المصدر: Getty
مقال

النائب العام المطواع للنظام في السعودية

تُظهر حملة مكافحة الفساد في السعودية كيف يُستخدَم الادعاء العام من أجل إضفاء واجهة من الشرعية على ملاحقة الأشخاص المستهدَفين.

 عبدالله العودة
نشرت في ٢٧ فبراير ٢٠١٨

أعلن المسؤولون السعوديون، في كانون الثاني/يناير الماضي، أنهم يسعون – في إطار حملة مكافحة الفساد – إلى استرداد "أموال غير مشروعة" قدرها مئة مليار دولار. لم يكن واضحاً كيف اعتمدت حملة يُفترَض أنها قانونية، هدفاً اقتصادياً محدّداً من هذا القبيل، ولم يكن واضحاً أيضاً ما إذا كانت الإجراءات القضائية قادرة على التعامل مع هذه الخطوات الحسّاسة والمهمة ضد شخصيات ذات شأن في البلاد. هذه الإجراءآت التي يشرف عليها ولي العهد وليس الادّعاء العام تسلّط الضوء على سيطرة السلطة التنفيذية المتنامية على القضاء.

في 17 حزيران/يونيو 2017، نصّ مرسوم ملكي على تغيير منصب المدعي العام إلى منصب النائب العام، والأهم من ذلك، ادّعى المرسوم منح النيابة العامة – المسؤولة عن التحقيقات والملاحقة القضائية في القضايا الجنائية – "استقلالاً تاماً" عبر جعلها مرتبطة مباشرةً بالملك. لقد حلّت النيابة العامة الجديدة مكان هيئة التحقيق والادعاء العام، التي كانت تخضع لإشراف وزارة الداخلية، وفق ما تنص عليه المادة الأولى من نظام هيئة التحقيق والادعاء العام – مع الإشارة إلى أنه قبل شباط/فبراير 2015، لم يكن موظّفو الهيئة يُعتبَرون حتى مسؤولين قضائيين. أبدى عدد كبير من القضاة والمحامين ترحيبهم بالترتيب الجديد، ورأوا فيه خطوةً نحو استقلال القضاء وتطبيق سيادة القانون. قال لي قاضٍ سابق أصبح محامياً بأن جميع القضاة الذين استطلع آراءهم، اعتبروا أن ربط النيابة العامة مباشرةً بالملك "تغييراً إيجابياً" يمكن أن يحمي الادّعاء العام من التدخل المباشر من السلطة التنفيذية، لا سيما من وزير الداخلية.1

تزامناً مع المرسوم، قام الملك بتعيين سعود المعجب نائباً عاماً، قبل أربعة أيام فقط من التعديل الكبير الذي نُصِّب من خلاله محمد بن سلمان ولياً للعهد. على الرغم من أن بعض القضاة أبدوا سرورهم لأن النائب العام الجديد شخصية تقليدية محافظة ذات خلفية في الشريعة الإسلامية، إلا أن عدداً كبيراً من القضاة والمحامين أعرب عن خيبة أمله. ومع أن المعجب عمل في البداية قاضياً، ثم عضواً في المجلس الأعلى للقضاء، إلا أن تجربته اقتصرت، بصورة شبه حصرية، على قضايا الأحوال الشخصية – ما يعني أن معارفه وخبراته أكثر محدودية في مجال القانون الجنائي الذي يجب أن يكون النائب العام ضليعاً فيه. وفقاً لأحد القضاة، المعجب غير حائز على شهادة عليا، ولم يؤلّف كتباً أو أبحاثاً، ولم يشارك في نقاشات فقهية حول القانون الجنائي.2

كذلك انقسم القضاة والمحامون حول التوصية التي أصدرها المعجب بعد بضعة أيام من تعيينه، والتي قضت بالتعجيل في إجراءات محاكمة جميع المعتقلين المتّهمين في قضايا جنائية. كان عددٌ كبير من القضايا الجنائية قد شهِد تأخيراً، لأسباب بيروقراطية على الأرجح، غير أن النائب العام الجديد ألقى باللائمة على القضاة. في حين أن التوصية تطرّقت إلى أمرٍ اعتبره عدد كبير من القضاة مصدراً مشروعاً للقلق ، إلا أن التوصية – على أية حال – لم تساهم في التعجيل في المحاكمات، ورأى بعض القضاة في الخطوة تعدّياً على اختصاصهم. وأفضى هذا التشنّج، في آب/أغسطس 2017، إلى تسرّب أخبار عن الخلاف بين النائب العام ووزير العدل وليد بن محمد الصمعاني على خلفية المسألة.

في حين يرى البعض في المشاحنة مؤشّراً عن خلاف أعمق بين النائب العام المتقدّم في السن والتقليدي المحافظ من جهة، وبين وزير العدل الشاب والإصلاحي من جهة أخرى، إلا أن المشكلة الحقيقية هي السيطرة المتواصلة التي تمارسها السلطة التنفيذية على الشؤون القضائية، والتي فرضت تعيين شخصية طيّعة مثل المعجب. لم يكن للمعجب، خلال عضويته في المجلس الأعلى للقضاء، تأثيرٌ يُذكَر، وكان يدعم كل القرارات الصادرة عن رئيس المجلس آنذاك: يقول أحد القضاة إنه "من السهل جداً التحكّم" بالمعجب.3 وهكذا فإن التغيير الذي تأخّر كثيراً، أتاح للحكومة تعيين شخص يمكن التأثير عليه – شخص يستطيع تسهيل حملة التطهير التي كان محمد بن سلمان مزمعاً على شنّها خارج نطاق الإجراءات القضائية.

في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر 2017، بدأت الحملة ضد الأمراء والمسؤولين في الحقل العام إبان صدور مرسوم ملكي ينص على إنشاء لجنة لمكافحة الفساد برئاسة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. اختير المعجب للانضمام إلى اللجنة ليكون فيها بصفة عضو عادي فحسب – هذا مع العلم بأن اللجنة باعتبارها تمارس مهمة الادعاء كان يجب أن تندرج ضمن صلاحيات المعجب كنائب عام كرئيس للجنة. وعلى الرغم من أن المرسوم الصادر في حزيران/يونيو 2017 ينص على أن النائب العام مرتبط مباشرةً بالملك، إلا أنه، بصفته عضواً في لجنة مكافحة الفساد، مرتبطٌ بولي العهد. وهذا الإجراء ينطوي على تناقض قانوني كبير. أصدر المعجب، في الثامن من تشرين الثاني/نوفمبر، بياناً خطّياً عن قضايا مكافحة الفساد التي تنظر فيها اللجنة، غير أن بعض القضاة السعوديين لاحظوا أن البيان يستخدم لغة تقنية وقانونية جداً غير معهودة من أشخاص ذوي خلفية خالصة في الشريعة الإسلامية مثل المعجب – في تلميح إلى أنه ربما قام شخصٌ آخر بصياغة نص البيان بدلاً عنه، وقد يكون هذا الشخص ولي العهد الحائز على بكالوريس في الحقوق. في بيان المعجب لغة مريبة على مثله حين يقول: "تم الحصول على تفويض قانوني واضح للانتقال إلى المرحلة التالية... وحماية الحقوق القانونية للمتّهمين"، فلم يتّضح لماذا احتاج النائب العام إلى تفويض قانوني إضافي لملاحقة قضايا الفساد، ومَن هي الجهة المخوَّلة إعطاءه هذا التفويض.

على الرغم من بيان المعجب، كان واضحاً أن حملة تطهير الفساد تلتفّ على الآلية القضائية المعهودة. وعلى الرغم من التغطية الواسعة للحملة، لم يؤتَ على ذكر صفقات أو معاملات مشبوهة محدّدة. وليس واضحاً حتى الآن ما هو المقصود بالأموال غير المشروعة التي تصل قيمتها إلى مئة مليار دولار، أو كيف احتُسِبت هذه الأموال. هذا الالتباس أتاح هامشاً أمام اللجنة لاستهداف بعض الشخصيات بصورة عشوائية وغضّ النظر عن شخصيات أخرى متورّطة في الصفقات نفسها التي تجري حولها التحقيقات. فضلاً عن ذلك، وبعد بضعة أيام من انطلاق حملة مكافحة الفساد، نعتَ مسؤول سعودي كبير المقاربة التي تعتمدها لجنة مكافحة الفساد بأنها "مساومة قضائية" (نظام صفقات الإدانة المعروفة عالمياً) يقودها النائب العام بدلاً من إحالة القضايا إلى المحكمة. على الرغم من أن العملية تبقى مبهمة وملتبسة، إلا أن المعجب أعلن أن معظم الأشخاص الذين استهدفتهم حملة مكافحة الفساد تجنّبوا التبعات القانونية إما عبر التخلّي عن الجزء الأكبر من الحصص التي يملكونها في شركاتهم إلى الحكومة أو عبر تحويل الأموال مباشرةً إلى الحكومة. بيد أن المنظومة القانونية السعودية لم تشتمل قط على مفهومٍ ولو مشابه للمساومة القضائية – ما يجعل الأبواب مشرَّعة على الأرجح أمام تقديم طعون قانونية في المستقبل، في حال لم تحظَ هذه الممارسة بالاعتراف من أي دوائر رسمية أو قانونية، ناهيك عن وجودها في النظام القانوني للبلد. يبدو أن هذا المفهوم طُرِح لاحقاً لتبرير استخدام حملة مكافحة الفساد من أجل ابتزاز الأموال من الأمراء ورجال الأعمال الأثرياء، ولتقديم تفسيرٍ مفهوم عالمياً حول سؤال "لماذا لم يمثل أحد من الأشخاص المتّهمين بالفساد أمام المحكمة".

في نهاية المطاف، ساهم المرسوم الذي أحدث تحوّلاً في الادعاء العام، وكذلك تعيين المعجب، في الدفع باتجاه هدفَين متناقضين. فقد شكّل خطوة نحو استقلال القضاء – وهو إجراء إصلاحي طال انتظاره. وبالمقابل، التفّ أيضاً على هذا الاستقلال عبر تعيين نائب عام "يسهل التحكّم به"، ويُضفي دمغة قانونية على ممارسات السلطة التنفيذية غير الخاضعة لأي ضوابط. هذه السيطرة كانت مطلوبة من أجل النجاح المعلَن للعملية الخارجة عن نطاق القضاء التي تدير حملةً قانونيةً حسّاسةً جداً ضد الفساد – وهي حملة يجب دعمها والإشادة بها، إنما يجب أن تخضع، في الوقت نفسه، لسيادة القانون.

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.

عبدالله العودة باحث سعودي وزميل ما بعد الدكتوراه في القانون والحضارة الإسلامية في كلية الحقوق في جامعة ييل. لمتابعته عبر تويتر: aalodah@


1.مقابلة عبر الهاتف، 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2017.
2. مقابلة مع الكاتب، واشنطن، 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2017.
3. المرجع نفسه.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.