بقدر ما كان انتصار "حماس" الكاسح في الانتخابات التشريعية الفلسطينية في 25 يناير نصرا للحركة الإسلامية، كان هزيمة ساحقة للجيل الأصغر من قادة "فتح" الذين كانوا يأملون أن تسهّل الانتخابات انتقالا للقيادة في "منظمة التحرير الفلسطينية" (م ت ف) التي طال أمدها في الحكم. فطالما كان الرئيس ياسر عرفات مهيمنا على "فتح"، لم يكن بوسع قادة الحرس الجديد الذين اكتسبوا مؤهلاتهم أثناء الانتفاضتين الأولى والثانية أن يحصلوا من النفوذ السياسي سوى على القدر الذي يسمح به عرفات. ولكي يخلخل الحرس الجديد هيكل سلطة عرفات، أيدوا لزمن طويل انتخابات داخلية كوسيلة لإظهار قوتهم في الشارع. ولم يحصل الحرس الجديد على مبتغاهم في صورة انتخابات تمهيدية تسبق الانتخابات التشريعية، إلا بعد وفاة عرفات.
وبدلا من أن تثبت الانتخابات التمهيدية شعبية الحرس الجديد وقدرتهم على قيادة الحزب إلى النصر في اقتراع وطني، كشفت عن الفوضى داخل "فتح". فقد تلكأت كل من اللجنة المركزية والمجلس الثوري، الهيئتين الحاكمتين في الحركة، في اتخاذ قرارات بشأن المسائل الأساسية، من قبيل من يكون له حق التصويت في الانتخابات التمهيدية وكيف تشكّل الانتخابات التمهيدية قائمة "فتح" الانتخابية. جمدت شهور من المماحكة الإعدادات الفنية إلى حد أن افتقرت معه مراكز الاقتراع قوائم سليمة للناخبين والعدد الصحيح لبطاقات الاقتراع عندما جرت الانتخابات التمهيدية فعلا في أواخر نوفمبر وأوائل ديسمبر 2005. ورغم أن أعضاء الحرس الجديد حصلوا على معظم المراكز الأولى، فقد طغى على انتصارهم عدم انضباط عملية الاقتراع والنتائج المطعون فيها ومزاعم التزوير. وأظهرت العملية للناخبين أنه برغم جهود الحرس الجديد، ظلّت "فتح" منظمة فاسدة مهتمة بالاحتفاظ بالسلطة أكثر من اهتمامها بفرض الإصلاح.
وحين لم يكن هناك بين الانتخابات التمهيدية والموعد النهائي لتسجيل المرشحين سوى أسبوعين، دخل الحرس الجديد والقديم في "فتح" صراعا حول تكوين قوائمهم الانتخابية. في البداية حاول الحرس القديم تجاهل نتائج الانتخابات الأولية وأن يضمنوا لأنفسهم مراكز المقدمة في قائمة "فتح" الوطنية، لكنهم أجبروا على التراجع بعد أن شكل الحرس الجديد قائمة موازية باسم "المستقبل". وبينما توصلت المجموعتان إلى تسوية وراء واجهة موحدة، خاض الأعضاء الساخطون الانتخابات كمستقلين في دوائر كثيرة، ما قسّم أصوات "فتح". وحتى داخل الحرس الجديد، كثيرا ما تغلّبت التنافسات الشخصية على المصالح المشتركة، وتنافس الحلفاء الطبيعيون ضد بعضهم في تعبئة الناخبين وفي الدعاية الانتخابية. لقد ظهر التباين واضحا بين "فتح" و ماكينة "حماس" الانتخابية المنضبطة والرشيقة.
وإذا كانت النخب داخل "فتح" منقسمة قبل الانتخابات، فقد أصبحت أكثر انقساما في أعقابها وما زال عليها أن تضع استراتيجية للتحرك إلى الأمام. وقد دعت أغلبية المجلس الثوري إلى تنشيط الإعداد للمؤتمر العام السادس لـ "فتح"، وهو اجتماع للمندوبين يقرر سياسات الحركة واتجاهها وقيادتها. وكانت "فتح" عقدت آخر مؤتمر من هذا النوع في 1989. مرة أخرى الحرس الجديد منقسم: فمثلا؛ القائد السجين مروان البرغوثي يحبذ تعجيل المؤتمر، بينما يعارضه أحمد حلِّس من غزة باعتباره محاولة من جانب مجموعة محدودة للاستيلاء على السلطة. ورغم أن المؤتمر يُعتبر من الناحية النظرية الطريق السليم لإعادة تحديد "فتح" وقيادتها، فإن الحرس الجديد يبدو غير قادر على التوحد لخدمة برنامجه ـ الذي يركّز على احتياجات الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة ـ ويقاوم أولويات الزعماء الفلسطينيين المقيمين في تونس ولبنان والأردن وغيرها.
التحدي الماثل أمام "فتح" هو أن تقرر إذا ما كانت ستنضم إلى حكومة تقودها "حماس" أو أن تنشئ معارضة، على نحو ما يحبذ معظم قادة فتح علنا الآن على الأقل. أما التحدي الأكبر فهو إعادة بناء ولاء جماهيريتها الهشّة، التي نظّمت مظاهرات ضخمة فور انتهاء الانتخابات مطالبة باستقالة لجنة "فتح" المركزية. لكي تتنافس "فتح" مع "حماس" بفعالية وتقود الحياة السياسية الفلسطينية مرة أخرى، سيكون عليها إيجاد آلية للتعامل مع النزاعات داخليا وأن تجد قادة أمناء محترمين يتمتعون بالشعبية. وتتوقف إمكانية أن يعيد الحرس الجديد لُحمتهم وأن يتعاملوا مع تلك التحديات على قدرتهم على حل التنافسات التنظيمية والشخصية التي ظهرت على نحو مؤلم أثناء العملية الانتخابية. إن بقاء الوطنية الفلسطينية العلمانية ذاته قد يتوقف على حدوث مثل هذا التحول.
بن فيشمان باحث ومساعد خاص في "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى". محمد ياغي محلل سياسي فلسطيني مقيم في رام الله، والمدير التنفيذي لـ "المركز الفلسطيني للاتصال الجماهيري" وكاتب عامود في "الأيام"، ومدير مشروع لدى"مؤسسة كونراد أديناور".