يبقى إصلاح القطاع الأمني مسألة أساسية في العملية الانتقالية في عدد كبير من البلدان العربية. لكن وسط تصاعد التهديدات الإرهابية، بما في ذلك من خلال تنظيم الدولة الإسلامية والمجموعات التابعة له في مختلف أنحاء المنطقة، يكمن الخطر في حدوث مزيد من التأخير في تطبيق إصلاحات مجدية إلى أجل غير مسمى.
لكن ينبغي على الأجهزة الأمنية في المنطقة، والتي غالباً ماتعاني من التضخم والفساد، أن تجد طريقةً لرفع التحدّي المزدوج المتمثل في إرساء توازنٍ بين الحفاظ على النظام ومعالجة أسوأ التجاوزات التي ترتكبها تلك الأجهزة. بما أن الاحتجاج على الشرطة القمعية كان من المظالم الأساسية في الانتفاضات العربية في العام 2011، قد يؤدّي الفشل في تحسين إجراءات الشرطة والممارسات الأمنية، إلى تحريك التململ من جديد وتهديد الاستقرار الإقليمي في المدى الطويل.
يُبدي أربعة خبراء آراءهم حول إصلاح القطاع الأمني في العديد من الدول العربية. ندعوكم إلى الانضمام إلى النقاش عبر مشاركتنا آراءكم في قسم التعليقات.
الشرطة المذهبية في البحرين
ستايسي ستروبل
ستايسي ستروبل أستاذة مشاركة ورئيسة قسم العدالة الجنائية في جامعة ويسكونسن - بلاتفيل.
أثار سجن القيادي البحريني المعارض، الشيخ علي سلمان، الذي يُعتبَر من رموز الأمل الأساسية بالنسبة إلى الشيعة المهمّشين، في 16 حزيران/يونيو الماضي، موجة جديدة من الاحتجاجات غير العنفية التي نزل فيها الآلاف إلى الشوارع. لقد أظهر اعتقال سلمان أن الإجراءات الأمنية في الدولة الخليجية الصغيرة لاتزال شديدة الوطأة، ومذهبية الطابع، وتتناقض مع ماتدّعيه الآلية الترويجية للحكومة.
في العام 2011، خلصت اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق، إلى أن الشرطة مسؤولة عن مصرع بعض الأشخاص خلال الانتفاضة، وبينهم خمسة أشخاص قُتِلوا جراء التعذيب من الشرطة. فردّ النظام بالإعلان عن عدد من الإصلاحات، مثل إنشاء وحدة تحقيق خاصة لمعالجة الانتهاكات من جانب الشرطة، وتعيين شخص لتسلّم الشكاوى حول الشرطة، وتعزيز الشرطة المجتمعية، وتركيب كاميرات في غرف الاستجواب.
بيد أن معظم المجموعات الحقوقية والباحثين الذين يتابعون الإصلاحات استنتجوا أنها سطحية أو أنها لم تُنفَّذ بالكامل. فضلاً عن ذلك، تعمل قوة الشرطة الإقليمية المقترحة في إطار مجلس التعاون الخليجي عن كثب مع وزير الداخلية البحريني الفريق الركن الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة، معتبرةً أن تفويضها الأساسي هو مواجهة التهديدات الإرهابية الداخلية في البحرين - التي غالباً ماتشمل المعارضة السياسية. إلا أنه من شأن هذه القوة الإقليمية أن تساهم بحزمٍ أكبر في توسيع صلاحيات مجلس التعاون الخليجي ليتحوّل من تحالف بلدان يركّز على التهديدات الأمنية الخارجية من خلال القوات العسكرية للدول الأعضاء إلى امتلاك جهاز شرطة مدني جاهز للقضاء على المعارضات السياسية في الدول الأعضاء عند تلقّي أوامر بهذا الخصوص. وقد جرى التمهيد لهذه القوة المقترحة عبر نشر جيوش دول مجلس التعاون الخليجي في البحرين لسحق التظاهرات المناهضة للنظام خلال الانتفاضات العربية في العام 2011.
في غضون ذلك، لم تُتَّخذ خطوات أساسية مثل زيادة التمثيل الضئيل للبحرينيين غير السنّة في قوات الشرطة الوطنية. بل على العكس، أقيل عدد كبير من الضباط الشيعة في ظروف مشبوهة منذ العام 2011. كما أن الإجراءات الأمنية المشدّدة مستمرة بوتيرة مطّردة منذ أكثر من أربع سنوات رداً على التظاهرات غير العنفية.
أصابت مقالة افتتاحية نُشِرت في صحيفة "واشنطن بوست" مؤخراً، في الإشارة إلى أن القادة البحرينيين "تعاملوا مع الوضع [السياسي] بوقاحة بارزة"، إدراكاً منهم بأن أي دعوات أميركية للإصلاح هي مجرد كلام فارغ طالما أن إدارة أوباما لاتزال منشغلة أكثر بإرساء توازن في مقابل النفوذ الإيراني وزيادة الدعم للأنظمة الملكية السنّية في الخليج لقاء تعاونها في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية. لسوء الحظ، رفعت الإدارة الأميركية حظر الأسلحة (المطبّق منذ العام 2011)، على الرغم من إقرارها بأن أوضاع حقوق الإنسان في البحرين أقل من ملائمة.
لذلك، ليس مفاجئاً أن الدعوات التي تُوجَّه إلى الولايات المتحدة لمحاسبة الشرطة البحرينية، مثل التوصيات التي أصدرتها جمعية "حقوق الإنسان أولاً" الشتاء الماضي لإصلاح الشرطة، لم تلقَ آذاناً صاغية. وقد شملت هذه المطالب دعوة الولايات المتحدة إلى ممارسة ضغوط على البحرين لنشر إحصاءات عن التمثيل السنّي والشيعي في جهاز الشرطة، ووضع خطة لتجنيد مزيد من الضباط غير السنّة، وإعداد برنامج شامل للتدريب المشترك في مجال حقوق الإنسان، مع الاعتماد على شخصيات قيادية في المجتمع الشيعي للقيام بالتدريب المشترك.
يشتمل هذا التدريب المشترك على خطوات مهمة الهدف منها التخلص من ثقافة التمييز المؤسسية التي تنتهجها الشرطة، وإحداث تحوّل في السلوكيات الاجتماعية لدى الجمهور الأوسع. بما أن عمل الشرطة يقوم في شكل خاص على حفظ النظام، فإن المفاهيم الشعبية عن الشرائح الاجتماعية التي تُصنَّف بأنها خطرة، تشكّل عاملاً أساسياً في آلية صنع القرارات لدى الشرطة. حتى في البلدان التي تُعتبَر أنها ذات التزام قوي بسيادة القانون، مثل الولايات المتحدة، شهدنا كيف يمكن أن تتحوّل قوات الشرطة إلى تركّزات مهنية وثقافية لسلوكيات تمييزية أوسع نطاقاً في المجتمع، مثل نموذج الشرطة العنصرية في فيرغسون في ولاية ميسوري.
كما ذكرتُ في بحث آخر، لطالما كانت السياسات واستراتيجيات الانتشار التي تنتهجها الشرطة البحرينية مذهبية الطابع على الصعيد السياسي، حيث الشرطة هي الجهاز الذي ينفّذ مفاهيم الدولة التمييزية عن النظام الاجتماعي والسياسي. يجب اتخاذ خطوات حازمة عبر اشتراط تحسين حقوق الإنسان قبل تزويد البحرين بالعتاد الأميركي، فهذا الأمر أساسي لتسوية الأزمة البحرينية، وثمة حاجة ماسة إلى قيام الولايات المتحدة بممارسة ضغوط من أجل الشروع في إصلاح حقيقي للشرطة بهدف التصدّي لثقافة معاقبة الشيعة.
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.
مشاريع نموذجية مهمة في لبنان
آلان ماكروم
آلان ماكروم، مساعد أول في "سيرن أسوشييتس".
على الرغم من التغييرات المستمرة في الهيكلية الأمنية للدولة، لم يباشر لبنان حتى الآن في إصلاح شامل للقطاع الأمني. لقد أدّى غياب الحكومة الفعالة إلى ظهور عدد من المبادرات التي يموّلها مانحون أجانب، لكن جزءاً كبيراً من هذه البرامج يبالغ في تصوير أهدافه، وتُحرّكه مصالح المانحين أكثر منه مصالح المستفيدين الذين يُفترَض بهذه البرامج أن تكون في خدمتهم.
لكن هناك بوادر أمل. فوضْع مدوّنة قواعد السلوك لقوى الأمن الداخلي، انطلاقاً من معايير مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، يشكّل تطوراً مهماً في هذا السياق. وينطبق ذلك أيضاً على إنشاء نموذج للشرطة المجتمعية في منطقة رأس بيروت، مامهّد لحدوث تغيير على مستوى الثقافة المحلية، وساهم في تعزيز مستويات النزاهة والتملُّك والمبادرة من جانب الضباط. ويظهر ذلك من خلال توقيف أشخاص حاولوا بطريقة فاضحة دفع رشاوى لضباط في فصيلة رأس بيروت1.
وكذلك أطلقت قوى الأمن الداخلي "فريق التحليل" في فصيلة رأس بيروت، وقد أنشأه ضباط محليون، ويحظى بالدعم من جهة مانحة تعاونت مع الضباط من أجل تحقيق تملُّك المشروع والشعور بالاعتزاز. لأول مرة في تاريخ قوى الأمن الداخلي، استُخدِمت تقنيات رسمية للاختيار والتجنيد من أجل ضمان أن تتم عملية الانتقاء على أساس الكفاءة والمؤهلات، وجرى دعم هذه الآلية عبر تدريب الضباط في فرق. وكانت النتائج الأولى مشجّعة للغاية؛ فقد تراجع معدّل الجريمة في منطقة رأس بيروت بنسبة 40 في المئة في الأشهر الاثني عشر الأولى من المشروع، وكذلك انخفضت مخالفات السير بنسبة 20 في المئة، وسُجِّل تراجع كبير في مستويات السلوك المعادي للمجتمع. وقد حدّد فريق التحليل مجالات أساسية للتعلّم واكتساب المعارف، فضلاً عن تحديد نقاط الضعف، والممارسات الجيدة، ولأول مرة، كان هناك تعاون داخلي حقيقي.
يكمن التحدّي في الانتقال من "جزيرة التفوق إلى مركز للتفوق" في مختلف أنحاء بيروت، ومن ثم لبنان. يجب القيام بالكثير من العمل لتعزيز فلسفة الشرطة المجتمعية الجديدة وتحويلها اتجاهاً سائداً في البلاد. يشير الاستخدام الفعال للشرطة المجتمعية والالتزام المجتمعي، الذي يحظى بالقبول على نطاق واسع في المملكة المتحدة باعتباره عامل نجاح أساسياً في دعم الاستراتيجية البريطانية لمكافحة الإرهاب، CONTEST، إلى أنه ينبغي على بناء الشرطة المجتمعية وتعزيزها أن يساهم في زيادة مقاومة المجتمعات للتطرف العنفي، والحؤول دون تحول الأشخاص إلى "إرهابيين"، وتطوير سيادة القانون، وكلها محورية في جهود مكافحة الإرهاب.
من المهم، في إطار إصلاح القطاع الأمني، الإدراك بأنه يمكن الجمع بين مكافحة الإرهاب، والحفاظ على حقوق الإنسان، والشرطة المجتمعية من دون أن تُقصي الواحدة الأخرى. فإجراءات مكافحة الإرهاب تحتاج إلى معايير حقوق الإنسان حرصاً على ألا يُقوِّض تطبيقها الهدف الذي وُضِعت من أجله، أي حماية مجتمع ديمقراطي والحفاظ عليه. في الواقع، ليس بمقدور إصلاح القطاع الأمني في لبنان أن يجد حلاً لعدد كبير من الثغرات العميقة في الشرعية السياسية، والتي تتسبّب بخلل أمني وأعمال عنف في البلاد، لكن بإمكانه أن يقدّم مساهمة مهمة لتغيير السلوكيات والمواقف من العلاقة بين السلطة والشعب. لهذه الغاية، يجب أن يستند إصلاح القطاع الأمني إلى مبادئ الشرعية العامة، والمساءلة، والشفافية. المطلوب الآن هو البناء على إجراءات محلية أثبتت نجاحها، مثل الإجراءات في رأس بيروت.
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.
1. بالاستناد إلى مقابلات أجريت في فصيلة رأس بيروت.
مشكلة المحسوبيات في اليمن
جوانا كوك
جوانا كوك طالبة دكتوراه في قسم الدراسات الحربية في كلية كينغز في لندن ورئيسة تحرير مدوّنة ومجلة "سترايف" الصادرتَين عن القسم والخاضعتين للمراجعة من الأقران.
لطالما عكس القطاع الأمني في اليمن، تماماً مثل النظام السياسي، مصالح النخبة الحاكمة مستمداً زخمه من منظومة من المحسوبيات والفساد. واستُخدِم أيضاً لتحقيق مآرب سياسية شخصية، لاسيما أجندات الرئيس السابق علي عبدالله صالح. بيد أن غياب السيطرة الحكومية المستقلة على القوى الأمنية التي تُستغَلّ الآن لتحقيق المصالح الضيّقة للرئيس السابق صالح والحوثيين، يزيد من حدّة النزاع الدائر حالياً في البلاد.
إصلاح القطاع الأمني في اليمن مشروع طويل الأمد لم يحظَ بعد بالوقت أو الإجماع ليتبلور كما يجب. لطالما كان الفساد مستشرياً في البلاد، لاسيما من خلال "الجنود الأشباح" الذين غالباً ماكانوا مصدر كسب كبيراً لقادة الوحدات العسكرية. تشير بعض التقديرات إلى أن نحو ثلث الجنود كانوا موجودين على الورق فقط. وكان هناك أيضاً غيابٌ للإشراف الديمقراطي والسيطرة المدنية على هذه القوات، وكانت وحدات على غرار قوات الأمن المركزي ووحدة مكافحة الإرهاب، تخضع مباشرةً للرئيس الذي غالباً ماكان يستعملها لتحقيق مآربه الخاصة. ومن المشكلات الأخرى غياب المهنية والهيكلية القيادية الموحّدة، وعدم الفصل بين الأجهزة الأمنية والمصالح السياسية، واستخدام القوى الأمنية لسحق المعارضة السياسية، كما حصل خلال احتجاجات 2011.
رداً على الاضطرابات في العام 2011، أنشأ مجلس التعاون الخليجي "لجنة الشؤون العسكرية لتحقيق الأمن والاستقرار" في العام نفسه. وقد ناشدت القرارات الصادرة لاحقاً عن مجلس الأمن الدولي، ومنها القرار 2014 (2011)، الحكومة اليمنية وضع حد لاعتداءات القوى الأمنية على المدنيين. وشدّد القرار 2051 (2012) على إعادة هيكلة القوات الأمنية والمسلّحة في ظل قيادة موحّدة، وإصلاح الأسلوب المعتمد في التعيينات في المناصب العليا في القوى الأمنية والجيش. وكذلك أنشأ مؤتمر الحوار الوطني الذي انطلق في آذار/مارس 2013، مجموعة عمل مهمّتها توضيح دور المؤسسات الأمنية في الدولة. وقد سلّطت كل هذه الإجراءات مجتمعةً الضوء على حدوث تحوّلٍ نحو سياسات أمنية تضعها القيادة الديمقراطية وتصبّ في مصلحة الشعب في شكل عام.
وقد اتّخذ الرئيس عبد ربه منصور هادي أيضاً عدداً من الخطوات المهمة لتكييف الأجهزة الأمنية مع مقتضيات المرحلة الانتقالية. ففي نيسان/أبريل 2012، أقيل عشرون من أقرباء صالح من مناصب رفيعة في القطاع الأمني في خطوةٍ هدفت إلى وضع القيادة الأمنية في عهدة إدارةٍ ديمقراطية وليس عائلية. وفي آب/أغسطس 2012، جرى خفض أعداد الحرس الجمهوري، وأنشئت وحدة جديدة تحت اسم قوات الحماية الرئاسية انطلاقاً من قوات الحرس الرئاسي التي أعيد تكليفها وكان يقودها أنسباء للرئيس السابق صالح. وقد وُضِعت قوات الحماية الرئاسية تحت السلطة المباشرة للرئاسة اليمنية، وأدّى إنشاؤها إلى تجريد اللواء علي محسن الأحمر ونجل الرئيس صالح، أحمد، من وحدة عسكرية ونقلها إلى صفوف قوات الحماية الرئاسية، ماساهم في الحد أكثر فأكثر من السيطرة السياسية الشخصية.
في كانون الأول/ديسمبر 2012، جرى حل الحرس الجمهوري، والفرقة المدرّعة الأولى بقيادة علي محسن، ليصبح بالإمكان تنظيم القوات الأمنية والمسلحة على أساس مناطقي. وقد استُبدِلت تسمية قوات الأمن المركزي بقوات الأمن الخاصة في محاولة للنأي بها عن الفرقة السابقة التي كانت موضع جدل. وأنشئ أيضاً مكتب المفتش العام ضمن وزارة الداخلية لمعالجة المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان، والفساد، والانتهاكات التي يمارسها عناصر الشرطة. بيد أن تبديل أسماء هذه المؤسسات واستبدال كبار القادة لم يؤدِّ في نهاية المطاف إلى انتقال ولاء الجنود والقياديين المتوسطي الرتبة وثقتهم إلى الحكومة المنتخبة حديثاً. لاتزال القوى الأمنية تُستعمَل لتحقيق المآرب السياسية الضيّقة للنظام المخلوع وشركائه.
يشكّل الإصلاح الواسع النطاق للقطاع الأمني - عبر التركيز على المصالح المدنية، والسيطرة والإشراف على عملية صنع القرارات، والنأي بالقوى الأمنية عن الأجندات السياسية الشخصية، وتحقيق المهنية والاحتراف لدى القوات الأمنية والمسلحة - عنصراً أساسياً في التوصّل إلى حل دائم للأزمة اليمنية. وتقدّم مسوّدة الدستور التي صدرت في شباط/فبراير 2015، إطار عمل معترفاً به يمكن الانطلاق منه. ليست هناك خيارات أخرى كثيرة متاحة أمام بلدٍ غارق في نزاع دموي مستمر.
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.
تونس ترجئ إصلاح القطاع الأمني
شهرزاد بن حميدة
شهرزاد بن حميدة باحثة دكتوراه في جامعة قرطاج في تونس وجامعة بيار منداس فرانس بفرنسا، ومساعدة في مجال التعليم العالي ونائبة الرئيس في المرصد التونسي للأمن الشامل.
لئن تصدّر إصلاح قطاع الأمن قائمة الأولويات سابقاً في تونس غداة سقوط نظام بن علي، بيد أن تصاعد وتيرة الهجمات الإرهابية الدموية - التي استهدف آخرها فندقاً سياحياً في 26 حزيران/يونيو الماضي في مدينة سوسة- ما انفك يرجئ الانكباب على هذا المطلب حتى كاد يغيّبه.
وأمام تعالي الأصوات المنادية بالمصادقة على قوانين لمكافحة الإرهاب وتحصين قوات الأمن، يجد المواطن نفسه عالقاً بين مطرقة الإرهاب وسندان الشرطة، فاقداً للضمانات الضرورية لإرساء توازن بين التصدي الناجع للتهديدات الإرهابية واحترام الحقوق المدنية. غياب هذه المعادلة يرتبط في جزء منه بالاعتقاد المغلوط بأن عملية الإصلاح هي ترفٌ مؤسساتي متاحٌ فقط عندما لايكون هناك وجود للتهديدات الإرهابية. لكن هذا الموقف يتجاهل واقع أن الإصلاح يشمل أيضاً التغييرات البنيوية الضرورية لتحقيق الأمن من دون الحد من الحريات المدنية.
التخطيط الاستراتيجي في مجال رسم السياسات العامة للأمن ومتابعتها وتقييمها أكثر فاعلية في إصلاح القطاع الأمني من القرارات المرتجلة أو المسقَطة التي يتم اتخاذها بردود فعل على هجمات محدّدة. فالقرارات التي تم الإعلان عنها إثر هجوم سوسة – حول إعادة النظر في الرخص الممنوحة لبعض الأحزاب والجمعيات وغلق المساجد الخارجة عن سيطرة الدولة وتقييد السفر في اتجاه بعض الدول على كل الشباب التونسيين البالغين من العمر أقل من خمسة وثلاثين عاماً – أدّت إلى إحياء المخاوف لدى الرأي العام حول عودة النظام البوليسي. هذا بالإضافة إلى أنها تثيرتساؤلات جدّية حول مدى فاعليتها في غياب سياسة وطنية متكاملة لمكافحة الإرهاب.
اليوم وبالرغم من قتامة المشهد الأمني في تونس والحاجة إلى إعطاء الأولوية لمكافحة الإرهاب، لايزال هناك أمل بإصلاح القطاع الأمني في البلاد. يُبدي المواطنون استعداداً متزايداً للضغط على الحكومة من أجل تحقيق تغيير مجدٍ، ومن آليات الضغط المعتمدة مبادرة "اليقظة المجتمعية" ضد التجاوزات من الشرطة.
فضلاً عن ذلك، منذ اندلاع الثورة، جرى رصد غالبية الانتهاكات التي ترتكبها الشرطة وتوثيقها، ماأدّى إلى الكشف عنها على الملأ وتعبئة الرأي العام ضدها، بهدف مساءلة السلطات التونسية. فعلى سبيل المثال، بعد قيام عنصرَين أمنيين باغتصاب فتاة في العام 2012، خضع المتورّطان للمحاكمة بعدما حشدت هذه القضية المجتمع الأهلي. في السياق نفسه، أقيل ضباط من مناصبهم مؤخراً على خلفية ممارستهم العنف ومنعهم المدنيين من زيارة المقاهي والمطاعم في ساعات النهار خلال شهر رمضان.
صحيح أنها إجراءات صغيرة، إلا أنها تُظهر أن التونسيين، بالرغم من مساندتهم لمجهود قوات الأمن في التصدي للإرهاب، لايزالون يتمسكون بالمساءلة ويرفضون الممارسات السلطوية. لكن تبقى الحاجة أكيدة إلى مزيد من الإرادة السياسية الواضحة لتحقيق إصلاحات واسعة النطاق.