خلال العامين الماضيين، ركّزت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية أكثر فأكثر على دعم المشاريع الاجتماعية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بهدف رفع التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية التي تتسبّب بالفقر في المنطقة. وقد شجّعت هذه المقاربة المنظّمات العربية غير الربحية على تبديل توجّهها والظهور في صورة المؤسّسات الاجتماعية استناداً إلى ماتقتضيه المصلحة الاستراتيجية الأميركية وليس الحاجات المحلية. وفي هذا الإطار، علّق أحد الناشطين في المنطقة بأن ريادة الأعمال الاجتماعية أصبحت "كلمة رنّانة لاستقطاب التمويل" الذي لايُستخدَم لاحقاً في التخفيف من وطأة الفقر في المنطقة. فهو يعتبر أن المنظمات المحلية تقدّم نفسها أكثر فأكثر في صورة المؤسّسات الاجتماعية أملاً في الحصول على التمويل. وهكذا تسلّط الاستراتيجية الأخيرة التي تعتمدها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية لمكافحة الفقر، الضوء على إشكالية الوقائع على الأرض، بما في ذلك أزمات الهوية التي تعاني منها المنظمات المحلية، وضياع المهمّات التي قامت من أجلها تلك المنظمات، نظراً إلى إعطائها الأولوية للتمويل قصير الأمد وتفضيله على الاستدامة طويلة الأمد. فضلاً عن ذلك، يظهر تحدّي الاستدامة المالية كيف تصبح هذه المنظّمات عالقة بين وضعها كمنظّمات غير ربحية من جهة، ووضعها كمشاريع اجتماعية من جهة أخرى، وذلك لأنها لم تُدرِج في مخطّطات عملها آليّةً لتوليد العائدات، فتفشل في العمل كمشاريع حقيقية. وعبر اتّباع هذه المقاربة، تتجاهل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية الدروس المستمدّة من المحاولات الفاشلة السابقة للحدّ من الفقر في المنطقة، وتبالغ في التعويل على قدرتها على تطوير نماذج مستدامة ومحلّية المنشأ، عبر التركيز على الطابع "الاجتماعي" على حساب "ريادة الأعمال" التي تساهم في تحقيق الاستدامة الذاتية.

بحسب البنك الدولي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، من شأن الحوكمة الرشيدة والمؤسّسات القوية أن يساعدا على الحد من الفقر، الأمر الذي أدّى إلى بروز هاتين الاستراتيجيتين إلى الواجهة كوسيلة للتخفيف من وطأة الفقر قبل عقد من الزمن. وقبل ذلك، بدا أن الحل يكمن في ريادة الأعمال وإطلاق المشاريع الصغيرة من خلال برامج القروض الصغيرة الموجَّهة إلى الأشد فقراً. ولم يمضِ وقت طويل حتى ركبت وكالات المساعدة الحكومية والمؤسّسات المانحة متعدّدة الأطراف الموجةَ السائدة، ودعمت برامج القروض الصغيرة مالياً وتقنياً. نتيجةً لذلك، تصدّرت البلدان ذات الدخل المنخفض في المنطقة (مثل مصر والمغرب) قائمة المقترضين بحلول العام 2009. لكن الخبراء المتخصّصين في التنمية الاقتصادية المستدامة استنتجوا لاحقاً أن برامج القروض الصغيرة هي واحدة من الاستراتيجيات التي يمكن تطبيقها، إلا أنها تحتاج إلى دعم مكمِّل لها - مثل التدريب والتثقيف على المهارات - نظراً إلى أن تحدّيات مكافحة الفقر لاتزال قائمة. أما في مايتعلّق ببرامج الحوكمة الرشيدة، فيقول البعض إنه لايزال من المبكر جداً تقييم تأثيرها على الفقر، ولاسيما في البلدان التي تشهد إصلاحات سياسية تشكّل جزءاً من العمل على إرساء حوكمة رشيدة، كما في الأردن.

تبنّت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، كما في تجاربها السابقة، العمل على تعزيز المبادرات الاجتماعية، معتبرةً أن ريادة الأعمال الاجتماعية هي الحلّ لرفع تحدّيات التنمية في العالم العربي. ويُعرَّف المشروع الاجتماعي على أنه كيانٌ يعمل على معالجة مشكلة اجتماعية محدّدة عبر اتّباع نموذج موجّه نحو السوق من أجل تطبيق حلّ مبتكر. بيد أن تعريفات ريادة الأعمال الاجتماعية أصبحت واسعة جداً، كما أن تطبيقها على نطاق معمّم بات يطرح إشكالية؛ فالمعنيّون بالتنمية الدولية يُحدّدون فكرة جديدة، لكنهم يطبّقونها عبر تعميمها على مختلف الأوضاع من دون أخذ البيئة الاجتماعية والتنظيمية في الاعتبار. ونتيجةً لذلك، فإن أيّ مجموعة محلّية تستطيع توصيف نفسها بحسب المصطلحات الأحدث عهداً لتعريف ريادة الأعمال الاجتماعية، تثبت حضورها أكثر في نظر المجتمع الدولي، وتحصل بالتالي على التمويل. تكمن مساوئ هذا الأمر في العالم العربي، في مفهوم المبادرة الاجتماعية بحدّ ذاته، فعدد كبير من الكيانات ينطلق كمنظّمات غير ربحية، لكنه لايُحقِّق الاستدامة الذاتية.

تنظر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في الطلبات التي تُرفَع إليها من المنطقة، بالتعاون مع منظمات أميركية غير ربحية متخصِّصة في هذا المجال مثل "معهد سينرجوس" Synergos Institute، و"أشوكا" Ashoka، و"مؤسسة شواب للريادة الاجتماعية" Schwab Foundation for Social Entrepreneurship، وذلك في إطار شراكة تُعرَف بـ"التحالف من أجل ريادة الأعمال الاجتماعية". فيُفسَح المجال أمام مجموعة متنوّعة من المنظمات - يتبنّى بعضها التعريف الأوسع لريادة الأعمال الاجتماعية - لتقديم الطلبات من أجل الحصول على التمويل. ويركّز التحالف على أربعة إلى خمسة بلدان في الشرق الأوسط، مع العلم بأن البرنامج سيتمحور في البداية حول مصر ولبنان، ويسعى إلى تحفيز ريادة الأعمال من خلال "مشاريع الابتكارات التنموية". تنظّم هذه المشاريع التي تأسّست في العام 2010، مسابقات للمرشّحين يتنافسون فيها على التمويل التدريجي بدلاً من الحصول على المبلغ دفعةً واحدة. والنقطة الإيجابية في هذه المقاربة هي أن المبادرات الاجتماعية الوليدة تخضع إلى الاختبار والتدقيق لتثبت أن في إمكانها تنفيذ أفكارها. وإذا نجحت، فعليها أن تبرهن أنها قادرة على توسيع نطاق مشاريعها. لكن النقطة السلبية هي أن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية قد تستثمر أموالها في مشاريع اجتماعية محلية لاتملك حظوظاً فعلية في تحقيق الاستدامة الذاتية.

في 16 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، عقدت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية اجتماعاً في واشنطن للنظر في أوجه مساهمة ريادة الأعمال الاجتماعية في تعزيز التنمية المستدامة في المنطقة من خلال "التحالف من أجل ريادة الأعمال الاجتماعية" (الذي يتّخذ من الولايات المتحدة مقراً له). بموجب الشراكة، سوف تستثمر الوكالة أموالها بالاشتراك مع "معهد سينرجوس" في مصر ولبنان. تعتقد الوكالة أن بإمكانها أن تساهم في تحقيق الاستدامة من خلال خبرتها في مجال التنمية. لكن أحد الشركاء، "سينرجوس"، يملك خبرة تفوق العشرين عاماً في التعرّف على روّاد الأعمال الاجتماعيين، ولذلك ليس هناك على الأرجح مايستدعي الدعم الحكومي، إلا في مجال المساندة المالية.

فعلى سبيل المثال، أسّس رامي مهداوي، بتمويل مشترك من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، "منتدى المنظمات الفلسطينية غير الحكومية" الذي يشكّل مظلّة للتنسيق بين 135 منظمة محلية داخل الأراضي مفكَّكة الأوصال. ومع أن المنتدى يلبّي حاجة أساسية، إلا أنه ليس واضحاً ما المصادر التي تؤمّن له عائدات كبيرة، إلى جانب التبرّعات. والمفارقة هي أنه بحكم التعريف الأوسع لريادة الأعمال الاجتماعية، شاركت منظّمات موجودة في واشنطن في المنتدى، مع العلم بأنه يغلب عليها الطابع غير الربحي، وأنها ليست مشاريع بكل معنى الكلمة. وهكذا لم يُستتبَع ذلك بنقاشات فعلية حول توليد العائدات من أجل تعزيز الاستدامة، لأن المنظمات غير الربحية لم تبتكر أيّ جديد في مجال توليد الأرباح بهدف تأمين الاستدامة.

ربما نستمدّ من تجربة المؤسّسات المانحة مع القروض الصغيرة، دروساً يمكن تطبيقها على النزعة الحالية. إذا كانت المشاريع الاجتماعية هي الأداة الأحدث في برامج الحد من الفقر، يبرز في هذه الحالة قلقٌ أساسي بشأن دور القطاع العام وتأثيره المباشر على مكافحة الفقر عبر تعزيز ريادة الأعمال المستدامة. كيف يمكن للقطاع العام - الذي قد يشارك بصفة مؤسّسة تُقدِّم المنح - أن يسدي النصح ويُتقن سبل الاستثمار في مشروع اجتماعي إذا كان يعمل ضمن نموذج مختلف؟ تشكّل المشاريع الاجتماعية مجموعة أحدث من المؤسّسات التي لاتندرج في إطار القطاع العام أو القطاع الخاص التقليدي؛ كما أنها لاتعتمد في شكل أساسي على جمع التبرّعات، فهي تؤمّن سلعة أو خدمة بما يحوّل القيمة الاجتماعية لهذه السلعة أو الخدمة، إلى قيمة نقدية. تجسّد المشاريع الاجتماعية في الجوهر معايير اقتصادية واجتماعية على السواء. وبحكم التعريف، لايمكن لجمع التبرّعات أن يشكّل المحرّك الأساسي للمشروع الاجتماعي لأنّ للسلعة أو الخدمة التي يقدّمها كلفة.

يرتبط مفهوم النجاح بالاستدامة. فعلى سبيل المثال، يعالج يورغي تيروز في لبنان ثغرة في الخدمات الصحية عبر جمع قاعدة بيانات تضم حوالى 11 ألف متبرّع بالدم من خلال منظمته التي تحمل اسم Donner Sang Compter. دعماً لجهود التبرّع بالدم، تحيي المنظّمة أنشطة وتبيع تذاكر لجمع الأموال، لكنها ليست منظمة ربحية بالكامل، بل تسعى إلى الحصول على التبرّعات المالية. وهكذا يستمرّ السعي إلى تحقيق الاستقلالية المادّية، الأمر الذي يفرض حدوداً على الطريقة التي يمكن أن تتوسّع بها منظمة Donner Sans Compter وسواها من المنظمات، وهو جانب أساسي في ريادة الأعمال.

نأمل في أن تكون لدى الوكالة الأميركية للتنمية الدولية استراتيجية لمساعدة المشاريع الناشئة على توليد عائداتها الخاصة. وأحد المقترحات في هذا المجال استعمال قاعدة المواهب المخبّأة داخل الاقتصادات غير النظامية في المنطقة، والاستعانة بالمرشّح الذي يفوز بالتمويل من أجل تحقيق ذلك. تضم مصر والأردن اقتصادات غير نظامية واسعة النطاق؛ ففي الأردن، يساهم القطاع غير النظامي بـ26 في المئة من الاقتصاد الوطني. لذلك، من شأن اليد العاملة في الاقتصاد غير النظامي أن تشكّل شريكاً محتملاً لروّاد الأعمال الاجتماعيين في بيع السلع والخدمات عن طريق تعاون خلاّق.

تكمن نقاط القوّة التي تتمتّع بها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في تأمينها للموارد المالية، وقدرتها على الولوج إلى خبرات تقنية ممتازة، كما يُظهِر تحالفها الأخير. بيد أنها تعتمد في ذلك على الخبرات المؤسّسية الأميركية أكثر منه على المنظمات المحلية غير الربحية التي تقود المهمة في بلدانها. هذه هي نقطة الانتقاد الأساسية للمقاربات الموجّهة نحو تحسين الحوكمة. تذكّر مقاربة المجتمع الدولي السيّئة لمفهوم المشاريع الاجتماعية، بالهفوات السابقة التي شهدتها موجة القروض الصغيرة في أواخر التسعينيات، عندما استثمر المانحون والحكومات أموالاً طائلة في مؤسّسات القروض الصغيرة، وتوقّعوا الحصول على عائدات مرتفعة. وهكذا انطلاقاً من الدروس المستمدّة من تجربة القروض الصغيرة، على الوكالة الأميركية للتنمية الدولية أن تأخذ في الاعتبار في استراتيجياتها لمكافحة الفقر، اليد العاملة والمواهب المحلّية اللذين يقوم عليها الاقتصاد غير النظامي. فإذا لم تتم المزاوجة بين الاقتصاد المحلي غير النظامي والهيكليات المحلية غير الربحية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تبقى ريادة الأعمال الاجتماعية بعيدة كل البعد عن تطبيق حلول مبتكرة يُحفّزها السوق من أجل حلّ المشاكل الاجتماعية.

مهرونيزا قيوم مستشارة في التنمية الدولية ومؤسِّسة الشركة الاستشارية PITAPOLICY Consulting.