"في هذه الأيام كلنا إسرائيليون". هذا ما جاء على لسان وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك خلال زيارتها الأولى إلى إسرائيل بعد الهجوم الذي شنّته حماس في تشرين الأول/أكتوبر. يجسّد تصريحها منطق الدولة الملتزم بالدفاع عن أمن إسرائيل، أو ما يُعرَف بـStaatsräson، وهو حجر زاوية في السياسة الخارجية الألمانية، فهذا المنطق يعتبر أن أمن إسرائيل على ارتباط وثيق بالمصلحة القومية الألمانية – ويرى العديد من صنّاع القرار الألمان أنه نتيجة منطقية لمسؤولية ألمانيا عن المحرقة. وقد اكتفت بيربوك، التي أطلقت مواقف مؤيّدة لاعتماد سياسة خارجية نسوية عند تسلّمها منصبها، بتوجيه انتقادات عابرة للعمليات الإسرائيلية في قطاع غزة، وحضّت نتنياهو على "بذل المزيد من أجل حماية المدنيين". والحال أنه حتى مع الارتفاع الشديد في حصيلة القتلى الفلسطينيين، حظيت إسرائيل بدعم سياسي ومادّي غير مشروط من الأحزاب الحاكمة والمعارضة في ألمانيا: فقد ازدادت الموافقات على الصادرات الدفاعية إلى إسرائيل بمعدل عشرة أضعاف تقريبًا منذ عام 2022، وانضمت برلين إلى بلدان أخرى في تعليق التمويل لوكالة الأونروا، وحتى إنها تعهّدت بالتدخّل لصالح إسرائيل في القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية حيث تتّهم إسرائيل بارتكاب إبادة في غزة.
يعود الدعم الألماني لإسرائيل إلى السنوات التي أعقبت مباشرةً الحرب العالمية الثانية. فقد مهّدت التعويضات والدبلوماسية الطريق لعلاقات إيجابية بين إسرائيل وألمانيا وأتاحت لألمانيا الغربية أن تتخطّى الوضع الذي جعل منها دولة منبوذة. وفي الفترات الأخيرة، أصرّ السياسيون الألمان على تقديم دعم سياسي ومادّي مستمر لإسرائيل باعتباره واجبًا وطنيًّا، وهذا ما عبّرت عنه بصورة خاصة أنجيلا ميركل في عام 2008، حين أضفت طابعًا قانونيًّا على Staatsräson في خطاب أمام الكنيست الإسرائيلي. ولكن الحكومة الحالية ذهبت أبعد من ذلك: فمنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، دأب المستشار أولاف شولتز على تكرار أن "ألمانيا تقف بحزم إلى جانب إسرائيل"، في حين اقترح وزير العدل الاتحادي الألماني أن يُفرَض إعلان حق إسرائيل في الوجود شرطًا للحصول على الجنسية الألمانية، وتعرّض مناصرو حقوق الإنسان الفلسطيني لموجة قمع غير مسبوقة.
ألمانيا هي البلد الأوروبي الوحيد الذي يحاول باستمرار التعلّم من الفظائع التي ارتُكبت في ماضيه، ولكن من الواضح أن قادتها نسوا الدرس الأساسي للنزعة العالمية الإنسانية، وهذه مفارقة لم تغب عن ناميبيا التي أدانت بأقوى العبارات الدولة الألمانية التي أخضعتها سابقًا للحكم الاستعماري، وذلك على خلفية تدخّلها لدى محكمة العدل الدولية. ومن المفارقة أنه كان لسياسة Staatsräson أثرٌ سلبي أيضًا على اليهود أنفسهم الذين يشكّلون نحو ثلاثين في المئة من أولئك الذين ألغت المؤسسات الألمانية المموَّلة من الدولة التعامل معهم في السنوات الأخيرة بسبب تصريحات مزعومة مناهضة للسامية. في كانون الأول/ديسمبر، سحبت مؤسسة هاينريش بول، حسبما أُفيد، دعمها عن المشاركة في رعاية جائزة حنة أرندت للفكر السياسي التي مُنحت للصحافية ماشا غيسن، وذلك لأنها شبّهت غزة بالغيتوات اليهودية.
ولكن Staatsräson لم يكن مؤذيًا للفلسطينيين واليهود التقدميين فحسب، بل إنه تسبب أيضًا بتقويض شديد للمصداقية الألمانية على الساحة الدولية. ففي الأعوام الأخيرة، وفي خضم تصاعُد التيارات السلطوية في العالم، حاولت البلدان الغربية أن تقدّم نفسها على أنها آخر المعاقل المتبقّية للحرّية والديمقراطية. وقد تعهّد شولتز العام الماضي في مقال رأي نشرته مجلة Foreign Affairs بأن ألمانيا "ستفعل كل ما بوسعها" لتعزيز نظام دولي قائم على الديمقراطية والأمن والازدهار. وفي سياق الحرب الروسية-الأوكرانية، أكّد شولتز أمام البوندستاغ أن القضية الأساس هي "ما إذا كان مسموحًا للقوّة أن تسود على القانون... أو ما إذا كانت لدينا القدرة على إبقاء دعاة الحروب مثل بوتين تحت السيطرة". ولكن شولتز، ومن خلال حماية الحكومة الإسرائيلية من الانتقادات ودعم ما تقوم به من تدمير عشوائي لقطاع غزة، لم يلتزم بالأفكار التي اعتبرها ضرورية "للنجاح في ردم الفجوات الجيوسياسية في عصرنا".
بصرف النظر عن الدمار المعنوي والتداعيات الجيوسياسية، هذا الموقف خطير من الناحية الدبلوماسية: فالنصائح أو بيانات اللوم الصادرة عن ألمانيا سيُنظَر إليها بقدر أكبر من التشكيك، بما في ذلك من "دعاة الحرب أمثال بوتين". في الوقت الراهن، من غير المرجّح أن تتخلى ألمانيا عن Staatsräson – ولكن إذا كان القادة الألمان "جميعهم إسرائيليين"، فقد يجدون أنفسهم هم أيضًا منبوذين على الساحة العالمية.
لينا أوبرماير طالبة دكتوراه في السياسة الشرق أوسطية في جامعة إكستر وباحثة ناشئة لدى Global Perspectives.