بدأ الشباب الموريتاني، مُستلهماً نجاح الانتفاضة في كل من تونس ومصر، بتنظيم احتجاجات في مطلع فبراير/شباط استمرّت حتى وقت كتابة هذا المقال، أملاً في حمل حكومة الرئيس محمد ولد عبد العزيز على تنفيذ إصلاحات سياسية واجتماعية. ومع أنه ليس واضحاً بعد ما إذا كانت هذه الجهود ستتكلّل بالنجاح، إلا أنها أدّت إلى صعود خطاب معارض جديد يرفض القبَلِيَة ويدعو إلى أن يكون للمجتمع المدني صوت أقوى في السياسة، ويركّز على العدالة الاجتماعية والولاء الوطني بدلاً من الولاءات الإتنية.
الاحتجاجات
استقطبت الحركة الاحتجاجية عدداً كبيراً من طلاّب الجامعات وشباب الطبقة الوسطى من مختلف أنحاء الطيف السياسي. وفي منتصف فبراير/شباط، أنشأت فروع شبابية تابعة لأحزاب المعارضة الأساسية في موريتانيا (ولاسيما تجمّع القوى الديمقراطية، واتّحاد قوى التقدّم، والتجمّع من أجل الديمقراطية والوحدة) وطلاّب ناشطون ومهنيّون شباب وسواهم عشرات المجموعات على موقع "فايسبوك" الإلكتروني للدعوة إلى تظاهرة حاشدة في ساحة بلوكات وسط العاصمة نواكشوط في 25 فبراير/شباط. فقد رأى المحتجّون في الساحة التي كانت تضمّ مباني بيعت إلى رجال أعمال مقرّبين من الرئيس وجرى تدميرها العام الماضي، رمزاً لفساد النظام ولجوئه إلى المحسوبيات.
تركّزت مطالب المعتصمين على الإصلاحات السياسية والسياسات الاجتماعية. وقد أيّد قادة الأحزاب السياسية مشاركة الأعضاء الشباب في التظاهرات، لكن المنظّمين تجنّبوا ربط الاحتجاجات مباشرةً بجداول أعمال حزبية معيّنة، وطلبوا من المسؤولين عن الأحزاب عدم الإيحاء بأنهم مقرّبون جداً من الحركة الاحتجاجية وعدم ادّعاء الفضل لأنفسهم.
استمرّت التظاهرات التي بدأت في 25 فبراير/شباط أياماً عدّة حاولت خلالها القوى الأمنية عرقلة المسيرات وقامت باعتقال متظاهرين. وكانت النتيجة التزام المنظّمين مواصلة احتجاجاتهم، وبدأت المسيرات باتّجاه ساحة البلوكات في الأول من مارس/آذار.
وقد وزّع المنظِّمون لائحة تتضمّن سبعة مطالب أساسية هي: (1) انسحاب الجيش من السياسة؛ (2) فصل أكثر وضوحاً للسلطات؛ (3) إنشاء وكالة وطنية لمكافحة العبودية؛ (4) إصلاحات دستورية تطال النظام الانتخابي؛ (5) إصلاح آليّة تتعلق بكشف المسؤولين عن أرصدتهم؛ (6) إصلاح إدارة الولايات ومنح رؤساء البلديات المنتخبين صلاحيات أكبر؛ و(7) إصلاح قانون الإعلام.
إنه لأمر لافت، ولو لم يكن مفاجئاً، أن تتمحور المطالب الأولى للمتظاهرين حول العلاقات المدنية-العسكرية، نظراً إلى تاريخ موريتانيا مع الانقلابات العسكرية. فقد شهدت البلاد انقلابَين في الأعوام العشرة الأخيرة؛ وقع الأوّل العام 2005 وأدّى إلى إطلاق أوّل عملية انتقال ديمقراطي في البلاد، أما الثاني فحصل العام 2008 وأسفر عن إطاحة الرئيس المنتخب ديمقراطياً سيدي ولد عبد العزيز الذي استُبدِل بالجنرال محمد ولد عبد العزيز الذي فاز العام 2009 في انتخابات رئاسية شكّكت المعارضة ومجموعات حقوق الإنسان العربية بمصداقيّتها، على الرغم من قبول المجتمع الدولي بهاعموماً. ويشتكي الناشطون من أن القوى الخارجية تزعم أن موريتانيا تخضع إلى حكومة مدنية مُنتخبة في حين أن الجيش هو من يسيطر في الواقع على السياسة ويقوِّض الحكم المدني.
حتى الآن استقطبت الاحتجاجات في شكل خاص أبناء الطبقة الوسطى في المدن. فقد قَبِل الجزء الأكبر من النخبة السياسية رئاسة محمد ولد عبد العزيز والدور المركزي للجيش في سياسة البلاد. واقع الحال أن عدداً كبيراً من المشاركين في الاحتجاجات الأخيرة بلغوا سنّ الرشد في الأعوام العشرة إلى الخمسة عشر الأخيرة التي انطبعت بسقوط ديكتاتورية معاوية ولد طايع العام 2005 بعد عشرين عاماً من الحكم، وذلك في انقلاب عسكري قطع قادته وعداً بإحلال الديمقراطية ونشر التنمية. ويرى الشباب في انقلاب 2008 خيانةً، ويتعزّز هذا الشعور أكثر فأكثر إزاء الانطباع بأن الرئيس الحالي فشل في كبح الفساد وتحسين ظروف المعيشة بعدما خاض حملته الانتخابية رافعاً شعار "رئيس الفقراء". وترسّخت هذه النظرة بعدما اتّخذ قراراً بإرجاء انتخابات مجلس الشيوخ التي كانت مقرّرة هذا العام إلى أجل غير مسمّى.
انقسامات في ائتلاف الشباب
تفاقمت الانقسامات بين أعضاء الائتلاف الشبابي في مارس/آذار بسبب التعصّب الحزبيّ والاتّهامات بأن قادة بعض الأحزاب يحاولون استغلال الحركة الشبابية. وتحرّكت مجموعة شبابية جديدة تضمّ بعضاً من القياديين في الحركة الشبابية السابقة، وأطلقت دعوة إلى التظاهر في 25 أبريل/نيسان، مستخدمة موقعَي "فايسبوك" و"تويتر" لتوزيع أشرطة فيديو يظهر فيها موريتانيون من أصول عربية وأفريقية سمراء. وقد عملوا على إطلاق خطاب يرفض الأيديولوجيا الحزبية، والقبلية، والتعصّب الإثني (ولاسيما بعدما تسبّبت نتائج انتخابات الهيئة الطالبية بعراك في جامعة نواكشوط).
وقد انتشرت مجموعات كثيرة عبر الفايسبوك تستعرض أهداف المسيرة، إلى جانب لائحة جديدة تضمّ ثمانية وعشرين مطلباً وشكوى. ووُزِّعت أيضاً رسائل نصّية قصيرة تتضمّن تفاصيل لوجستية. كانت الخطّة تقضي بالسير باتّجاه ساحة البلوكات واحتلالها. وقد وافقت الأحزاب المعارضة على تقديم المساعدة من خلال إحضار المياه والطعام إلى المتظاهرين عندما يحتلّون الساحة. وفي 25 أبريل/نيسان، توجّه 5000 شاب نحو ساحة البلوكات، فكانت الشرطة لهم بالمرصاد ومنعتهم من دخولها، وتعرّضت بالضرب لخمسة عشر شاباً واعتقلتهم، واستخدمت الغاز المسيّل للدموع لتفريق الحشود. وفي بلدة الزويرات شمال البلاد، أصيب متظاهر بطلق ناري في ساقه ونُقِل إلى المستشفى. وقد ركب الشبّان في السيارات وراحوا يطاردون الشرطة وهم يصرخون "حرّية! حرية!"
الآفاق
المشهد لايزال ضبابيا، ولايُعرَف ما إذا كانت الحركة الاحتجاجية ستحقّق مكاسب جدّية في الأشهر المقبلة. فالحركة الشبابية تواجه انقسامات داخلية مستترة من شأنها أن تجعلها عرضة إلى الاستيعاب من جانب النظام. وقد أعلن حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم الذي يسيطر على غالبية المقاعد في مجلس النواب عن خطط لتشكيل فرع شبابي في الحزب. كما أن الحركة الاحتجاجية ضيّقة نسبياً في تركيبتها، وأحد الأسباب هو تقنيّات الاتّصال التي تستعملها والتي لاتتيح مشاركة كبيرة من جانب أفراد الطبقات الدنيا الذين يُعتبَر دعمهم أساسياً لتنظيم تظاهرة حاشدة بكل معنى الكلمة في العاصمة. والتحدّي الآخر الذي يواجهه المتظاهرون هو توسيع شبكة المنظّمين والمحتجّين وتعميقها لتمتدّ إلى خارج المدن الكبرى وتتوغّل في البلدات المتوسّطة الحجم . علاوةً على ذلك، قد يتسبّب النجاح أيضاً بالمتاعب للحركة الاحتجاجية في موريتانيا.
في الوقت الراهن، من غير المرجّح أن ترفع الحكومة مستوى القمع الذي استخدمته حتى الآن ضدّ المحتجّين، ولاسيما أنها تخشى إثارة غضب شعبي ودولي عارم. وإذا توسّعت الانتفاضة، فقد تردّ الحكومة بقسوة أكبر. لكن الحكومة لم تعطي مؤشرات بأنها تنوي تقديم اي تنازلات للمتظاهرين الذين استمروا في الاحتجاج منذ آذار/مارس. وهي الآن في موقف دفاعي مع إنهاء الأحزاب الصغيرة تحالفها مع الحزب الحاكم. ولعل النتيجة الأهم للربيع العربي في موريتانيا هي موقف المنظّمين الشباب وسواهم من المتظاهرين الشباب في حرم الجامعات وفي مختلف أنحاء البلاد. فهذا الموقف يزداد جرأة وتحدّياً، ويُرجَّح أن يمارس تأثيراً كبيراً على مزاج السياسة وتوجّهاتها في الأشهر القليلة المقبلة.
خالد لووم هو كاتب ومحلل مستقل في مدينة بوسطن الأمريكية.