تخوض المجموعتان الإسلاميتان الأوسع نفوذاً في تركيا - حزب العدالة والتنمية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان وحركة غولن بقيادة الإمام المتقاعد فتح الله غولن المقيم في بنسلفانيا - حرباً مفتوحة في مابينهما منذ أكثر من عام. تُظهر حركة غولن الإسلامية التي كانت حليفة حزب العدالة والتنمية سابقاً، نزعة إلى تجنُّب السياسة الحزبية لمصلحة التأثير الإعلامي والثقافي داخل تركيا، لكنها تحوّلت هدفاً لخطاب أردوغان وأسلوبه في الحكم الذي يصنّف الآخرين على قاعدة "إما معنا وإما ضدنا".

تطبع هذه التطورات تغييراً دراماتيكياً. عندما تسلّمت حكومة حزب العدالة والتنمية زمام السلطة في العام 2002، سعت إلى بناء تحالفات مع مجموعات إسلامية أخرى، ومع الليبراليين والتيارات الدينية. وإذ كان أردوغان ورجاله يعلمون جيداً أن رئيس الوزراء الإسلامي الأول، نجم الدين أربكان، أطيح من الحكم بواسطة انقلاب ناعم نفّذه الجيش في العام 1997، سعوا إلى توسيع دائرة الحكم بضم أطراف أخرى إليها من أجل التصدّي لرد الفعل العلماني. دخل غولن في شراكة (ولو لم تعمّر طويلاً) مع حزب العدالة والتنمية، فتحوّلت حركته إلى مركز قوة فعال في تركيا ووسّعت أمبراطوريتها الإعلامية وبرنامجها التربوي الذي يتضمّن آلاف المدارس ومساكن الطلاب. بالفعل، استثمر غولن بقوة في قطاع التعليم في إطار استراتيجيته التي يعمل على تطبيقها منذ عقود وتهدف إلى تكوين نخبة متديّنة وقومية ومحافظة تكون لها السيطرة في الدولة والمجتمع التركيَّين.

على الرغم من أن حزب العدالة والتنمية وحركة غولن لم يتّفقا في تفسيرهما للإسلام، إلا أنهما تعاونا منذ مطلع القرن الحادي والعشرين في حملتهما ضد الوصاية العسكرية. وهكذا، عندما أُضعِف الجيش التركي إلى حد كبير جراء ماعُرِف بقضية إرغينيكون أو محاكمات "الانقلاب" بين العامَين 2008 و2013 - التي أسفرت عن دخول مئات الضباط العسكريين المتقاعدين وفي الخدمة الفعلية فضلاً عن معارضين آخرين، إلى السجن - بدأت الخلافات بين حزب العدالة والتنمية وغولن تظهر إلى العلن. بيد أن التباعد الكبير وقع في 17 كانون الأول/ديسمبر 2013 عندما هزّت فضيحة فساد حزب العدالة والتنمية. وقد أظهرت الصور (التي نُشِرت في شكل خاص عبر وسائل الإعلام التابعة لغولن، ثم في وسائل الإعلام الأساسية بعد ذلك بوقت قصير) تورّط العشرات من رجال الأعمال المعروفين بأنهم حلفاء مقرّبون من أردوغان، إذ كشفت عن نقل رشاوى إلى مكتب أحد الوزراء. وفي إطار التحقيق الذي فُتِح في القضية، صادرت الشرطة سيولة بقيمة 17.5 مليون دولار يُزعَم أنها استُخدِمت في الرشاوى. وبحسب التقارير، وُجِدت بعض تلك المبالغ مخبّأة داخل علب أحذية في منزلَي اثنين من الوزراء المتورطين فضلاً عن منزل مدير مصرف "هالك بنك". كما أظهرت الأشرطة التي تم تسريبها عبر وسائل التواصل الاجتماعي والصحف التركية تورّط نجل أردوغان.

رداً على الفضيحة، انتقد أردوغان وحزب العدالة والتنمية المدعين العامين والمسؤولين في الشرطة الذين يقفون خلف التحقيق، واعتبرا أن المسألة هي مؤامرة من تدبير غولن بهدف إسقاط الحكومة. ربما كان إعلان حكومة أردوغان في تشرين الثاني/نوفمبر 2013 عن قرارها إغلاق مدارس التحضير للامتحانات - التي تشكّل أداة أساسية يستخدمها غولن في تجنيد الأتباع - هو الذي دفع بحركة غولن إلى الكشف عن فضيحة الفساد.

لكن أردوغان حشد أنصاره في مايسمّيه "حرب الاستقلال" مع غولن. فعلى الرغم من أن الرئيس التركي أقال أربعة وزراء بعد ظهور فضيحة الفساد، إلا أنه يصرّ على أن المزاعم هي مؤامرة من تدبير غولن بالتواطؤ مع "قوى أجنبية ظلامية". وكذلك اتّهم مسؤولون آخرون في حزب العدالة والتنمية غولن بتخطيط الحملة الإعلامية وإدارة الحسابات المجهولة عبر موقع تويتر التي سرّبت في البداية مزاعم الفساد. حتى تاريخه، تنفي حركة غولن أية علاقة لها بالمسألة، ولاتتوافر أدلة عن وجود روابط بينها وبين الحملة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وفي هذا الإطار، لايزال المدعون العامون المعيّنون حديثاً يعملون على استكشاف الرابط من خلال العديد من التحقيقات وعمليات التقصّي.

على الرغم من أن حركة غولن تتألف فقط من اثنين إلى ثلاثة في المئة من الناخبين الأتراك، إلا أنها تتمتع بسيطرة واسعة في ميادين أخرى، لاسيما في مجال وسائل الإعلام، وعلى رأسها صحيفة "زمان"، الأوسع انتشاراً بين الصحف التركية إذ تبيع نحو مليون نسخة يومياً، والتي تُعتبَر تابعة لحركة غولن. كما أن أكثر من ست قنوات تلفزيونية وطنية، فضلاً عن مئات المحطات التلفزيونية والإذاعية المحلية، وسواها من الصحف والمجلات، إما مملوكة من حركة غولن وإما تابعة لها. في الإجمال، تملك الحركة، بحسب التقديرات، حصصاً في 15 إلى 25 في المئة من وسائل الإعلام التركية. كما يقود غولن قوة لوبي عالمية لانظير لها في السياسة التركية، وذلك من خلال منظمة جامعة بإدارته تتخذ من واشنطن مقراً لها وتملك أكثر من مئتين فرع في الولايات المتحدة. تعمل هذه القوة الناعمة الهائلة حالياً على التأثير في الآراء في عدد كبير من العواصم الغربية لدفعها نحو تأييد تغيير النظام في تركيا.

لكن في الوقت الراهن، يبدو أن السيطرة الفعلية هي في أيدي أردوغان وحزب العدالة والتنمية. لقد أقرّت الحكومة تشريعاً لتعزيز سلطة أجهزة الاستخبارات والشرطة، عبر منحها مزيداً من الصلاحيات لاعتقال الأشخاص وحجزهم. وقد أسفرت هذه القوانين عن توقيف آلاف الأشخاص وحجزهم قبل المحاكمة في الحملة التي تشنّها الحكومة ضد المعارضة، بما في ذلك نشطاء أكراد ومستخدمي تويتر وأتباع غولن. علاوةً على ذلك، بعد فوز أردوغان وحزب العدالة والتنمية في الانتخابات الرئاسية والمحلية في العام 2014، أُسقِطت كل التهم المتعلقة بالرشاوى في كانون الأول/ديسمبر الماضي. يبدو أن أردوغان وفى بوعده بـ"وضع حركة غولن على درجة الغليان أو تحويلها إلى جزيئات" بهدف "تعقيمها" في إطار حملة ضد وسائل الإعلام والمؤسسات المالية ومنتديات الأعمال التابعة لها. لكن هذا النصر الداخلي الظاهري ليس سوى نصف المشهد. ففي حين تبدو حكومة أردوغان متقدّمة في السياسة الداخلية المتعنّتة - تطهير أتباع غولن وحتى توقيف رئيس مجموعة قنوات "سامان يولو" الإعلامية التي تُعتبَر من المحطات التلفزيونية الأساسية التابعة لغولن - تتسبّب المقاربة والتكتيكات التي يعتمدها أردوغان في تعاظم المعارضة ضده. واقع الحال هو أن أسلوب أردوغان أدّى إلى تشويه رصيده في مجال الديمقراطية، وباتت معظم الحكومات ووسائل الإعلام الأجنبية - لاسيما في الغرب - تنظر إليه بأنه زعيم سلطوي.

على الرغم من أن تركيا كانت تُعتبَر قبل سنوات قليلة نموذجاً يُحتذى في الديمقراطية الإسلامية، إلا أنه بات يُنظَر إليها الآن كدولة معزولة أو منبوذة. وقد وثّق مؤشر مدركات الفساد الذي تضعه منظمة العفو الدولية سنوياً، الفساد المتنامي في البلاد، وخفّضت منظمة "فريدوم هاوس" تصنيف تركيا إلى "غير حر" في تصنيفاتها للعام 2014. على الرغم من هذه التطورات، يبدو أنه ليست هناك في الأفق حركة سياسية بديلة لتحل مكان حزب العدالة والتنمية. فقد عمد أعضاء سابقون في حزب العدالة والتنمية مؤخراً إلى تأسيس عدد من الأحزاب الصغيرة المنتمية إلى يمين الوسط، لكن بحسب المؤشرات الحالية، من غير المرجح أن يحشد أيٌّ منها دعماً كافياً في الانتخابات العامة المقرر إجراؤها في مطلع حزيران/يونيو المقبل.

بعد عقود من القمع في ظل الجمهورية التركية العلمانية، يسدّد الاتجاه الذي يسكله حزب العدالة والتنمية مؤخراً ضربة إضافية إلى سمعة الحزب. فحملة التضييق التي يشنّها أردوغان ضد المجموعات الإسلامية المنافسة له تعكس سلطوية حزب العدالة والتنمية المتزايدة ومحاولاته لترسيخ سلطته. لكن في الوقت الراهن، على الرغم من شخصية أردوغان الصدامية وسلطته المطلقة إلى حد كبير، من شأن القيود والضوابط المنصوص عليها في الدستور الحالي أن تجعل من الصعب عليه السيطرة على الدولة التركية. يترقّب أردوغان انتخابات حزيران/يونيو لمعرفة إذا كان حزب العدالة والتنمية يستطيع الحصول على نصر واسع بما فيه الكفاية لتعديل الدستور وتحويل تركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي. إذا حقّق حزب العدالة والتنمية الانتصارات الانتخابية التي يتطلّع إليها - ونظراً إلى التراجع الشديد الذي تعاني منه سيادة القانون خلال العام الماضي - غالب الظن أن أردوغان سيصبح أكثر تفلتاً من المساءلة والمحاسبة.

إلهان تنير محلل وصحافي تركي مستقل مقيم في واشنطن.

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.