عربية مختلفة سترى في السيسي قائدًا قادرًا على الاضطلاع بدور بنّاء لنزع فتيل التصعيد في النزاع بين أميرَي الحرب في السودان، بما يؤدي في نهاية المطاف إلى تعزيز نفوذ القاهرة على الساحة الدولية. في 10 مايو ، التقى نائب وزير الخارجية المصري للشؤون الأفريقية حمدي سند لوزا المبعوث البريطاني الخاص إلى السودان روبرت فيرويذر، وسفير لندن في القاهرة غاريث بايلي لمناقشة الأزمة السودانية. كان موضوع النقاش في هذا اللقاء مركزا على التنفيذ السريع لوقف إطلاق نار فعال ودائم من أجل حماية المدنيين.
ولكن ثمة سيناريوهات محتملة حيث يفشل الزخم الدبلوماسي المصري في توليد نتائج إيجابية، وتخلص القاهرة إلى أن التدخل العسكري المباشر هو الخيار الحيوي الوحيد المتاح أمامها حفاظًا على مصالحها. إذا اشتدّ النزاع ونجح حميدتي في تحقيق انتصارات على البرهان بوتيرة متزايدة، فقد تتعرض مصر لضغوط من أجل شن عمل عسكري أحادي لدعم الجيش الوطني السوداني. بطبيعة الحال، من شأن هذا التدخل أن ينطوي على مخاطر جمّة ينبغي على صنّاع السياسات المصريين التوقف عندها بجدّية قبل الإقدام على أي خطوات جريئة من هذا القبيل.
جيورجيو كافييرو هو الرئيس التنفيذي ومؤسس الشركة الاستشارية Gulf State Analytics المتخصصة في المخاطر الجيوسياسية، ومقرّها واشنطن. لمتابعته عبر تويتر @GiorgioCafiero.