المصدر: Getty
مقال

مخاض الدستور في ليبيا

المحطة الأساسية المقبلة بالنسبة إلى الهيئة التشريعية الليبية هي أن تتمكّن لجنة الستّين من اكتساب الشرعية وحشد الإجماع

نشرت في ٢٥ أكتوبر ٢٠١٢

كشفت أعمال العنف الأخيرة التي وقعت خلال انتخابات المؤتمر الوطني العام الصيف الماضي في شرق ليبيا - ولاسيما في بنغازي - عن انقسامات سياسية عميقة وعدد من التهديدات الأمنية الخطيرة، فبدّدت بوادر الأمل التي ظهرت بعد النجاح الذي تكلّلت به تلك الانتخابات. فقد عمدت مجموعات مؤيّدة للتقسيم الفدرالي إلى حرق بعض صناديق الاقتراع خلال العملية الانتخابية ودعت الناخبين إلى مقاطعتها. ومنذ فوز تحالف القوى الوطنية (برئاسة محمود جبريل) بغالبية المقاعد في المؤتمر الوطني العام، تجاهلت وسائل الإعلام إلى حد كبير الاستقطاب السياسي المتزايد في ليبيا. وقد اندلعت التوتّرات بعدما أطلق الرئيس السابق للمجلس الوطني الانتقالي، مصطفى عبد الجليل، وعداً بأن لجنة الستّين - المسؤولة عن وضع مسوّدة الدستور - ستُنتخَب من الشعب بدلاً من تعيينها من المؤتمر الوطني العام. يطالب مؤيّدو الفدرالية المستاؤون من توزيع المقاعد في المؤتمر الوطني العام بتمثيل المنطقة الشرقية بأكثر من ستين نائباً في المؤتمر بالمقارنة مع منطقة طرابلس الغرب الممثَّلة بمئة مقعد، وفزان في الجنوب الممثَّلة بأربعين مقعداً. وتسعى هذه المجموعات إلى الحصول على تمثيل منصف في لجنة الستّين المكلّفة إعداد الدستور. فهي تطالب بانتخابات مباشرة بدلاً من تعيين اللجنة من قبل المؤتمر الوطني العام، وبأن تكون كل واحدة من المناطق الثلاث ممثَّلة بعشرين عضواً في اللجنة.

المحطة الأساسية المقبلة بالنسبة إلى الهيئة التشريعية الليبية هي أن تتمكّن لجنة الستّين من اكتساب الشرعية وحشد الإجماع، وذلك بما يتماشى مع المادّة 30 من الإعلان الدستوري الصادر في 3 آب/أغسطس 2011. اللجنة مستوحاة من النموذج الذي استُخدِم لوضع الدستور الليبي في العام 1951: فقد كانت المناطق الثلاث في ليبيا - برقة (الشرق) وطرابلس (الغرب) وفزان (الجنوب) - ممثَّلة بالتساوي في آلية إعداد الدستور. وسوف تكون منظومة الحكم في ليبيا من المسائل الأكثر خلافية، إذ إنه ستكون للخيار الذي سيتم اعتماده بين النظام الفدرالي أو النظام الوحدوي تداعيات طويلة الأمد على الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي والانسجام الاجتماعي. تشير الخلافات حول آليات اللجنة وصلاحياتها إلى الانقسامات العميقة والتاريخية التي تعاني منها ليبيا. بعد تشكُّل اللجنة، سوف تكون لديها مهلة ثلاثين يوماً فقط لإعداد مسوّدة الدستور ورفعها إلى المؤتمر الوطني العام الذي يتعيّن عليه تنظيم استفتاء في غضون ستين يوماً، وهي ليست بالمدّة الكافية لمعالجة الأولويات المتعلّقة بمستقبل ليبيا والاتّفاق على منظومة حكم ترضي الطرفَين. حالياً، تنتظر ليبيا تعيين حكومة جديدة، ولم يوافق المؤتمر الوطني العام بعد على آلية لاختيار لجنة الستين. لذلك، وتفادياً لوقوع مأزق سياسي، يجب المبادرة فوراً إلى اتّخاذ إجراءات للحوار والتوصّل إلى إجماع حول آلية اختيار اللجنة.

في الآونة الأخيرة، تكتسب الدعوات لإنشاء نظام يقوم على تقاسم السلطة زخماً في النقاش. بيد أنه ينبغي على المؤتمر الوطني العام ولجنة الستّين المرتقب تشكيلها الشروع في حوار وطني فعلي يؤدّي إلى تحديد الآليات التي تتيح المشاركة في عملية صنع القرارات التي يجب ألا تقتصر فقط على الإجماع بين أفراد النخبة. قد يبدو تقاسم السلطة مجدياً في البداية، لكنه يولّد منظومة هشّة عرضة للتعطيل والشلل الداخلي. فالاستفتاء وحده، كما ورد في المادّة 30 من الإعلان الدستوري الصادر في آب/أغسطس 2011، ليس كافياً لضمان الشرعية. يجري اعتماد المحاصصة المناطقية والقبلية والإتنية في النقاشات الحالية لتشكيل حكومة جديدة، وسيستمرّ الأمر على هذا النحو طالما أن مؤسّسات الحكم الفعلية لاتزال ضعيفة جداً. لكن الأقليات - مثل الأمازيغ والطوارق (وكلاهما من البربر) والتبو - تُستبعَد من المعادلة. فالاحتجاجات التي شهدتها مدينة طرابلس في آب/أغسطس وسبتمبر/أيلول للمطالبة بتمثيل الأقلّيات لم تحظَ بتغطية كافية من وسائل الإعلام المحلية والدولية. يبدو الأمازيغ أفضل تنظيماً من الأقليات الأخرى، إذ يحاول الناشطون في مجال حقوق الإنسان، والمنظمات غير الحكومية، والمثقّفون تنسيق جهودهم والمطالبة بالحصول على تمثيل في المنظومة الجديدة. إلا أن النقاش يبقى بعيداً جداً عن التطرّق إلى مختلف المسائل المطروحة إذ تطغى عليه العوامل المناطقية المنقسِمة بين مؤيّدين لوحدة ليبيا ومطالبين بمنظومة فدرالية، والتي تحجب على مايبدو قضايا الأقليات. 

كشفت سلسلة من ورش العمل التي أجريت بين تموز/يوليو 2011 وآذار/مارس 2012 حول المواطنية والمشاركة الديمقراطية، وشارك فيها نحو 800 ليبي لمناقشة النتائج المتوخّاة من عملية كتابة الدستور، أن منظومة الحكم في ليبيا هي من الأولويات والمواضيع الأكثر إثارة للجدل. وفي حين أظهرت ورش العمل أن المشاركين يوافقون على العناوين العريضة - الولوج إلى الخدمات الاجتماعية والصحية، وتوفير فرص العمل، وتوزيع الموارد الطبيعية، واللامركزية، والتنمية المحلية، والمساءلة - لاتزال التشنّجات الكامنة بين المجموعات، ولاسيما بين طرابلس وبنغازي - واضحة للعيان. وتتجسّد في شكل خاص في الشعور بالخوف، ولاسيما في المنطقة الشرقية، من عدم الحصول على التمثيل الكافي في ظل نظام وحدوي.

إلى جانب التوتّر الاجتماعي وغياب الثقة، للاستقطاب السياسي جذور اقتصادية أخرى أيضاً. يولّد توزيع الموارد الطبيعية (لاسيما الإيرادات النفطية) تداعيات مهمّة كثيرة بالنسبة إلى مستقبل التنمية الاقتصادية الليبية. لايزال الاقتصاد الليبي يعتمد إلى حد كبير على الإيرادات النفطية فيما يعيش أربعون في المئة من السكان دون خط الفقر. يتخوّف المواطنون في شرق ليبيا من أن يعيد التاريخ نفسه ويلازمهم الإجحاف الذي عانوا منه في ظل نظام القذافي المركزي الذي حرمهم من التنمية في حين كان أنصار النظام يُراكمون الثروات في الجزء الغربي من البلاد حيث كان الفساد مستشرياً. وثمة اعتقاد عام في برقة بأن المنطقة تضم الاحتياطي الأكبر من النفط - "في شكل عام، نحو ثلثَي الإنتاج النفطي الليبي مصدره الحقول الواقعة في الجزء الشرقي من البلاد" - لكنها كانت الأكثر حرماناً في ظل النظام السابق؛ ومن شأن منظومة حكم وحدوية أن تُفاقِم أكثر فأكثر الإجحاف في إعادة توزيع هذه الموارد.

من العوامل الأساسية الأخرى التي ستؤثّر في اختيار منظومة الحكم، الانتماء الديني. مازال على الليبيين أن يُقرّروا إذا كانوا يريدون اعتماد الشريعة مصدراً وحيداً للحكم أم مصدراً أساسياً أم مصدراً يُستلهَم منه. فرغم الإجماع في الخطاب العام على وجوب أن تكون الشريعة جزءاً من منظومة الحكم الجديدة في ليبيا، لاتزال مجموعات راديكالية مثل "أنصار الشريعة" وتنظيم "القاعدة"، تسعى إلى استبدال الديمقراطية بإمارة دينية كاملة المقوّمات. قد تبدو هذه المجموعات بأنها أقلّية، لكنها تحظى بدعم كبير في أوساط القواعد الشعبية، وكانت لها مشاركة فاعلة خلال الثورة، مايزيد من شعبيّتها. والخطر الأكبر هو أنها مسلّحة، ففي حين أدّت الشبهات حول مسؤوليتها عن مقتل السفير الأميركي في ليبيا كريستوفر ستيفنز، إلى زيادة المعارضة الشعبية لها، يكتفي عدد كبير من المدنيين بالاعتراض على نشاطها العسكري، وليس هناك أيّ مؤشرّ بأنها ستخسر جاذبيّتها السياسية في المستقبل القريب، وذلك بسبب الظروف الاقتصادية والأمنية الهشّة التي تصبّ في مصلحتها.

الهمّ الأكبر الذي يشغل معظم الليبيين هو استعادة الثقة بالمؤسّسات الحكومية. فقد سيطر نظام القذافي على الإدارات الحكومية الوطنية والمحلية لمدّة تزيد عن أربعة عقود، وكانت تزرع خوفاً شديداً لدى المواطنين. إن أي محاولة لبناء منظومة حكم جديدة يجب أن تشمل إصلاح القضاء وتعزيزه لمنع الفساد وحماية الأمن القومي. لم يتطرّق النقاش العام بعد إلى موضوع النظام القضائي، وطريقة تنظيمه وهيكلته، وما إذا كانت ستُمنَح سلطة أكبر للمحاكم المركزية بالمقارنة مع المحاكم المحلية. في الوقت الحالي، يؤدّي مجلس الحكماء دوراً في التوسّط في النزاعات وتسوية الخلافات المحلّية. لقد تدخّل زعماء قبائل محترمون للعمل على فض عدد من الصدامات المحلية، ولاسيما إثر ردود الفعل الشعبية التي أعقبت أعمال العنف في بنغازي. لكن هذا النموذج ليس قابلاً للاستدامة كونه يعتمد على التسويات القبلية وليس على سيادة القانون. يجب أن يكون الفصل بين السلطات، والنظام القضائي، ووضع إطار تشريعي لمكافحة الفساد جزءاً لايتجزأ من النقاش حول منظومة الحكم من أجل تجديد ثقة المواطنين الليبيين بحكومتهم. 

وبإمكان المؤتمر الوطني العام أن يعمد أولاً إلى وضع آليات رسمية فاعلة للتواصل، عبر الاستعانة بالوسائل التكنولوجية والقواعد الشعبية، من أجل تحفيز جميع الأفرقاء على المشاركة. ثانياً، يجب أن تعقد لجنة الستين جلسات مناقشة بمشاركة خبراء وسواهم من أصحاب الشأن في المناطق الثلاث لتحديد الوسائل الديمقراطية للتوسّط في النزاعات في المستقبل. ثالثاً، على المؤتمر الوطني العام أن يبادر إلى اتخاذ خطوات فورية لإشراك الناشطين السياسيين في المناطق الثلاث في مؤازرة اللجنة وتزويدها بآراء القواعد الشعبية وتعليقاتهم خلال عملية إعداد الدستور. لم تُجرَّب هذه الإجراءات من قبل، لكن ثمة براهين قويّة بأن المواطنين والمجتمع الأهلي في ليبيا سيتعاملون بإيجابية مع جهود المؤتمر الوطني العام لتشجيع الحوار: عندما عرض المجلس الوطني الانتقالي القانون الانتخابي على الرأي العام من أجل الوقوف على آراء المواطنين وملاحظاتهم، تلقّى أكثر من 14000 رد ساهمت في التوصّل إلى صيغة نهائية ومتَّفق عليها لقانون انتخابات يراعي المعايير الدولية. 

السؤال المطروح إذاً هو: هل سيُترَك الحوار من أجل الاتّفاق على منظومة حكم جديدة في عهدة حفنة قليلة أم أن المشاركة فيه ستُفتَح أمام المواطنين؟ الإجابة عنه تُحدّد إذا كانت مخاوف الليبيين ستستمرّ أم ستتبدّد، وما هو السبيل لتهدئتها. البديل هو معالجة هذه المخاوف والتشنّجات الآن، بدلاً من أن تظهر لاحقاً وتتسبّب بتعطيل الآلية السياسية.

جيلبر ضومط وكارمن جحا ناشطان في المجتمع المدني وشريكان في مجموعة Beyond Reform and Development. تستند المعلومات في هذا المقال إلى سلسلة من ورش العمل التي نظّمتها المجموعة بالتعاون مع منتدى ليبيا الديمقراطية ابتداء من حزيران/يونيو 2011 ولمدّة عام تقريباً جرى خلاله استطلاع مايزيد عن 800 مشارك.

* ترجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.