بعد استقالة شفيق صرصار من رئاسة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس في التاسع من أيار/مايو الجاري، إلى جانب عضوَين آخرين في الهيئة، تحوم شكوك إضافية حول قرار الهيئة إجراء الانتخابات البلدية المقبلة في 17 كانون الأول/ديسمبر 2017. فبعد تأجيل الانتخابات مرتَين، تمكّنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، في 31 كانون الثاني/يناير الماضي، من تحديد موعد نهائي للانتخابات – في ذكرى اندلاع الثورة التونسية في العام 2011 – إبان صدور قانون الانتخابات البلدية والجهوية المنتظَر منذ وقت طويل. على صعيد أكثر أهمية، تأتي الالتباس حول ما إذا كان سيتم إقرار قانون السلطات المحلية المعروف بمجلة الجماعات المحلية قبل الانتخابات، لتطرح مزيداً من علامات الاستفهام حول مدى القدرة على الالتزام بإجراء الانتخابات في موعدها المحدد.
المجالس البلدية الحالية، المعروفة أيضاً بالنيابات الخصوصية، عبارة عن هيئات غير منتخبة لا تزال تعمل كما كانت قبل العام 2011. بعد الثورة، جرى حل المجالس المحلية واستبدالها بنيابات خصوصية عن طريق التعيين. هذه النيابات قانونية، لكنها تفتقر إلى الشرعية وقد فشلت في الاستجابة للطلبات المحلية، وأصبحت عرضة بصورة متزايدة للتشنجات الحزبية. شهدت تشكيلة عدد كبير من النيابات الخصوصية تغييرات عدة بسبب استقالة بعض الأعضاء أو تغيّبهم. في بعض الحالات، تسبّبت الصراعات داخل النيابات بتعطيل الاجتماعات والأنشطة، الأمر الذي أدّى في نهاية المطاف إلى تعطيل الخدمات، مثل جمع النفايات، كما أنه حدّ من قدرة المجالس البلدية على منع أعمال البناء غير المرخّصة، وتسبَّبَ بتأخير تنفيذ المشاريع الإنمائية. في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2016 وحده، دفعت هذه الظروف بالسلطات إلى تغيير تشكيلة 13 نيابة خصوصية عبر تعيين أعضاء جدد. لكن حتى هذه التعيينات الجديدة لم تساهم في التخفيف من التشنجات أو تحسين أداء النيابات الخصوصية. بعد ستة أعوام على الثورة، لا تقدّم البلديات سوى مساهمة صغيرة في التنمية المحلية، ويتعاظم الاستياء من المجالس البلدية.
من شأن مجلة الجماعات المحلية، في حال إقرارها، أن توحّد تنظيم الحكم المحلي في إطار واحد يجمع بين عدد كبير من القوانين المنفصلة المعمول بها حالياً. يتيح ذلك للمشترعين التعاطي مع هذه القوانين بطريقة منسَّقة ومتماسكة، وكذلك تعديل القوانين أو وضع قوانين جديدة بما يتماشى مع الدستور مع استمرار تطبيق عملية إلغاء المركزية. يُشار إلى أن مجلة الجماعات المحلية خضعت لمراجعات عدة منذ صدور المسودة الأولى في تشرين الأول/أكتوبر 2015. تعرض المسودّة الأخيرة من القانون – التي أحيلت إلى مجلس النواب في 11 أيار/مايو الجاري – صلاحيات السلطات المحلية، وتتولى الإشراف على إدارتها للأصول ووضع الموازنات، وتُحدّد علاقاتها مع كيانات أخرى، منها منظمات المجتمع الأهلي، وطبقات الحكومة الأعلى، والهيئات الدولية.
الأهم من ذلك، يُتوقَّع أن يساعد القانون الجديد السلطات المحلية على تحقيق استقلالية مالية أكبر: في الوقت الراهن، نسبة أربعة في المئة فقط من موازنة الحكومة مخصصة للبلديات، وهي نسبة أدنى منها في بلدان أخرى في المنطقة، مثل المغرب الذي يخصص 11 في المئة من موازنته للبلديات. عبر تنويع مصادر تمويل البلديات وتزويدها بالإرشادات حول كيفية تخصيص هذه الأموال، يضمن لها القانون القدرة على إعداد مشاريع إنمائية وتطبيقها، بما يساهم في استحداث الوظائف وتحفيز النمو. في إطار هذا التنويع، تنص مجلة الجماعات المحلية على نقل بعض مهام تحصيل الضرائب من الحكومة المركزية إلى السلطات المحلية، مع أنه ستكون هناك حاجة إلى مزيد من التشريعات لتنظيم التفاصيل. كما يُحدّد القانون إجراءات ملموسة لضمان الديمقراطية التشارُكية والحكم المفتوح على المستوى المحلي، وتمهيد الطريق أمام لامركزية أوسع نطاقاً بين فروع الحكومة وطبقاتها المختلفة.
صحيح أنه يمكن قانوناً إجراء الانتخابات من دون إقرار مجلة الجماعات المحلية أولاً، إلا أنه من شأن ذلك أن يؤثّر في العملية الإصلاحية في البلاد. تخضع حالياً لأحكام القانون 33 لعام 1975 عن البلديات، والذي لا يعترف بالاستقلالية الإدارية والمالية للمجالس البلدية، الأمر الذي يتناقض تناقضاً صارخاً مع دستور 2014 الذي ينص على أن الحكم المحلي يؤدّي الدور الأكبر في الإنماء المحلي. ففي غياب القانون، لن يعرف الناخبون ولا المرشحون للانتخابات البلدية ما هي مسؤوليات أو مشاريع المجالس بموجب الدستور الجديد. بعد الانتخابات، من شأن المجالس البلدية أن تُكمل مؤقتاً العمل بموجب القوانين التي عفا عليها الزمن إلى أن يحلّ مكانها القانون الجديد. سوف تقع المجالس البلدية الجديدة في حيرة من أمرها حول القوانين التي يجدر بها التقيّد بها فيما تعمل على إعداد خططها وموازناتها السنوية. قد يتسبب هذا التشوش بشل المجالس الجديدة، كما هو حال عدد كبير من النيابات الخصوصية الحالية.
كثير من الأفرقاء المدنيين والسياسيين تقريباً على وجوب إقرار مجلة الجماعات المحلية قبل تنظيم أول انتخابات حرة وديمقراطية على المستوى المحلي في البلاد منذ العام 2011. فهم يعتبرون أنه بإمكان مجلس النواب، عند التسلّح بعزمٍ سياسي حقيقي، إقرار القانون في الوقت المحدد إذا عمد إلى تقسيم مناقشة الفقرات المختلفة من القانون بين اللجان التشريعية المتعددة ذات الصلة. لكن على ضوء عملية إقرار قانون الانتخابات البلدية والجهوية التي استغرقت وقتاً طويلاً وأثارت خلافات وسجالات، غالب الظن أن إقرار مجلة الجماعات المحلية سيواجه تأخيراً مماثلاً، وقد تتحوّل مراجعة القانون إلى موضوع سجال حزبي. فمن شأن الأحزاب السياسية التي تحقق أداء جيداً في الانتخابات المحلية أن تدعم منح سلطات أكبر للمجالس البلدية التي تسيطر عليها، أملاً في أن يؤمّن لها ذلك أيضاً الشعبية المحلية الضرورية لإحراز نتائج جيدة في الانتخابات البرلمانية في العام 2019. أما الأحزاب التي سيكون أداؤها سيئاً في الانتخابات المحلية، فسوف تحاول عرقلة عملية تطبيق اللامركزية وتعطيل عمل هذه المجالس عبر منع إقرار مجلة الجماعات المحلية.
على هذا الأساس، دعت جبهة الإنقاذ والتقدم التي تضم عشرة فصائل سياسية – منها الاتحاد الوطني الحر، ومشروع تونس الذي أنشأه منشقّون من حزب نداء تونس الحاكم – إلى إرجاء الانتخابات بانتظار إقرار مجلة الجماعات المحلية. وأعلن هذا الائتلاف، الذي رصّ صفوفه في الثاني من نيسان/أبريل الماضي لتشكيل معارضة موحّدة في وجه النهضة، أنه سيقدّم طعناً أمام المحكمة الإدارية لنقل موعد الانتخابات من كانون الأول/ديسمبر 2017 إلى آذار/مارس 2018. تحظى هذه الخطوة بالدعم من أحزاب أخرى صغيرة أو جديدة، أملاً منها بأن يتيح لها تأجيل الانتخابات لبضعة أشهر إضافية مزيداً من الوقت من أجل الاستعداد لخوض التحدّي الانتخابي. في غضون ذلك، يدرك حزب نداء تونس وحركة النهضة، وهما الأوفر حظاً لتحقيق نتائج جيدة في الانتخابات المقبلة، أهمية إقرار مجلة الجماعات المحلية، إلا أنهما يعتبران أنه يجب ألا يكون هناك مزيد من التأجيل في إجراء الانتخابات. كذلك تؤيد الهيئة العليا المستقلة للانتخابات إجراء الانتخابات هذا العام كي تحظى بالوقت الكافي للتحضير للانتخابات التشريعية والرئاسية المزمع إجراؤها في العام 2019.
في حين يؤمّن الدستور إطاراً عاماً ومبادئ واسعة تقوم عليها اللامركزية، ثمة حاجة إلى تشريعات خاصة لتطبيقها. على الرغم من غياب هذه التشريعات، انتشرت تجارب متعدّدة في الإدارة المحلية والديمقراطية التشارُكية في مختلف أنحاء البلاد، بما في ذلك بذل جهود عدة من أجل وضع الموازنة بطريقة تشاركية. علاوةً على ذلك، قام المواطنون في واحة جمنة الجنوبية بممارسة حقهم في إدارة عقار مملوك من الدولة، وقد شكّلوا جمعية لإدارة الأرض بطريقة جماعية، واستخدموا الإيرادات بنجاح لتعزيز التنمية المحلية بما يعود بالفائدة على المجتمع المحلي ككل. تسلّط هذه التجربة الضوء على الحاجة إلى مراجعة القوانين حول الأملاك العامة ومنح السلطات المحلية الصلاحيات اللازمة لإدارتها. تقف العملية الإصلاحية في تونس عند مفترق أساسي؛ من شأن النجاح في انتخاب مجالس محلية جديدة تعمل بموجب الدستور، أن يساهم في ردم الهوة بين المواطنين والطبقة السياسية، وتجديد الثقة بالانتقال الديمقراطي في البلاد.
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.
تسنيم عبد الرحيم مساعدة بحثية في المركز الأوروبي لإدارة السياسة الإنمائية وفي مركز الدراسات المتوسطية والدولية.