المصدر: Getty
مقال

الانتخابات في السودان ومخاض الولادة في الجنوب

تقترب انتخابات أبريل/نيسان بينما تتخبّط البلاد مع أسئلة حول الاستفتاء واستقلال الجنوب وترسيم الحدود، وقبل كل شيء، استقرار الدولة الجنوبية.

نشرت في ٣١ مارس ٢٠١٠

يقف السودان عند مفترق سياسي عشية الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والمحلية التي ستجرى في العاشر من أبريل/نيسان 2010. ومع اقتراب موعد الانتخابات، بدأت أحزاب المعارضة والحركة الشعبية لتحرير السودان تهدد بمقاطعة الإنتخابات بسبب مزاعم بالتزوير. وقد تضع هذه المقاطعة كل من الإنتخابات والاستفتاء حول استقلال الجنوب (المقرر عقده في يناير/كانون الثاني 2011) في حالة خطيرة من عدم اليقين.

ومع ذلك إنه من المرجح أن تتراجع الحركة الشعبية لتحرير السودان عن التهديد بالمقاطعة، وهذه الخطوة يمكن أن تقوض لها مصلحة أساسية في إجراء الاستفتاء على الاستقلال في وقته المحدد. وإذا كان الأمر كذلك، فللمرة الأولى منذ عقود، سيتوجّه مواطنو الدولة الأكبر في أفريقيا إلى صناديق الاقتراع. وفيما يُرجَّح أن يحتفظ الرئيس عمر البشير بالسلطة، قد يتطلب الأمر جولة ثانية من التصويت الحاسم للفوز بالغالبية المطلقة المطلوبة. وعلى الرغم من كل الشوائب التي تعاني منها الديمقراطية في السودان، من غير المرجّح أن تكون الانتخابات الجديدة شبيهة بتلك التي تحصل في غينيا الاستوائية حيث يصوّت 98.5 في المئة من الناخبين للرئيس المنتهية ولايته، ويعرف الجميع النتائج قبل أشهر من عملية الاقتراع. الرهانات عالية، وقد تحصل مفاجآت.
 

لكن في جوبا، عاصمة الجنوب، الانتخابات هي عملياً حدث من دون أهمية، وتُعتبَر مجرد إجراء شكلي على الطريق نحو الاستفتاء حول استقلال الجنوب في يناير/كانون الثاني 2011، والذي يعتبر أكثر أهمية بالنسبة إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان التي تتخذ من الجنوب مركزاً لها. فالانتخابات الوطنية هي مجرد جزء من اتفاق السلام الشامل الذي تم بوساطة أمريكية؛ آخر تنازل في الطريق نحو الاستفتاء.

المرشح الذي اختارته الحركة الشعبية لتحرير السودان للرئاسة هو انعكاس للامبالاتها. فبدلاً من تسمية قيادي حقيقي في الحزب يحظى بدعم كبير، رشّحت سياسياً شمالياً غير معروف يدعى ياسر أرمان. وربما كانت هذه المبادرة عبارة عن لفتة شاملة لكن حظوظ المرشح محدودة جداً. إلا أنه من المثير للاهتمام أن نرى إذا كان أرمان ومجموعة من المرشحين المعارضين المعروفين في الشمال سيستقطبون مايكفي من الأصوات لمنع الرئيس البشير من الفوز بغالبية مطلقة في الجولة الأولى، على الرغم من اللامبالاة في الجنوب وترهيب الناخبين المحتمل في أماكن أخرى.

لن تُقاطع النخب السياسية الجنوبية في الحركة الشعبية لتحرير السودان والأحزاب الأصغر الانتخابات الوطنية، لكنها ستركّز كل مواردها ومناوراتها السياسية على الفوز بالمقاعد التي تأمل هذه النخب في أن تقود إلى تشكيل حكومة دولة جنوبية مستقلة في أقل من عام. انتخابات الرئاسة والحاكميات في الجنوب والبرلمان الذي يتخذ من جوبا مقراً له، هامة للغاية في هذا السياق. المنطق السياسي واضح هنا؛ فبما أن الاستقلال هو فعل إيمان في جوبا، لماذا يزعجون أنفسهم بانتخابات لن تدوم مفاعيلها أكثر من عشرة أشهر، في الوقت الذي ستولد فيه دولتهم الخاصة التي يتوقون إليها منذ وقت طويل؟ لهذا السبب، عقد سالفا كير، رئيس حكومة جنوب السودان شبه المستقلة، العزم على الاحتفاظ بمنصبه في حين أُرسِل ياسر أرمان لتمثيل الطموحات الرئاسية الشكلية للحركة الشعبية لتحرير السودان في الخرطوم.

لكن، إذا ماكان الاستقلال يُعتبَر محتوماً في جوبا، فكيف يُنظَر إليه في الخرطوم؟ هل حزب المؤتمر الوطني الحاكم بزعامة البشير مستعد للتعايش مع جنوب مستقل يضم أكثر من ثلثَي الاحتياطي النفطي للبلاد؟ وماذا عن الأحزاب الشمالية الأكثر قومية أو مبلاً نحو الإسلامية التي قد تكتسب نفوذاً بعد الانفصال؟
 يعتبر عدد كبير من الخبراء في الشأن السوداني الذين يدقون ناقوس الخطر حول استقلال الجنوب منذ توقيع اتفاق السلام الشامل العام 2005، أن التعايش مستحيل، مايضع الشمال والجنوب في مسار تصادمي قد يؤدّي إلى تجدد الحرب الأهلية. ووفقا لهذه المدرسة الفكرية، سيضع حزب المؤتمر الوطني عوائق إجرائية ويستخدم ذرائع أخرى لإرجاء الاستفتاء إلى مالا نهاية، ماسيدفع بالحركة الشعبية لتحرير السودان إلى إعلان الاستقلال من جانب واحد. وهكذا سترى دولة جديدة النور، لكنها ستكون عُرضة إلى خطر هجوم وشيك من الشمال.

لكن هذا السيناريو ليس حتمياً البتة. فثمة أدلة بأن الخرطوم وبلداناً أساسية أخرى في المنطقة مثل مصر، ليست مستعدة وحسب للتعايش مع جنوب مستقل (ولو بحذر)، بل إن هذا ماتتوقّعه الآن توقعاً تاماً. لم يعد السؤال المطروح، هل ستولد دولة جديدة في الجنوب العام المقبل بل هل ستعيش بسلام مع جارتها وتكون دولة مستقلة قابلة للحياة، لامنطقة موضوعة تحت حماية المجتمع الدولي؟

صحيح أن السلام شرط مسبق كي تكون الدولة الجديدة قابلة للحياة، لكنه ليس ضمانة. فالدولة المئة والثالثة والتسعون في العالم (بحسب تصنيف الأمم المتحدة) التي لامنفذ لها إلى البحر وذات الحكم السيئ (حتى الآن) والغنية بالموارد والعرضة إلى لنزاعات، ستولد مع كل الخصائص التي نجدها عند الدول الأكثر هشاشة في العالم التي حدّدها عالم الاقتصاد في جامعة أكسفورد بول كولييه. ومع اعتماد الحكومة على النفط للحصول على 98 في المئة من عائداتها، وفي غياب شبه كامل للبنى التحتية خارج جوبا، من الواضح أنه سيكون على المانحين تحمّل أعباء معظم الفواتير التي قد تصل إلى بلايين الدولارات سنوياً للحؤول دون غرق الحكومة.

ومع ذلك، من غير المحتمل أن تتجدّد الحرب الأهلية السنة المقبلة، على الرغم من إنعدام الثقة بين الخرطوم وجوبا. لقد تعرّض اتفاق السلام الشامل إلى انتكاسات عديدة منذ العام 2005، لكنه لم ينهار، مُظهراً قدرته على الصمود تحت الضغوط. وعلى الرغم من ذهنية الربح والخسارة وسياسة حافة الهوية اللتين اتّسم بهما نطبيف الاتفاق طوال سنوات، قدّم الجانبان في اللحظات الحاسمة تنازلات صعبة لإبقاء الاتفاق حياً. فقد رأى الطرفان أن فوائد التقيّد بالاتفاق، ولو كانت مؤلمة في معظم الأحيان، تتفوق على تكاليف انهياره. وتريد حكومة البشير احكام قبضتها على السلطة وتطبيع العلاقات مع الغرب إن أمكن؛ أما بالنسبة إلى جوبا فلطالما كان الاستقلال هو المكافأة. هذه النتائج واضحة للعيان الآن، ولاتُقصي واحدة منها الأخرى.

غير أن النجاح يتطلّب جولة أخرى من التسويات، ولاسيما في ما يتعلق بعائدات النفط. سوف يكون من الضروري الإبقاء على شكل معيّن من تقاسم العائدات النفطية من أجل التخفيف من وطأة التداعيات الاقتصادية لانفصال الجنوب عن الخرطوم. ويتبيّن الآن أن جغرافيا النفط في السودان لاتخضع في تفكير أي من الجانبَين إلى لعبة الربح والخسارة، فالاحتياطي الرئيس موجود في الجنوب، في حين أن الأنابيب ومعامل التكرير موجودة في الشمال. وسوف يكون على جوبا والخرطوم أن تتعاونا تحقيقاً لفائدة الطرفَين. وسيسهّل هذا الواقع، إلى جانب الضغوط الدبلوماسية على حكومة جنوبية ترغب في الحصول على اعتراف دولي، التوصّل إلى تسوية تحافظ على تدفّق بعض العائدات النفطية إلى الخرطوم (إنما على الأرجح أقل من نسبة الخمسين في المئة التي تحصل عليها حالياً).

يجب أن تبدأ هذه المفاوضات جدياً الآن. فهي لاتستطيع الانتظار حتى يناير/كانون الثاني 2011، عندما تكون مرحلة الانتقال إلى الدولة الممتدة لستة أشهر قد انطلقت، مع كل الإجراءات التي تشملها من ترسيم للحدود إلى الحصول على الاعتراف الدبلوماسي. يجب أن تحصل الخرطوم على تطمينات بأن استقلال الجنوب لن يتم على حسابها، سواء على الصعيد الاقتصادي أو الدبلوماسي. وفي هذا الإطار، يتعيّن على الولايات المتحدة أن تؤدّي دوراً حساساً، ولو صعباً من الناحية السياسية، عبر اتّخاذ إجراءات ملموسة نحو نزع العقوبات وتطبيع العلاقات إذا تمتّعت الانتخابات بالصدقية نسبياً وحصل الاستفتاء في الموعد المحدد. ومن شأن هذه الجزرة الدبلوماسية الممدودة منذ سنوات أن تمنح الخرطوم محفّزات إضافية لقبول استقلال الجنوب.

لكن، حتى لو تحقّق هذا السيناريو السلمي نسبياً في الأشهر العشرة المقبلة، ليس واضحاً على الإطلاق بأن الجنوب المستقل حديثاً سيكون دولة قابلة للحياة تتمتّع بالاكتفاء الذاتي. ويخشى حلفاء جوبا الطبيعيون (بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وجيرانها في المنطقة مثل كينيا وأثيوبيا) أن يُصبح جنوب السودان الدولة العاجزة التالية في أفريقيا، ناهيك عن تحوّله مصدر إلهام للحركات الانفصالية في مختلف أنحاء القارة، بدءاً بمناطق أخرى في السودان مثل دارفور. فالتنافس على الموارد النادرة يؤلّب أصلاً المتّحدات والمجموعات العرقية بعضها على بعض، ما أدّى إلى تجاوز عدد الضحايا في الجنوب أعداد الذين سقطوا في دارفور العام الماضي. وبحلول يناير/كانون الثاني 2012، ربما لن تحذّر عناوين الصحف الرئيسة حول السودان من تجدّد الحرب بين الشمال والجنوب، بل من خيبة الأمل المتزايدة، والخصومات العرقية، والتململ داخل الجنوب نفسه.

فيليب دو بونتيه محلل لشؤون أفريقيا جنوب الصحراء في مجموعة "يوريجاغروب" (Eurasia Group).

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.