المصدر: Getty
مقال

ما وراء الأزمة القطرية

التصعيد السريع في وتيرة التشنّجات خلال الأسابيع القليلة الماضية يحمل تأثيرات مهمة على الوحدة والأمن وميزان القوى في منطقة الخليج.

 نقاش صدى
نشرت في ١٥ يونيو ٢٠١٧

الموقف المفاجئ الذي اعتمدته السعودية عبر شنّها هجوماً لاذعاً على قطر واتّخاذها إجراءات لعزلها في الخامس من حزيران/يونيو، دفع بالمنطقة نحو أجواء يخيّم عليها الالتباس والترقّب. سرعان ما انضمت إلى هذه الحملة كل من مصر والبحرين والإمارات العربية المتحدة وبلدان أخرى – وكذلك حكومة هادي في اليمن وحكومة حفتر في ليبيا – وقد بادرت المملكة إلى قطع العلاقات الديبلوماسية مع قطر، وفرض حظر جوي وبحري وبري عليها.

على الرغم من أن الأزمة الراهنة تُرجِّع أصداء الانقسام الذي شهده مجلس التعاون الخليجي في العام 2014، إلا أن التصعيد السريع في وتيرة التشنّجات خلال الأسابيع القليلة الماضية يحمل تأثيرات مهمة على الوحدة والأمن وميزان القوى في منطقة الخليج وخارجها.

يتطرّق أربعة خبراء إلى الأزمة من وجهات نظر مختلفة، وإلى مفاعيلها بالنسبة إلى المنطقة. ندعوكم للانضمام إلى النقاش عبر مشاركتنا آراءكم في قسم التعليقات.

الخليج ولعبة الغالب والمغلوب

محمد المشد

محمد المشد، صحافي مصري وطالب دكتوراه في كلية الدراسات المشرقية والأفريقية في لندن.

بغض النظر عن السياسة التي تنتهجها قطر في المنطقة أو سجلها في مجال حقوق الإنسان (ويمكن قول الكثير عن الأمرَين معاً)، فإن مقولة أنه بإمكان محور السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر تأنيبها بمصداقية في هاتَين المسألتين تحديداً، تكاد تكون عبثية ومنافية للمنطق. نسلّم جدلاً بأن قطر منحت لجوءاً لعدد من الشخصيات البغيضة جداً في الآونة الأخيرة، ومنهم بعض الأعضاء الأكثر تشدداً في تنظيمات إسلامية مصرية؛ وبأنها تدخّلت في السياسات المحلية. بيد أن نظرة سريعة إلى خبايا كل واحد من الأنظمة الأخرى الضالعة في هذا المأزق، تكشف عن قدر كبير من الأنشطة المشابهة على الأرجح، مثل تمويل المجموعات القتالية المتطرفة في سورية، والمساعدة على تعزيز مكانة الأنظمة الديكتاتورية في مختلف أنحاء المنطقة. ليس التحرّك الأخير مدفوعاً بأي اعتراضات أخلاقية على الأنشطة القطرية، بل يشكّل وسيلة غير مسبوقة من أجل ليّ ذراع قطر لحملها على الرضوخ، أو إسكات وسائل الإعلام القطرية، أو الانتقام من قطر بسبب مغامراتها السياسية.

في حالة النظام المصري، ربما تجتمع الأهداف الثلاثة معاً. لقد استشف عبد الفتاح السيسي فرصة جديدة ليركب مطيّة النظام الملَكي السعودي الذي فرض عليه أن يقدّم له الطاعة حتى قبل أن يصبح رئيساً. يريد السيسي أن تدفع قطر ثمن دعمها المستمر لجماعة الإخوان المسلمين التي يبذل الرئيس المصري قصارى جهده من أجل حمل الولايات المتحدة على إدراجها على قائمة التنظيمات الإرهابية. لو بادر السيسي إلى اتخاذ إجراءات أحادية ضد بلدٍ غالباً ما كان أسياده السعوديون يتحدّثون عنه بعبارات عائلية ودّية، كان ليعرّض نفسه لخطر الاصطفاف في الجانب الخطأ بالنسبة إليهم وفقدان الحظوة لديهم. وعلى الرغم من اتخاذه تدابير ضد وسائل إعلام قطرية على غرار قناة "الجزيرة" وموظّفيها (المصريين في معظم الأحيان)، كان يدرك أن التصويب بصورة أوسع نطاقاً على دولة تنتمي إلى مجلس التعاون الخليجي يحمل مخاطر جمة بالنسبة إليه. لا يأتي أحد فعلياً على ذكر دور السيسي في الأزمة الراهنة، وربما كان ذلك مؤشراً عن جلوسه في المقعد الخلفي، وعن تراجع مكانة مصر المتصوَّرة كقوة إقليمية في الأعوام الأخيرة.

على الرغم من أن حدّة الخلاف مع بلدان مجلس التعاون الخليجي مفهومة، إلا أنها أقل توقّعاً إلى حد ما. فقد جمعت عناصر كثيرة بين هذه القوى الحاكمة بطرقٍ بدا معها أنه من غير الوارد أن تصل الأمور إلى هذا المستوى من التصعيد. صحيح أنه لم يكن هناك تعاونٌ يُذكَر بين قادة مجلس التعاون الخليجي في الآونة الأخيرة، لا سيما في مجال التعاطي مع التركيبة السياسية المتحوِّلة في المنطقة. بيد أن الطبيعة المتشابهة عموماً لهيكليات السلطة الخاضعة لكل واحد من حكّام تلك البلدان، تشي بأن لديهم مصلحة مشتركة في تبادل الدعم والمؤازرة. كان ذلك واضحاً إلى حد كبير عندما شاركت البلدان الستّة في مجلس التعاون الخليجي في قوات درع الجزيرة للتدخّل دعماً لملك البحرين خلال احتجاجات الربيع العربي.

في الواقع، كان الخوف يتملّك هذه الأسر الحاكمة من وصول تأثير الدومينو الذي أطلقه الربيع العربي، إلى عقر داها، وسادت هذه المخاوف في شكل خاص في السعودية حيث أبدت تيارات عدة، تاريخياً، معارضتها لآل سعود. كانت الحكومة السعودية متمسّكة جداً بعدم السماح بحدوث خرق في الوضع القائم في شكل عام، إلى درجة أنها تصدّرت الدعوة إلى ضم المغرب والأردن إلى مجلس التعاون الخليجي من أجل ترسيخ قبضة المؤسسات "السيادية" الجماعية في المنطقة.

تحوّلت قطر، في نظر المحور المذكور، من مصدر إزعاج يمكن التحكّم به داخل هذه المؤسسة إلى عائق شديد أمام الخطط المستقبلية لتلك البلدان. وربما بالغ آل ثاني، حكّام قطر، في الثقة بالنفس أيضاً، ظناً منهم أن مناوراتهم السياسية قادرة على الدوام على التخفيف من حدّة التداعيات التي يمكن أن تنجم عن شقّهم للصفوف. وقد ذهب ذلك أبعد من الأدوات السياسية والاقتصادية وتعدّاها إلى هجوم إعلامي وفكري ترك أثراً عميقاً في قنوات التواصل وفي القطاع الأكاديمي في المنطقة.

وهكذا بدا أن السبيل الوحيد لاتخاذ إجراءات جذرية ضد هيكلية سلطة تقليدية هو من خلال ائتلاف يتحرّك بصورة موحّدة. لقد بات لدى كل واحدة من هذه الحكومات اقتناعٌ، على مستوى فردي، بأنه يجب فعل شيء ما، لكنها كانت بحاجة إلى تطمينات بأن ذلك لن يؤثّر في مكانتها العالمية. هنا يأتي دور دونالد ترامب الذي وجّه إلى المعنيين في تلك الحكومات الرسالة الآتية: "افعلوا الأمر وحسب". يحمل أسلوب التحرك ضد قطر البصمات التي تنطبع بها طريقة ترامب في المناورة: كان التحرك فجائياً، وحاداً، ولم يجرِ التفكير ملياً بعواقبه. 

عبر القيام بذلك، يولّد المحور بالضبط السابقة التي حاول تلافيها في ما مضى. فقد كانت هناك قاعدة غير معلَنة بين الأوتوقراطيين العرب، ومفادها أنه لا يجدر بأيٍّ منهم أن يتحدّى بصورة مباشرة سلطة الطرف الآخر. لقد مارست قطر ضمنياً هذا التحدي من خلال وسائل إعلامها، إلا أن قيادتها حافظت على المظاهر التي تدّعي العكس في هيكليات الحكم الأخرى. والآن ولّدت المطالب الموجَّهة إلى قطر لعبة غالب ومغلوب حيث لا بد من أن يخرج فريق ما خاسراً.

إذا وافقت قطر على المطالب – وتجدر الإشارة إلى أنها ستتكبّد أضراراً بالغة في حال خسارتها مكانتها بين أقرانها في مجلس التعاون الخليجي بصورة دائمة – فذلك سوف يسطّر نهاية المشروع الكبير الذي أطلقه الأمير حمد بن خليفة آل ثاني في التسعينيات لجعل بلاده مركز ثقل ديبلوماسي وفكري يتولّى قيادة المساعي الحميدة في المنطقة. أما إذا لم توافق على المطالب، ولم يدعم ترامب مزيداً من التحركات ضدها، فهذا قد يسدّد ضربة إضافية للسعودية وادّعائها التفوق الإقليمي، والذي يعاني أصلاً من تداعيات مساعيها الأخرى، لا سيما الحرب في اليمن.

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.

نفوذ قطر السياسي

نيل بارتريك

نيل بارتريك محرّر ومساهم أساسي في "السياسة الخارجية السعودية: النزاع والتعاون" (آي بي توريس، 2016). لمتابعته عبر تويتر: neilpartrick@

تُختصَر الأزمة التي تعصف بمجلس التعاون الخليجي، بالمحاولة الواضحة والصريحة التي تُبذَل لكبح الاستقلالية القطرية. يكشف هذا التطور، الذي تقوده السعودية والإمارات، مع انضمام البحرين إلى الركب، عن الفشل الذريع لمشروع الوحدة الخليجية.

في عهد الملك عبدالله بن عبد العزيز آل سعود، كان الاندماج يقتصر على الكلام والتأكيدات التي تُطلَق في الخطب والتصريحات، غير أن حاكم السعودية بحكم الأمر الواقع، محمد بن سلمان، يعتمد استراتيجية عملية: إذا لم تبدّل سياستك الخارجية رأساً على عقب، سنقضي على اقتصادك واستقلاليتك.

الأكثر إثارة للقلق هو أن ولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وولي العهد الإماراتي محمد بن زايد حصلا على التشجيع، في هذه المغامرة المتهوّرة، من السياسة الأميركية البائسة في الشرق الأوسط التي تستند إلى مفاهيم مغلوطة عن مصالح الولايات المتحدة ومصالح حلفائها الخليجيين.

يرفض القطريون أن يتم تصنيف الإخوان المسلمين بأنهم أساس الإرهاب الإقليمي بمختلف أشكاله، أو تصنيف إيران بأنها التهديد الأمني الأكبر لهم. والسبب هو أن الإخوان ليسوا أساس الإرهاب الإقليمي، وإيران ليست التهديد الأمني الأكبر، ومن وجهة النظر القطرية، ادّعاء ذلك أمرٌ غير منطقي. في حين خلقَ القطريون لأنفسهم أعداء في مجلس التعاون الخليجي، ليست قناة "الجزيرة" بالخبر الجديد، والدعم القطري للمقاتلين الإسلاميين في سورية جرى تحجيمه لمصلحة الاحتكار السعودي لذلك الدور. لقد أثارت الدعوة التي وُجِّهت إلى تركيا، التي تشارك قطر إعجابها بالإخوان، لنشر عدد قليل من القوات في الدوحة، غضب السعوديين والإماراتيين، لكنها لا تُقارَن بالمنصّات العسكرية التي يمنحها القطريون والسعوديون والإماراتيون للولايات المتحدة. في آخر أزمة اندلعت في مجلس التعاون الخليجي وكان محورها قطر في العام 2014، خرجت الدوحة من المأزق عبر طرد بعض الشخصيات الإخوانية وقطع وعد بالحدّ من التغطية المتعاطفة مع الإخوان التي تبثها قناة "الجزيرة". في الأزمة الراهنة، أرُسِلت بعض الشخصيات البارزة في حركة حماس إلى تركيا أو قيل لهم إنهم لا يستطيعون أن يستقروا في قطر. لكن هذه الإجراءات ليست كافية بالنسبة إلى المقاربة السعودية الجديدة التي لا تقبل بأي انحراف عن الخط من قبل باقي الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي.

في مواجهة الضغوط التي تقودها السعودية لعزل قطر براً وجواً، اضطُرّ القطريون، وهذه مفارقة، إلى توسيع علاقاتهم مع إيران التي باتت منشآتها المرفئية ومجالها الجوي ترتدي أهمية محورية من أجل وصول قطر إلى العالم الخارجي. قام وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني بزيارة إلى روسيا مؤخراً، وتبدو موسكو متيقّنة من أن قطر ستُبقي على استثماراتها في عملاق الطاقة الروسي "روزنفت". قد يرحّب السعوديون والإماراتيون، في خطوة عبثية، بهذه التطورات، لأنها قد تشجّع الولايات المتحدة على إغلاق مركز قيادتها العسكرية الإقليمية في قاعدة العُديد في قطر.

تحتاج قطر إلى القاعدة الأميركية لأنها تمنحها تحوّطاً مستمراً في مواجهة السيطرة السعودية؛ وتريد الولايات المتحدة الاحتفاظ بها خشية أن تتحوّل قطر، في غياب هذه القاعدة، إلى "بوّابة" لإيران تماماً كما يتّهمها جيرانها. أكثر من ذلك، إذا تخلّت الولايات المتحدة عن قطر، فقد تُحوِّل هذه الأخيرة الوجود الرمزي للقوات التركية على أراضيها إلى حامية عسكرية، والأسوأ من ذلك، من وجهة نظر المؤسسة الأمنية الأميركية، أنه قد يصبح للروس موطئ قدم هناك أيضاً. فيما يعي وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون وشخصيات أخرى في الإدارة الأميركية، المخاطر التي أطلق لها الرئيس ترامب العنان في الخليج، قد تكون القاعدة الأميركية قرب الدوحة الأداة التي ستستخدمها واشنطن لتشجيع القطريين على تغيير بعض الجوانب في سياستهم الخارجية.

قبل العام 1990، حاول السعوديون الاستقواء على الكويت، وأصيبت الولايات المتحدة بالبارانويا لأجل ذلك. وقد اضطُرّت الكويت، التي لم تكن تضم قاعدة أميركية على أراضيها بسبب مواقفها العروبية، إلى إغلاق مجلس نوابها المثير للمتاعب تحت تأثير الضغوط السعودية في العام 1976. تدرك قطر أن المنشأة العسكرية الأميركية الضخمة الموجودة على أراضيها، هي التي تحول دون إدارة السعوديين لعلاقاتهم الداخلية والخارجية بالطريقة نفسها اليوم. قد يدفع عدد قليل من القادة الإخوانيين الثمن من أجل الاحتفاظ بالقاعدة الأميركية. لكن غالب الظن أن قطر لن تقدّم مزيداً من التنازلات، وهي تتمتع ببعض النفوذ الخاص بها. في حال تعرّضت قطر لليّ الأذرع، وعلى ضوء الأهمية التي ترتديها في الوصول الإقليمي والعالمي إلى الغاز، سوف يعاني أصدقاؤها الغربيون والإمارات العربية المتحدة (المستهلِكة الأولى للمنتجات القطرية في الخليج)، من التداعيات. سوف يكون على محمد بن سلمان ومحمد بن زايد التراجع إلى حد كبير عن مواقفهما لتجنّب استفحال الأزمة. إنه تحدٍّ ديبلوماسي على الولايات المتحدة أن تدعمه بقوة لتكون لدى الكويتيين والوسطاء المحتملين الآخرين مادّة مهمة ومجدية يمكن طرحها في النقاش.

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.

فرصة ذهبية لإيران

تامر بدوي

تامر بدوي زميل أبحاث في "منتدى الشرق" الذي يتخذ من اسطنبول مقراً له، متخصص في الاقتصاد السياسي في الشرق الأوسط مع التركيز على إيران. لمتابعته عبر تويتر: TamerBadawi1@

كشفت ردود الفعل غير الرسمية الأولى في طهران على الحظر الذي تقوده السعودية ضد قطر، عن تعاطف إيراني ضمني مع الدوحة. في حين اتخذت وزارة الخارجية الإيرانية موقفاً محايداً في الظاهر من الأزمة، أظهرت التطورات اللاحقة أن طهران تميل بكل وضوح نحو الدوحة. قد يتبيّن أن الحملة التي تخوضها السعودية والإمارات والبحرين ضد قطر هي بمثابة منجم ذهب لإيران وسط المحاولات الديبلوماسية المتواصلة التي تبذلها إدارة ترامب لعزل طهران.

توجّه وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، إلى أنقرة في السابع من حزيران/يونيو الجاري لمناقشة الأزمة الخليجية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. بعد يومَين، اتفق ظريف ونظيره الروسي، سرغي لافروف، خلال قمة منظمة شنغهاي للتعاون، على الخروج بموقف موحّد حول الأزمة في الخليج، ما عكس الحرص الروسي على الحفاظ على الاستثمارات القطرية في القطاع النفطي الروسي والإبقاء على توازن معيّن في المنطقة. في اليوم نفسه، ناشدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تركيا وإيران ودول الخليج العمل على إيجاد حل للأزمة. وهكذا تمكّنت إيران، بدفعٍ من هذا الدعم الواسع، من إعادة التموضع في موقع فريق أساسي في اللعبة على الرغم من أن علاقاتها مع الثلاثي الخليجي متشنّجة – في أفضل الأحوال – لا سيما مع الرياض.

لقد ساهمت مكامن الضعف الجيوسياسية التي تعاني منها قطر، والتي كشفت عنها الأزمة، في تعزيز موقع إيران نظراً إلى الجوار الجغرافي بين البلدَين. قامت إيران بإرسال شحنات كبيرة من المواد الغذائية إلى قطر – هذا مع العلم بأن الجزء الأكبر من المساعدات الغذائية التي تُنقَل جواً إلى قطر مصدره تركيا. وفيما تحرص قطر من الآن فصاعداً على تنويع مصادر إمداداتها الغذائية، غالب الظن أن التجارة الثنائية بينها وبين إيران سوف تزداد. في السنة الفارسية 1394 (2015-2016)، بلغت قيمة الصادرات الإيرانية غير النفطية إلى قطر 165.4 مليون دولار أميركي فقط. فضلاً عن ذلك، قد تتيح الأزمة لإيران أن تصبح مركزاً للمواصلات في المنطقة في المستقبل، على الرغم من أنها لا تملك بعد المقوّمات اللازمة. عندما أغلقت مصر ودول الخليج الثلاث مجالها الجوي أمام الخطوط الجوية القطرية، فتحت إيران مجالها الجوي من أجل السماح لشركات الطيران القطرية بإعادة توجيه مسار رحلاتها إلى أوروبا عن طريق تركيا.

إن وقوف إيران إلى جانب قطر في مواجهة الضغوط الهائلة التي يمارسها عليها زملاؤها الثلاثة في مجلس التعاون الخليجي، قد يُتيح لطهران تحقيق العديد من المكاسب الجيوسياسية. فعبر تقديم الدعم لقطر، حليفة تركيا الأساسية في الخليج، تُوسِّع إيران الأرضيّة التي تستطيع الانطلاق منها مع أنقرة من أجل التعاون في المنطقة. يعتقد بعض المراقبين أن تجدّد التمرد الكردي على أيدي مقاتلين تابعين لحزب العمال الكردستاني في إيران قد يساهم في التقريب بين طهران وأنقرة كونهما تواجهان القضية نفسها، على الرغم من الاختلاف في درجات تأثيرها عليهما. علاوةً على ذلك، يُرجَّح أن تؤدّي الاعتداءات التي نفّذها مسلّحون أكراد تابعون لتنظيم الدولة الإسلامية في طهران في السابع من حزيران/يونيو الجاري، إلى تعزيز الحضور الأمني الإيراني في المنطقة الواقعة شمال غرب البلاد على الحدود مع تركيا. وفي نظر إيران، من شأن توسّع الهوّة بين تركيا وقطر والسعودية أن يؤدّي إلى إضعاف موقف المعارضة السورية أكثر فأكثر في الجولات التفاوضية المقبلة مع النظام السوري وداعميه، فالمنافسة بين الجهات الراعية للمعارضة سوف تتسبّب على الأرجح بمزيد من الانقسامات داخل هذا المعسكر.

تسعى إيران جاهدةً لاستغلال الخلافات بين الأفرقاء في الكتلة الخليجية التي تعاني من خلل سياسي واقتصادي يزداد تفاقماً. خلافاً للأزمة الديبلوماسية التي عصفت بالخليج في العام 2014، ستكون لهذه الأزمة تداعيات بعيدة المدى على المشهد السياسي في الشرق الأوسط.

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.

خط الدفاع السعودي

منصور المرزوقي

منصور المرزوقي باحث في شؤون السياسة السعودية في كلية العلوم السياسية في ليون. لمتابعته عبر تويتر: 0albogami@

يقف عنصران، غالباً ما يتم تجاهلهما، خلف الأزمة الراهنة في الخليج العربي. فهناك ما أسمّيه عجزاً استراتيجياً بسيكولوجياً يجعل المسؤولين القطريين يشعرون بهشاشة مزمنة، وهذا مبرَّر في جزء منه: فقطر عاجزة، بسبب حجمها الجغرافي، عن امتصاص الصدمات مثل الهجمات العسكرية (المصطلح المستخدَم لتوصيف هذه الحالة هو غياب العمق الاستراتيجي). تعويضاً عن ذلك، تحاول قطر باستمرار، كما أعتقد، إرساء توازن بين معسكرَين: معسكر يلتزم بالمنظومة الإقليمية وآخر تعديلي يضم أفرقاء على غرار إيران والإخوان المسلمين، ويسعى إلى إعادة هيكلة المنظومة الإقليمية، لأن المنظومة الراهنة لا تتناسب مع مصالحه أو رؤيته للعالم.

قطر التي تخضع لنظام ملكي مطلق والتي هي عضو كامل في المنظومة الإقليمية، تستخدم ورقتها الاستراتيجية الوحيدة – أي إمكاناتها المادّية – لبناء شبكة من التحالفات مع أفرقاء يسعون إلى تعديل منظومة المنطقة. الهدف الأساسي هو توليد ديناميكية من الضوابط والتوازنات بين المنظومة الإقليمية والنزعة التعديلية. وقد أوضحت السعودية، من جهتها، منذ آذار/مارس 2014 أنها لن تتقبل تداعيات الممارسات القطرية.

تتدخل إيران في بلدان أخرى تحت رايات مذهبية، معوِّلةً على أفرقاء غير دولتيين، مثل عصائب أهل الحق في العراق، وحزب الله في لبنان، وخلية العبدلي في الكويت، والحوثيين في اليمن. وهي تسعى، من خلال تأكيدها على الهويات المذهبية في المنطقة، إلى تعبئة هؤلاء الأفرقاء غير الدولتيين، ما يتسبّب بتقويض الحكومات المركزية ويمنح اندفاعةً للأهداف التي تسعى طهران عبرها إلى تعديل المنظومة الإقليمية. علاوةً على ذلك، لدى الإخوان المسلمين، الذين حصلوا على جرعة زخم بفعل الربيع العربي، رؤية عن عالم إسلامي موحَّد في ظل قيادة واحدة، وهم يعتبرون أن الأنظمة الملَكية في الخليج العربي تشكّل عائقاً أمام تحقيقها. تعارض المملكة العربية السعودية هذه الرؤية، وتخشى أن تتم الاستعانة بأفرقاء من الداخل السعودي على ارتباط بالإخوان من أجل بلوغ هذا الهدف.

لقد سعت قطر للحصول على مظلة أمنية، وكان لها ما أرادت من خلال الوجود العسكري الأميركي في قاعدة العُديد الجوية. وعمدت إلى تنويع تحالفاتها في قطاع الطاقة استناداً إلى ثروتها في قطاع الغاز كي تقيم مسافة بينها وبين الهيمنة السعودية على النفط. في حين أنه لقطر حضور ناشط داخل مجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية، بنت الإمارة في الوقت نفسه علاقة شراكة مع الإخوان المسلمين في مختلف أرجاء المنطقة، بما في ذلك فروع الإخوان في السعودية – فيما اعتبرت نفسها بمأمن من تأثير الجماعة في الداخل بسبب قاعدة العديد العسكرية، ولأنها تضم عدداً قليلاً من السكان الذين تستطيع استرضاءهم بسهولة نسبياً. ومنذ العام 2000 حتى اندلاع الثورة السورية، حافظت قطر أيضاً على تعاون وثيق مع تركيا وإيران، ومع حزب الله ونظام بشار الأسد اللذين يدوران في الفلك الإيراني.

وقد حاولت الرياض وضع حد لهذا التعاون الذي شكّل عائقاً أمامها في أحيان كثيرة. ثم تحوّل السعي القطري خلف التأثير والنفوذ إلى حرب باردة مع السعودية. في العام 2014، كشفت تسجيلات مسرَّبة لاجتماع قديم بين معمر القذافي ومسؤولَين قطريَّين – يُقال إنهما أمير البلاد السابق حمد بن خليفة ووزير خارجيته السابق حمد بن جاسم – عن خطة لإسقاط النظام السعودي وتقسيم المملكة إلى دويلات عدّة. ثم شهدت هذه الحرب الباردة تصعيداً، ما دفع بالسعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين إلى سحب سفرائها من قطر لمدّة ثمانية أشهر في العام 2014. على الرغم من أن قطر وقّعت آنذاك اتفاق الرياض، الذي وافقت بموجبه على أن تنأى بنفسها عن النزعة التعديلية، إلا أنها لم تلتزم به. ومن هنا الأزمة الراهنة حيث الكلمة الأساس هي التعديلية.

تريد المملكة من قطر الكفّ عن مساندة الأفرقاء التعديليين داخل مناطق النفوذ السعودية – أي في اليمن ومصر ودول الخليج العربي. عندئذٍ فقط يمكن أن نشهد على نهاية للأزمة.

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.