ما شهده الإعلام المحلي في البحرين منذ شباط/فبراير 2011، أثبت بما لايدع مجالاً للشك بأن حرية الصحافة والتعبير أو الممارسة المهنية للإعلام أصبحت جميعها محض خيال، وصارت التغطية الإعلامية تذكر بما كان يجري قبل عام 2001 عندما سيطر قانون أمن الدولة في هذه البلاد. وبالرغم من تبدل الخريطة الإعلامية بشكل شبه جذري، بحيث أصبح من غير الممكن "افتراضياً" سيطرة الإعلام الرسمي على المشهد الإعلامي، استطاعت السياسة التي تم اتباعها أن تخترق حاجز الزمن وأن تُرجِع الصحافة البحرينية عشر سنوات إلى الوراء في أقل من عام واحد. ففي هذا العام، هبطت البحرين في المؤشر الدولي لحرية الصحافة لمنظمة "مراسلون بلا حدود" 29 مرتبة لتحتل المرتبة 173، وانضمت بالتالي إلى صفوف البلدان العشرة الأكثر انغلاقاً وقمعاً في العالم، فيما وضعت كذلك ضمن قائمة "أعداء الإنترنت" (التي تضمّ 12 بلداً).
كذلك، تم انتقاد مضمون وخطاب وسائل الإعلام الرسمي من قبل تقرير لجنة تقصّي الحقائق الذي يُعرَف بـ"تقرير بسيوني"، والذي خلص إلى أن تلفزيون البحرين عرض مواداً تشتمل على "لغة مهينة وتغطية تحريضية للأحداث، وقد يكون بعضها انطوى على التشهير". وأثبت تقرير اللجنة "انحياز وسائل الإعلام البحرينية إلى السلطة في البحرين"، موصياً حكومة البحرين "بأن تتبنّى نهجاً أكثر مرونة في ممارستها الرقابة، وأن تتيح للمعارضة مجالاً أوسع في البث التلفزيوني والإذاعي ووسائل الإعلام المطبوعة". وهو مالم يتم تطبيقه حتى اليوم.
ومنذ العام الماضي، تحوّلت مجمل وسائل الإعلام في البحرين، وحتى تلك التي يفترض بها أن تكون وسائل إعلام خاصة، إلى وسيلة لنقل وجهة النظر الرسمية. فغالباً مايتجاهل التلفزيون والإذاعة الرسميان نقل أي أخبار أو تقارير عما يجري من تظاهرات لم تتوقف. وقد احتكرت السلطة الإعلام المرئي والمسموع من خلال عدم سماحها بمنح تراخيص قنوات أو إذاعات محلية خاصة. وتُعَدّ ست من الصحف اليومية السبعة صحفاً موالية للحكومة، وقد تناولت الأحداث التي تجري في البلاد على أنها أعمال إرهابية وتخريبية (وعلى رأسها صحيفة "الأيام" التي تتمتع بانتشار واسع، وصحيفة "أخبار الخليج" بنسختها العربية والإنكليزية، التابعة لرئيس الوزراء، وصحيفة "البلاد" وهي الأحدث في البحرين وتميل أيضاً إلى جناح رئيس الوزراء، إضافةً إلى صحيفة "الوطن" التي اشتهرت بعدائها الشديد لكل أطياف المعارضة من إسلاميين وليبراليين). وقد مارس هذا الإعلام، ولايزال، دوراً كبيراً في الشحن الطائفي وتحويل الصراع بين أطراف المعارضة والحكومة إلى صراع بين طائفتين. وصار من الملاحظ غياب الأخبار بمفهومها الكلاسيكي لأن غالبية الأخبار – حتى غير السياسية منها - تحمل بعداً يرتبط بالأزمة السياسية. وبذلك تحولت الصحف المحلية - باستثناء وحيد هو صحيفة "الوسط"- إلى نسخ موسّعة من نشرات الإعلام الرسمي.
أما صحيفة الوسط، الصحيفة المستقلة الوحيدة، فقد تعرّضت إلى هجوم شرس مادياً ومعنوياً، حتى تم توقيفها وتغيير طاقمها الإداري لأشهر عدة، وأُجبِر رئيس تحريرها منصور الجمري على الاستقالة في نيسان/أبريل من العام 2011، لكنه عاد بعد أشهر إلى منصبه في إدارة الصحيفة محاولاً السير في حقل من الألغام. ويدعو الجمري في أغلب مقالاته إلى المعالجة السياسية للأزمة وضرورة التعايش واحترام الطوائف المتعددة، وهو خطاب لاتتناوله محلياً إلا الوسط، في وقت لاتزال تركّز فيه صحف أخرى على مفاهيم التخوين والإقصاء. وتبقى الوسط الصحيفة المحلية الوحيدة التي تنقل، وإن بحذر واضح، مايحصل من أخبار المسيرات المعارضة واستهداف النشطاء وغيرها. ولعل مَن يقرأ الصحيفة اليوم يستطيع أن يكتشف أنها تحاول رفع السقف، لكنها لم تَعُد قادرة على طرح القضايا الحسّاسة التي تناولتها منذ نشأتها في 2002 بالطريقة نفسها (قضايا استملاك الأراضي من قبل أعضاء في العائلة الحاكمة وملفات الفساد والتجنيس السياسي). ومن الواضح أن التغيير الذي مرّت فيه الوسط انعكس بشكل مباشر على مستوى حرية التعبير في البحرين، إذ ساهمت الصحيفة في تعزيز المنافسة الصحافية، ودفع عجلة حرية التعبير التي دفعت باقي الصحف إلى التسابق في رفع سقوفها، أما اليوم فتبدو الصورة قاتمة.
انخفاض سقف الوسط الملحوظ أدّى إلى فقدانها نسبةً لابأس بها من جمهورها المُعارِض الذي انتقل إلى أحضان "الإعلام الجديد" الذي يتميّز بسهولة استخدامه، ومجانيته، وسرعته الفائقة في نقل الخبر، وانتشاره الواسع. وبيّنت دراسة أجرتها كلية دبي للإدارة الحكومية، بأن البحرين حازت على المركز الثالث (بعد الإمارات وإسرائيل) في نسبة مستخدمي موقع الفايسبوك في العام 2011. ولاتأتي هذه الدراسة بمفاجأة، فمَن يتابع مايجري في البحرين يعرف أن "جريدة الشعب" اليوم هي موقع تويتر للتواصل الاجتماعي، والتلفزيون والراديو التابعَين لها هما الفايسبوك واليوتيوب. ومن الملاحظ تضخّم أعداد أصحاب الحسابات على موقع تويتر من البحرين، الأمر الذي انعكس على أعداد ونسب المتابعين، فمثلاً فاق عدد متابعي الحقوقي البحريني المعروف، نبيل رجب، ربع إجمالي المواطنين البحرينيين (عدد متابعيه أكثر من 140 ألفاً) أغلبهم من البحرينيين. ناهيك عن العديد من الصفحات في وسائل الإعلام الاجتماعي التي لم تتوقّف عن نقل الأخبار عما يجري على الأرض أولاً بأول وتتبع غالبية تلك الصفحات الإخبارية المجموعات المتحركة على الأرض كمجموعة ١٤ فبراير.
غير أن طبيعة الصراع في البحرين كانت استثنائية بالمقارنة مع باقي الدول العربية التي شهدت احتجاجات في العام الماضي. فهنا لم يتم وقف الإنترنت كما حصل في مصر، ولم يتم حجب مواقع الفايسبوك كما حصل في ليبيا، لكن تم اتباع أسلوب أكثر ابتكاراً من خلال إثارة حرب إعلام اجتماعي تبدو من خلالها الصورة الحقيقية مشوشة للغاية. ففي مقابل كل حساب على تويتر أو صفحة على الفايسبوك تنقل أخباراً للمعارضة، تجد عشرات الحسابات أو الصفحات الأخرى التي تنقل صورة أخرى معاكسة تماماً. ولعل أبرز ماميَّز هذا الصراع في الإعلام الاجتماعي هو ظهور أعداد كبيرة "تقدّر بالمئات" من الحسابات الوهمية لأشخاص، بغرض الهجوم على شخصيات المعارضة واستهدافها، مما دفع الكثيرين إلي الاعتقاد بأن أشخاصاً كثراً تم توظيفهم فقط للقيام بهذه المهمة.
وفي ردّ فعل على ما اعتبرته الحكومة البحرينية تحاملاً دولياً إعلامياً ضدّها، قامت بتوظيف نحو 12 شركة علاقات عامة عالمية، أشهرها شركة كورفيس الأميركية للعلاقات العامة، كشركات متخصّصة للحفاظ على صورتها في المجتمع الدولي، وتُبيِّن سجلات تلك الشركات البحرين ضمن قائمة زبائنها. وتبدو الصورة التي تسوق لها شركات العلاقات العامة كالتالي: "ارتكبت الحكومة بعض الأخطاء بالفعل، لكنها تقوم بالتعديلات الآن والأمور مستقرة. والمعارضون ما هُم إلا مجموعات قليلة مُخرِّبة مدعومة من الخارج ضدّ الإصلاح".
وعلى الرغم من الحصار الداخلي في البحرين على وسائل الإعلام، وشركات العلاقات العامة وخطابها في الخارج، لاتزال قصة مايجري في الداخل البحريني تظهر بشكل أو بآخر، سواء من خلال وسائل إعلام بديلة طوّرتها المعارضة البحرينية، مثل موقع مرآة البحرين - وهو موقع إخباري يشرف عليه صحفيون بحرينيون في الخارج وينقل أخباراً وتقارير وتحليلات لما يجري في البحرين أولاً بأول - أو قناة اللؤلؤة، وهي قناة فضائية مملوكة للمعارضة البحرينية ترسل بثّها من مانشستر في المملكة المتحدة، إلا أن إرسالها محجوب في البحرين ويتابعها الكثيرون عبر الإنترنت.
ومع أن عدداً كبيراً من الصحافيين المحليين لم يعودوا يقومون بعملهم الطبيعي، حيث تعرّض الكثير من الصحافيين المحليين إلى الفصل من عملهم، فيما تعرّض آخرون إلى المحاكمات أو القبض والتوقيف والتعذيب، إلا أنه لايزال هناك عدد من المراسلين المحليين الذين لايزالون يعملون في الداخل، وهم يواجهون عثرة الوصول إلى مصادر المعلومات، إذ ينقل بعضهم أنهم لايُدعَون أحياناً حتى إلى المؤتمرات الصحافية التي تعقدها الجهات الرسمية. في هذا الوضع المضطرب، تحوّل العديد من نشطاء حقوق الإنسان والمحامين والأطباء إلى مخبرين صحافيين بسبب إطلاعهم أحياناً على بعض المعلومات التي لاتصل إلى الصحافة. وبدأ الصحافيون والمدوِّنون بالفعل التنسيق في مابينهم، خصوصاً بعد استهداف العديد منهم. وقد نتج عن ذلك تأسيس رابطة الصحافة البحرينية في تموز/يوليو 2011 التي تتّخذ من بريطانيا مقرّاً لها، فيما يتوزّع أعضائها حول العالم.
ومن الأمور اللافتة عدم وجود سياسة إعلامية موحدة حتى الآن لكل هذه الفئات المعارضة، إذ تمتلك كل جماعة من هذه الجماعات وسيلتها الإعلامية الخاصة ومتابعيها، لكن لايزال التناغم والتنسيق في مابينها مفقودين تقريباً. هذا الأمر يعكس غياب وحدة سياسية حقيقية بين أطراف المعارضة.
لقد انعكس واقع الصراع السياسي الدائر في البحرين بشكل مباشر وجلي على وسائل الإعلام المحلية، فلا نبالغ إن قلنا أن مايجري في البحرين اليوم هو حرب إعلامية حقيقية، ولعلّ ماسيحدّد مصير هذه الحرب هو خط سير الصراع. ويبدو أنه حتى مع الاعتراف بأن السلطة البحرينية ربحت الجولة من المعركة على الأرض، إلا أن الإعلام ليس بالضرورة في صالحها.