مع دخول الهجوم العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة أسبوعه السادس، رداً على هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، لم يُظهِر أي علامة على التباطؤ. ومع تجاوز عدد القتلى الفلسطينيين حتى الآن 11 ألف قتيل، حاولت بعض دول الخليج العربية استخدام نفوذها الإقليمي والدولي لوضع حد للأعمال العدائية.
يوضح كريم التقي كيف برزت قطر بوصفها وسيطا حاسما بين إسرائيل وحماس، مستفيدة من علاقاتها القوية بحلفاء إسرائيل الغربيين وكذلك مع مسؤولي حماس. وبينما تحرص الدوحة على استغلال هذه الفرصة الدبلوماسية، فإن الوساطة لا تخلو من المخاطر، خاصة وأن الإمارة تحاول النأي بنفسها عن تهمة إيواء قادة الجماعات الإرهابية.
في 11 تشرين الثاني/نوفمبر، استضافت المملكة العربية السعودية عشرات الزعماء في قمة إسلامية عربية، حيث أصدروا بيانا مشتركا يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار ويتهمون إسرائيل بارتكاب جرائم حرب. ومع ذلك، في الوقت نفسه، تكشف هند الأنصاري أن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة من المحتمل أن تقوما بدور نشط للحد من المشاعر المؤيدة لفلسطين على وسائل التواصل الاجتماعي العربية، في حين يصل المؤثرون العرب المؤيدون لإسرائيل إلى جماهير جديدة في محاولة لتغيير الرأي العام.
رهانات قطر في الصراع بين إسرائيل وحماس
سعت قطر إلى الحفاظ على سمعتها كوسيط فعال، ولكن توسيع إسرائيل هجومها على غزة يقلص خيارات الإمارة.
كريم التقي
في الحرب الدائرة بين إسرائيل وحماس، وضعت قطر نفسها موضع الوسيط الأساسي. حتى الآن، قادت الإمارة الخليجية مفاوضات للإفراج عن العديد من الرهائن المحتجزين في غزة، وفي ضوء استمرار أسر ما يزيد عن 200 شخص وعرض حماس مبادلتهم بأكثر من 6000 فلسطيني في السجون الإسرائيلية، يبدو أن الدبلوماسية القطرية هي الرهان الأفضل للطرفَين من أجل نزع فتيل التصعيد. ونظرًا إلى أن خطر التصعيد الإقليمي لا يزال حقيقيًا وسط توسيع إسرائيل لهجومها الجوي والبري، قد تكون العملية التي تقودها الدوحة للتفاوض على الإفراج عن الرهائن وساطتها الأصعب والأهم، بل الأخطر لها أيضًا.
تدين الوساطة القطرية بجاذبيتها إلى شبكة العلاقات الإقليمية والعالمية غير المألوفة التي تتمتع بها الإمارة. فالدوحة تصطف إلى حد كبير في خط السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وتستضيف على أراضيها أكبر قاعدة جوية أميركية في المنطقة وتُصنَّف رسميًا، منذ عام 2022، بأنها "حليفة أساسية للولايات المتحدة من خارج الناتو". وفي الوقت نفسه، تستضيف مسؤولين كبارًا في حركة حماس، وتموّل حكومتهم في غزة بالتنسيق الكامل مع إسرائيل. قربها من حماس هو أعظم نقاط قوتها في التفاوض من أجل الإفراج عن الرهائن، ولكنه أيضًا أثقل نقاط ضعفها. فالوقع غير المسبوق للهجوم الذي شنّته حماس، مقرونًا بتصنيفها الواسع في الغرب "تنظيمًا إرهابيًا" شأنها في ذلك شأن تنظيم الدولة الإسلامية، تسبب، على أقل تقدير، بالإحراج لقطر. فقد طالبت مجموعة تضم 113 عضوًا من الكونغرس الأميركي ينتمون إلى الحزبَين، الرئيس جو بايدن بالضغط على قطر "لقطع جميع الروابط مع حماس". وبالمثل، أصرّت المنظمة الصهيونية الأميركية على وجوب ترحيل أولئك الذين "يوجّهون عمليات حماس الإرهابية انطلاقًا من قطر".
ربط قطر بحركة حماس يقوّض المساعي التي تبذلها الإمارة للنأي بنفسها عن الإرهاب الإسلامي. منذ الأزمة الخليجية (2017-2021) التي اتهمت الرياض وأبو ظبي خلالها الدوحة بدعم الإرهاب في مختلف أنحاء المنطقة، بذلت قطر جهودًا حثيثة، على صعيد الدبلوماسية، وممارسة الضغوط، وتجارة السلاح، والحملات الإعلامية، كي تقدّم نفسها في موقع الدولة الحليفة للولايات المتحدة والتي تتحلى بالمسؤولية في المعركة ضد الإرهاب. وقد خاضت الدوحة حوارات أمنية مع واشنطن؛ ووقّعت اتفاقات للتعاون في مكافحة الإرهاب؛ وقادت عملية غير مسبوقة للتأثير على صنّاع القرار في العاصمة الأميركية؛ وحتى إنها أقدمت على بث إعلانات ترويجية تلفزيونية. بعد هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، قد تكون سمعة قطر الدولية على المحك من جديد.
صحيح أن قطر لم تدن هجوم حماس، لأن ذلك كان ليكلّفها ثمنًا باهظًا في "الشارع العربي"، ولكن سفيرها لدى واشنطن رفض الزعم بأن بلاده تموّل حماس وتدعمها، واعترض على الادعاء بأن استضافة قادة حماس يعني "تأييد" الحركة. تذكّر هذه التصريحات بتأكيدات جماعات ضغط وظفتها قطر عام 2017 بأن الإمارة لا تموّل إلّا مشاريع مدنية وإنسانية في غزة. ولكن هذا المسعى الذي تبذله قطر للنأي بنفسها عن حماس ينطوي أيضًا على مخاطر. فقد أثنى مستشار الأمن القومي الإسرائيلي مثلًا على الإمارة معتبرًا أنها "طرف وصاحبة مصلحة أساسية"، وأن جهودها الدبلوماسية "بالغة الأهمية". لم يكن هذا الرأي موضع إجماع في إسرائيل، فقد بادر رئيس وزراء سابق فورًا إلى الرد بأن قطر هي "العدو بحد ذاته". ولكن المدح الإسرائيلي، أيًا يكن، هو كأس مسمومة، فيما تقوم إسرائيل بإبادة غزة وقتل الفلسطينيين. لا يزال بإمكان قطر التعويل على قناة الجزيرة لإثبات مناصرتها لفلسطين، إلا أن ذلك قد يزداد تعقيدًا إثر مواجهتها ضغوطًا أميركية للتخفيف من حدّة لهجتها في تغطية الحرب.
فيما تطفو تناقضات السياسة الخارجية القطرية على الواجهة، تجد الإمارة نفسها مضطرة إلى أن تثبت لحلفائها الغربيين قيمة علاقاتها بحماس. وهي الآن بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى قيادة مفاوضات ناجحة، علمًا بأن "محور المقاومة" الذي تقوده إيران سينظر بارتياح إلى هذه العملية إن حالت دون مزيد من التصعيد. ولكن نتائج الوساطة لا تتوقف فقط على نفوذ قطر لدى حماس إنما أيضًا على الخطوات الإسرائيلية. وفيما تصعّد تل أبيب هجومها في غزة، فتبتعد بذلك أكثر عن تسوية للإفراج عن الرهائن بالتفاوض، تبدو آفاق قطر قاتمة. وطالما أن إسرائيل تتمسك بهدفها المعلن بالقضاء على حماس، اعتقادًا منها أن هذا السيناريو ممكن، سيتعسر على قطر الاضطلاع بدور أساسي في تسوية إسرائيلية-فلسطينية بعد الحرب.
كريم التقي أستاذ مساعد في سياسة الشرق الأوسط في جامعة خرونينغن في هولندا. حائز على دكتوراه في السياسة والدراسات الدولية من جامعة كامبردج. لمتابعته عبر منصة "إكس":@karimeltaki.
صعود المؤثّرين العرب الصهاينة والحرب في غزة
على الرغم من همجية الحملة العسكرية في غزة، لا تزال بعض الشخصيات العربية تعبّر عن دعمها لإسرائيل، فيما تفرض حكومات عربية قيودًا على المنشورات المؤيّدة للفلسطينيين عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
هند الأنصاري
في 25 تشرين الأول/أكتوبر، أكد جاريد كوشنر، خلال فعاليات مبادرة مستقبل الاستثمار في الرياض، أن اتفاقات أبراهام تكتسي "أهمية أكثر من أي وقت مضى" في خضم الحرب الدائرة في غزة. وخلال الفعاليات نفسها، شدد بعض السياسيين العرب أيضًا على أهمية بناء الروابط الدبلوماسية. في حين أن الميل الفطري للإنسان قد يدفعه إلى اعتبار أن العدوان الإسرائيلي في حرب غزة يقضي على أي دعم تُبديه الشعوب العربية لاتفاقات أبراهام، فإن إلقاء نظرة على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأسابيع القليلة الماضية يكشف عن تباين غير تقليدي في الخطاب العام. ففي تناقض صارخ مع الوضع القائم قبل عام 2020، وفيما تُفرَض قيود على المحتوى المؤيّد لفلسطين، يبدي بعض المؤثّرين العرب على مواقع التواصل الاجتماعي دعمًا لا لبس فيه لإسرائيل.
منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، يردد هؤلاء المؤثّرون الشعارات المؤيدة لإسرائيل التي تُعتبَر شائعة في وسائل الإعلام الغربية. ومنهم لؤي الشريف، وهو مواطن سعودي يقول عن نفسه إنه صهيوني. في 11 تشرين الأول/أكتوبر، نشر الشريف مقطع فيديو على صفحته على موقع إنستغرام يخاطب فيه الإسرائيليين باللغة الإنكليزية مؤكّدًا: "اخترت الوقوف إلى جانب العالم المتمدّن، لا إلى جانب التطرف أو الإرهاب الذي تمثّله حماس". وفي أعقاب قصف المستشفى الأهلي، انتقد المؤثّر البحريني-البريطاني أمجد طه مَن "يوجّهون أصابع الاتهام إلى إسرائيل بدلًا من الإرهابيين في غزة". وبروز أمجد طه كشخصية مؤثّرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي مرتبط مباشرةً بآرائه عن إسرائيل؛ فقد ذاع صيته إثر مقابلة معه في عام 2020 أشاد فيها بالجنود الإسرائيليين ولقيت انتشارًا واسعًا، وهو يدأب في تغريداته على الترويج للدعاية المناهضة لحماس وإيران منذ اندلاع الحرب.
قد يكون المؤثّرون على غرار الشريف وطه بمثابة مقياس تستخدمه الحكومات العربية لتقييم ردود فعل الرأي العام على المشاعر الموالية لإسرائيل، وتكييف خطابها على هذا الأساس. وفي حين أن مواقف الدعم المطلق لإسرائيل التي يعبّر عنها الشريف وطه تؤدّي في الأغلب إلى نزع الشرعية عنهما في نظر معظم العرب، فإنها تتيح، بالنسبة إلى شريحة أصغر من متابعيهما العرب، فرصة للتأثير في التصورات عن إسرائيل في خضم الكارثة الحالية. لقد نشر الشريف لقطة لرسالة نصّية من متابع سعودي مجهول أثنى عليه "لنشره السلام والتسامح بين العرب واليهود" وقال إنه "يجب ألا يشعر بالإحباط بسبب رد الفعل العنيف".
ولكن في الآونة الأخيرة، وجد مؤثّرون ومستخدمون آخرون لمواقع التواصل الاجتماعي أنفسهم في مأزق غير معهود. ففي 31 تشرين الأول/أكتوبر، نشر الأستاذ والمعلّق السياسي الإماراتي عبد الخالق عبدالله، تغريدة قال فيها إن "الشعب يريد طرد السفير الإسرائيلي [في الإمارات]"، ليعود فيحذفها بعد فترة وجيزة. وفي السعودية، حذف نادي الهلال لكرة القدم صورة أحد لاعبيه مرتديًا كوفية فلسطينية بعد أقل من ساعة على نشرها على منصة "إكس". وبعدما اعترض العديد من المستخدمين على قرار الأهلي عادوا فنشروا لاحقًا اعتذارات مماثلة، ما يؤشّر إلى أن الحكومة ضغطت عليهم للقيام بذلك. على غرار صعود المؤثّرين العرب الداعمين لإسرائيل، فإن لجوء المؤثّرين العرب الداعمين لفلسطين إلى الرقابة الذاتية هو ظاهرة جديدة نسبيًا. ولكنها تندرج في إطار نموذج أوسع للمحاولات التي تقوم بها بعض الحكومات العربية لقمع المعارضين والتأثير في السردية عن إسرائيل في عصر جديد من التطبيع، بوسائل تشمل قيام مؤثّرين ومسؤولين إماراتيين بـ"نشر معلومات مضللة عبر مواقع التواصل الاجتماعي". ربما تعتقد الأنظمة العربية أن فرض قيود على المحتوى الداعم لفلسطين، فيما تواصل إسرائيل هجومها على غزة، قد يساعد على كبح الاضطرابات المدنية. ويساهم أيضًا في توليد وهم التوازن بين وجهات النظر المؤيدة لإسرائيل وتلك المؤيدة لفلسطين في مختلف أنحاء المنطقة، والذي تعتبره الحكومات استراتيجيًا في علاقاتها مع إسرائيل والغرب.
إن فرض قيود على المنشورات عن القضية الفلسطينية على مواقع التواصل الاجتماعي قد يعني أن التضامن مع الفلسطينيين هو شكل جديد من أشكال المعارضة في بعض الدول العربية. في الوقت نفسه، ومن خلال إتاحة مساحة للأصوات العربية الداعمة لإسرائيل عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لا توجّه الحكومات إشارات عن تبدّل موقفها من إسرائيل فحسب، بل تكشف أيضًا عن وجود وجهات نظر ناشئة حديثًا في أوساط الرأي العام العربي، حتى في خضم التنديد الواسع في مختلف أنحاء العالم العربي بسقوط الضحايا في غزة.
هند الأنصاري باحثة ومحللة للسياسات. يركّز عملها على التطورات الاجتماعية والتربوية في دول مجلس التعاون الخليجي والعالم الإسلامي الأوسع.