المصدر: Getty
مقال

تغير المناخ والنزاع والفساد: الفيضانات الكارثية في ليبيا

كان انهيار السدَّين في منطقة درنة كارثة من صنع الإنسان بقدر ما هو كارثة مناخية، ولكن المساءلة لن تطال جميع المسؤولين عمّا جرى.

 إنجي سعيد و باسم علي
نشرت في ٥ أكتوبر ٢٠٢٣

في ليل 10 أيلول/سبتمبر، بعدما تسببت العاصفة دانيال بتساقط أمطار غزيرة في المنطقة، انهار سدّان قرب مدينة درنة شرقي ليبيا. ففاضت المياه وغمر 30 مليون متر مكعّب من الماء أحياء بكاملها، ما ألحق أضرارًا فادحة بالبنى التحتية وأسفر عن مقتل أكثر من 11000 شخص. وبعد مرور أسبوع على العاصفة، لا يزال هناك أكثر من 10000 مفقود وتواجد 14 فريق إنقاذ في المدينة، منها 10 فرق أجنبية.

في هذا النقاش، تنشر "صدى" مقالَين يضعان المأساة في درنة في سياقها ويجريان تقييمًا للمرحلة المقبلة في البلاد التي تمزّقها الحرب. تعتبر إنجي سعيد أن النزاع الأهلي في ليبيا خلال العقد المنصرم جعل البلاد تعاني من الضعف الشديد في وجه تغير المناخ؛ وتسلّط الضوء بصورة خاصة على أن انهيار السدَّين في درنة هو من تداعيات الحصار الذي فُرِض لسنوات عدّة وتسبب بتدمير البنى التحتية في مختلف أنحاء المدينة. ويستشرف باسم علي المستقبل مشيرًا إلى أن التحقيق الذي أُطلِق أخيرًا بشأن انهيار السدَّين، بقيادة النائب العام الليبي، ستشوبه على الأرجح تدخّلات سياسية لضمان إفلات كبار المسؤولين من المحاسبة.

مأساة درنة: تتويج لسنوات من النزاع

فيما سيطرت الحالة الجيوسياسية على العناوين الرئيسة المتعلقة بليبيا، تسلّط الكارثة الأخيرة في درنة الضوء على الضعف المتزايد الذي تعاني منه البلاد إزاء تغيّر المناخ في إثر الحرب التي استمرت عقدًا من الزمن.

إنجي سعيد

تخطّ محنة درنة فصلًا مأسويًا إضافيًا في النزاع الذي تتوالى فصوله في ليبيا منذ عام 2011 والذي تسبب بتقسيم البلاد بين سلطتَين متخاصمتين تتنافسان على النفوذ والسيطرة على الموارد. لقد أدّت الحرب إلى تقويض مؤسسات الدولة، وإضعاف سيادة القانون، والأهم هو أنها تسببت بمعاناة الشعب الليبي. وعاثت خرابًا في الاقتصاد الليبي: ففي حين استحوذت المواد الهيدروكربونية تقليديًا على أكثر من 70 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي و90 في المئة من الإيرادات الحكومية، تأثّر الإنتاج النفطي والصادرات في البلاد بالنزاع المتقطّع. وعانت شركات القطاع الخاص، التي تُعَدّ شريكة أساسية في إعادة الإعمار والتنمية، من الإغلاق القسري أو تكبدت أضرارًا مادّية في منشآت الأعمال.

بحلول أواخر عام 2020، تخطّت التكلفة التراكمية لهذا النزاع المستمر 576 مليار دولار أميركي. أما الموارد التي كان يمكن استخدامها في التنمية والرعاية الصحية والتعليم وتحسين البنى التحتية فقد حُوِّلت إلى الإنفاق العسكري. وتسبب الانقسام السياسي بمزيد من التراجع في الاستثمارات في الطرق والخدمات العامة في البلاد، في حين اقتصر الإشراف التنظيمي على الإنشاءات الخاصة على الحد الأدنى. وقد أدّى هذا الدمار إلى تفاقم الضعف الذي تعاني منه البلاد إزاء الأحوال الجوية القاسية وشكّل عائقًا كبيرًا أمام قدرتها على الاستجابة للكوارث الطبيعية.

لقد ضربت العاصفة دانيال مدنًا أخرى، ولكن لم يكن أثرها كارثيًا بقدر الدمار الذي حلّ بمدينة درنة. بيد أن مأساة درنة كانت أيضًا من نتاج النزاع المسلّح على مدى سنوات. في عام 2014، فرضت الدولة الإسلامية سيطرتها على المدينة، ما أطلق مرحلة من الأعمال العدائية بين الجيش الوطني الليبي والمجموعات المتشددة، والتي استمرت إلى حين سيطرة الجيش الوطني الليبي على المدينة في عام 2019. وقد تسبب القتال الكثيف والحصار الذي استمر لمدة ثلاث سنوات في سقوط أعداد كبيرة من الضحايا، وعانت درنة من موجة نزوح كثيفة للمواطنين وتكبدت أضرارًا واسعة في البنى التحتية. وعلى الرغم من أن حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس خصصت تمويلًا بقيمة 335 مليون دولار أميركي في عام 2021 لإعادة تأهيل مدينتَي درنة وبنغازي، غرقت هذه الأموال في وحول الخلافات السياسية، ما شكّل عائقًا إضافيًا أمام جهود التعافي في المدينة، بما في ذلك صيانة السدود. وكان الخبراء قد أطلقوا سابقًا تحذيرات في هذا الصدد مشيرين إلى الحاجة الملحّة إلى صيانة السدود، ولكن لم تُتَّخذ الخطوات الملائمة في هذا الصدد منذ أكثر من عقدَين. ونتيجةً لذلك، بات سكّان درنة الذين يعانون أصلًا من الضعف والهشاشة، معرّضين أكثر للتداعيات فضلًا عن كونهم غير مستعدّين كما يجب لمواجهة الفيضانات الكارثية.

شكّل إيصال المساعدات إلى المدينة في خضم هذه الأزمات المتداخلة تحدّيًا استثنائيًا. فقد تسببت الفيضانات بتدمير الجسور، وجرفت أحياء بكاملها، وقُطِعت الطرقات المؤدّية إلى المدينة. وأدّى تعطّل وسائل الاتصال، وانقطاع التيار الكهربائي والأضرار في البنى التحتية إلى استفحال الصعوبات والمشقّات، ما عطّل عمل فرق البحث والإنقاذ وأعاق القدرة على إيصال المساعدات الإنسانية.

فتحت السلطات الليبية تحقيقًا في ملابسات انهيار السدَّين الذي فاقم تداعيات الفيضانات الكارثية، ولكن هذه الخطوة ليست كافية. ثمة حاجة ملحّة إلى إرساء سلام مستدام، ليس فقط من أجل الاستعداد للكارثة الطبيعية المقبلة، إنما أيضًا لرأب الندوب العميقة التي خلّفتها الاضطرابات على مدى أكثر من عقدٍ من الزمن. ويجب أن يبدأ ذلك بتسوية سياسية تقود إلى تشكيل حكومة مركزية تؤدّي وظائفها كما ينبغي، وهو شرط ضروري للحوكمة الفعّالة القادرة على رفع التحديات المتعددة الجوانب التي تواجهها البلاد. ففي غياب حلٍّ شامل للنزاع، غالب الظن أن العبء الإضافي الذي تسببت به الكارثة الإنسانية في درنة سيؤدّي إلى تفاقم انعدام الاستقرار مع ازدياد خطر تجدّد العنف.

إنجي سعيد زميلة زائرة في جامعة هارفرد. تركّز أبحاثها على النزاع وبناء السلام، والهيكليات المؤسسية والاقتصاد السياسي مع تركيز خاص على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

هل التحقيق في فيضانات درنة مصيره الفشل منذ البداية؟

غالب الظن أن التدخلات السياسية ستعطّل مسار التحقيق الذي أُعلِن عنه أخيرًا، وسوف يفلت كبار المسؤولين من الملاحقة القضائية في الكارثة التي تسبب بها الإنسان في ليبيا.

باسم علي

في 16 أيلول/سبتمبر، أعلن النائب العام الليبي في طرابلس، الصديق الصور، أن المدّعين العامين سيفتحون تحقيقًا في انهيار سدَّي درنة وأبو منصور خلال العاصفة دانيال. يعتبر ديوان المحاسبة الليبي أن الحكومات المتعاقبة لم تقم بأعمال الصيانة اللازمة في السدَّين خلال العقدَين المنصرمَين، حتى بعدما كشفت دراسة حكومية في عام 1998 عن وجود تصدّعات وتشققات في إنشاءاتهما. وقد توعّد الصور بتوجيه اتهامات جنائية إلى "جميع المسؤولين عن الأخطاء أو الإهمال"، وفي حين أن معطيات التحقيق المحددة لا تزال غير واضحة، غالب الظن أنها ستركّز على تخصيص أموال الصيانة وتستهدف المسؤولين في الحكومات السابقة أو المسؤولين المحليين في درنة. علاوةً على ذلك، من الواضح أن الصور يسعى، من خلال استقدامه محقّقين من مختلف أنحاء البلاد، إلى قطع الطريق على أي مزاعم بالتحيّز وضمان الشفافية في خضم الاستقطاب السياسي الحاد في ليبيا.

ولكن من غير المرجّح أن يقود التحقيق إلى محاسبة حقيقية لكبار المسؤولين التنفيذيين أو التشريعيين في ليبيا، نظرًا إلى أن القضاء وهيئات إنفاذ القوانين لا تزال تخضع لسيطرة الجهات الفاعلة السياسية النافذة. والصور نفسه الذي كان رئيسًا لدائرة التحقيقات في مكتب النائب العام منذ 2014 إلى 2021 عُيِّن في منصب النائب العام نتيجةً لاتفاق بين المجلس الأعلى للدولة في طرابلس ومجلس النواب في طبرق في نيسان/أبريل 2021. يُشار إلى أن مجلس النواب في طبرق هو حليفٌ لحكومة الاستقرار الوطني والجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر الذي يسيطر على شمالي ليبيا وشرقيها، بما في ذلك درنة.

بعد أيام من قيام حكومة الاستقرار الوطني بإقالة جميع أعضاء المجلس البلدي في درنة في 19 أيلول/سبتمبر، أعلن الصور أنه سيباشر إجراءات جنائية بحق 16 مسؤولًا سابقًا وحاليًا بينهم بيروقراطيون في إدارة الموارد المائية وإدارة السدود، بالإضافة إلى رئيس بلدية درنة. ولكن في حين أن الصور قد يتمكّن من التصويب على المسؤولين في المجالس والمؤسسات الحكومية المحلية ذوي الروابط الضعيفة مع النخب السياسية، فهو سيتجنّب اتخاذ أي إجراء قانوني بحق حكومة الاستقرار الوطني أو مجلس النواب في طبرق أو الجيش الوطني الليبي لتفادي تدهور الأوضاع السياسية والأمنية بعد النزاع. وهكذا سيتمكّن كبار المسؤولين السابقين والحاليين من الإفلات من الملاحقة القضائية عن مسؤوليتهم في الكارثة.

غالب الظن أن التحقيق الذي يقوده الصور سيتحوّل، خلال العام المقبل، إلى مصدر إضافي للتوتّر السياسي بين حكومة الاستقرار الوطني وحكومة الوحدة الوطنية المتحالفة مع المجلس الأعلى للدولة واللتين تتنافسان على الإمساك بزمام السلطة السياسية منذ شباط/فبراير 2022. في 19 أيلول/سبتمبر، دعا المجلس الأعلى للدولة إلى إشراك الجهات الفاعلة الدولية في التحقيق، لجملة دوافع منها إرغام الجيش الوطني الليبي على تقديم تفسير عن أسباب امتناعه عن تكليف متعاقدين جدد لصيانة السدَّين منذ فرض سيطرته على درنة في عام 2018 خلال الحرب الأهلية الليبية. ولكن إصرار طرابلس على الإشراف الدولي لا ينطلق من الحرص على محاسبة المسؤولين عن انهيار السدَّين، بل إن الدافع الأساسي وراءه هو ممارسة الضغوط على حكومة الاستقرار الوطني والجيش الوطني الليبي لتقديم تنازلات سياسية. تدرك حكومة الوحدة الوطنية محدوديات التحقيق، بما في ذلك عجز المحققين عن اقتياد شخصيات سياسية بارزة مناهضة لحكومة الوحدة الوطنية في شرقي ليبيا إلى المحاكمة، وغياب أي نيّة أو مؤشّر حتى الآن عن مشاركة الجهات الفاعلة الدولية في التحقيق.

نظّم سكّان درنة الذين فقدوا منازلهم أو أفرادًا من عائلاتهم أو الاثنَين معًا احتجاجات متفرّقة للمطالبة بالمساءلة عمّا جرى والدعوة إلى إعادة الإعمار، حتى إنهم أقدموا على إحراق منزل رئيس البلدية. ولكن هذه الاحتجاجات لن تؤثّر على الأرجح في نتائج التحقيق، فالجيش الوطني الليبي يُحكم قبضته على درنة، وعلى الرغم من أنه سمح للجمهور بالتعبير عن غضبه من خلال التظاهر، فهو يتمتع بالسلطة اللازمة لقمعه. والحال هو أنه أقدم، كما أفيد، على قطع الإنترنت وخطوط الهاتف وأمرَ الصحافيين بمغادرة درنة. ولكن بغض النظر عن هذه الإجراءات، قد لا تنجح تحقيقات النائب العام في تهدئة المواطنين الغاضبين إذا أفلت كبار المسؤولين من المحاسبة.

باسم علي طالب دكتوراه في العلوم السياسية في معهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة. يقوم بأبحاث لأطروحة الدكتوراه عن تسويات الحروب الأهلية في العديد من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومنها ليبيا.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.