في الرابع من كانون الأول/ديسمبر، أدرج المدعي العام في روما خمسة عناصر من الشرطة المصرية وقطاع الأمن الوطني على قائمة المشتبه بهم في قضية خطف جوليو ريجيني وتعذيبه وقتله. كان ريجيني طالب دكتوراه في جامعة كايمبردج يُجري أبحاثاً عن النقابات العمّالية في مصر. اختفى في 25 كانون الثاني/يناير 2016، ثم عُثِر عليه جثة هامدة على قارعة الطريق التي تربط القاهرة بالإسكندرية في الثالث من شباط/فبراير. قبل الإعلان عن قائمة المشتبه بهم، قرر مجلس النواب الإيطالي، أحادياً، قطع العلاقات مع نظيره المصري في 29 تشرين الثاني/نوفمبر، إلى حين تحقيق تقدّم ملحوظ في قضية ريجيني. في غضون ذلك، حذّر وزير الخارجية الإيطالي إنزو موافيرو ميلانيسي، في الثاني من كانون الأول/ديسمبر، من أن الحكومة الإيطالية قد تتجه نحو التصعيد في حال لم تباشر الحكومة المصرية الإجراءات القانونية بحق المشتبه بهم بحلول أواخر العام 2018. وعلى الرغم من الوعد الذي قطعه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في تموز/يوليو 2018، باقتياد قتلة ريجيني أمام العدالة، إلا أن الحكومة المصرية أصدرت بياناً رفضت فيه قائمة المشتبه بهم التي وضعتها روما، كما رفضت استجواب أيٍّ من عناصر الأجهزة الأمنية، بناءً على المطلب الذي ترفعه إليها إيطاليا منذ كانون الأول/ديسمبر 2017.
تُلقي قضية ريجيني بعض الضوء على عمل الأجهزة الأمنية المصرية، ولجوئها إلى الإخفاء القسري للمواطنين المصريين. وفقاً للمفوضية المصرية للحقوق والحريات، سُجِّلت بين آب/أغسطس 2016 وآب/أغسطس 2017، 378 حالة اختفاء قسري. وقد تحدّثت منظمات، على غرار هيومن رايتس ووتش، بالتفصيل عن استخدام التعذيب المنهجي وتلفيق قضايا من جانب قطاع الأمن الوطني والشرطة لانتزاع اعترافات أو إنزال العقاب بالمعتقلين. وتُشير قضية ريجيني إلى أن التعذيب هو أيضاً الوسيلة التي يلجأ إليها النظام دائماً للتعامل مع التهديدات المتصوَّرة، بغض النظر عن حجمها.
بعدما نفى النائب العام نبيل صادق، في البداية، أن يكون ريجيني قد أُخضِع للتحقيق، عاد فصرّح، في أيلول/سبتمبر 2016، أن ريجيني استرعى اهتمام السلطات المصرية في 7 كانون الثاني/يناير من العام نفسه، بعدما قام المخبر محمد عبدالله بالتبليغ عنه إلى قطاع الأمن الوطني للاشتباه بأنه جاسوس. وُضِع ريجيني تحت المراقبة من الشرطة لبضعة أيام فقط، وقد اعتُبِر آنذاك أنه لا يشكّل تهديداً للأمن القومي المصري. عندما اختفى بعد بضعة أسابيع، ادّعى المسؤولون أنه لم يجرِ قط اعتقاله أو استجوابه. بيد أن التسجيلات التي التقطتها كاميرات المراقبة والتي اطّلع المحققون الإيطاليون عليها، وتَظهر فيها محطة مترو القاهرة حيث شوهد ريجيني آخر مرة، تتضمن "فراغات"، ما يؤشّر إلى أنه جرى التلاعب بالتسجيلات في اللحظات التي اختُطِف فيها ريجيني. لاحقاً، خرج إلى العلن شريط فيديو يظهر فيه محمد عبدالله محاولاً الحصول على المال من ريجيني الذي رفض طلبه تكراراً؛ يبدو أنها المحاولة الخرقاء التي قامت بها الدولة للإيقاع بريجيني والإيحاء بأنه جاسوس يحاول شراء معلومات من عبدالله. والمؤشر الأوضح أنه لدى العثور على جثة ريجيني، بدت عليها آثار تعذيب مروّعة، وهي بمثابة علامة دامغة عن الإعدام من دون محاكمة الذي تمارسه القوى الأمنية المصرية. يبدو أن التعذيب استمر أياماً عدّة، وفقاً لما أظهره تشريح الجثة. تتعارض هذه الأدلة مباشرةً مع التفسيرات المتعددة التي ساقتها الحكومة المصرية عن وفاته، والتي تراوحت من حادث سيارة، مروراً بشجار عنيف مع شخص مثلي الجنس تربطه به علاقة عاطفية، وصولاً إلى خطفه وقتله على يد عصابة إجرامية زعمت الشرطة أنها قتلته في تبادل لإطلاق النار في آذار/مارس 2016.
كذلك تُلقي قائمة المشتبه بهم التي قدّمها مدّعي عام روما، بعض الضوء على العملية التي أدّت إلى مقتل ريجيني، عبر الإشارة إلى أن هذه الأساليب الاستهدافية هي جزءٌ من سياسة الدولة الرسمية. فانطلاقاً من مراتب المشتبه بهم ومناصبهم، يبدو أنها كانت عملية مشتركة بين قطاع الأمن الوطني والشرطة. تشتمل هذه القائمة على مسؤولَين في قطاع الأمن الوطني، اللواء طارق صابر والرائد شريف مجدي، فضلاً عن ثلاثة عناصر في قوات الشرطة المصرية: العقيد هشام حلمي، والعقيد أثير كمال، وعنصر الأمن محمد نجم. كان طارق صابر، الذي تقاعد من السلك العسكري، مسؤولاً أمنياً كبيراً في قطاع الأمن الوطني عندما اختُطِف ريجيني، وشريف مجدي مسؤول متوسط الرتبة في قطاع الأمن الوطني كان مسؤولاً عن الفريق الذي كان يلاحق ريجيني. في الفترة التي حدث فيها الاختطاف، كان العقيد هشام حلمي يؤدّي خدمته في مركز للشرطة في حي الدقي في القاهرة، حيث كان يُقيم ريجيني، وكان العقيد أثير كمال رئيس أحد أقسام الشرطة ومسؤولاً عن الأشغال والانضباط في الشارع.
تدحض رتب هؤلاء المشتبه بهم، وفق ما حدّدها المحققون الإيطاليون، مقولة أن ريجيني وقع ضحية عنصر مارقٍ ما في الشرطة، أو مقولة أن المسؤولين الأعلى في الأجهزة الأمنية لم يكونوا على علمٍ بالعملية. فالنتائج التي توصّل إليها التحقيق الإيطالي تتطابق مع الشهادة التي أدلى بها مسؤول مجهول الهوية في إدارة أوباما قال إن هناك "إثباتات دامغة على أن مسؤولين أمنيين مصريين أقدموا على اختطاف ريجيني وتعذيبه وقتله"، وعلى أن "القيادة المصرية كانت على معرفة تامة بملابسات العملية".
كما أن الجهود الحثيثة التي يبذلها النظام لحماية مَن أُدرِجت أسماؤهم على قائمة المشتبه بهم، تُقدِّم مؤشراً إضافياً عن أن مسؤولين على أعلى مستوى في الأجهزة الأمنية تولّوا إدارة عملية خطف ريجيني وتعذيبه. فالنظام يُعرّض نفسه لخطر الدخول في مواجهة مع شركاء مهمين – إيطاليا وباقي بلدان الاتحاد الأوروبي – من أجل حماية هؤلاء المشتبه بهم. إشارة في هذا الإطار، مثلاً، إلى أن شركة "إيني" المملوكة من الدولة الإيطالية والمتخصصة في الطاقة تُوظِّف 70 في المئة من استثماراتها في مصر، لا سيما في حقول الغاز الطبيعي قبالة الشاطئ والتي تُعوّل عليها مصر لمعالجة النقص الذي تعاني منه في مجال الطاقة.
لقد اختار قطاع الأمن الوطني عدم ترحيل ريجيني أو سجنه، مثلما فعل مع صحافيين وباحثين آخرين يعملون على مسائل حسّاسة. كانت هذه المقاربة لتُوجّه أيضاً رسالة واضحة، ولو لم تكن ربما بالقوة نفسها، بأن المسألة التي كان يعمل عليها تخريبية وتتجاوز الحدود المقبولة. مع ذلك، وعلى الرغم من أن ريجيني لم يكن يُشكّل تهديداً وجودياً للنظام، عمد عملاء من الأجهزة الأمنية إلى تعذيبه بطريقة مروِّعة على امتداد أيام عدّة، ما يعني أنهم ذهبوا أبعد من مجرد النية بترويعه أو ردعه. كما أنه لم يكن يمتلك معلومات حسّاسة ربما أراد النظام انتزاعها منه عن طريق التعذيب، فالدولة كانت تعي تماماً موضوع أطروحته عند اختطافه.
تُظهر قضية ريجيني أن التعذيب هو وسيلة القمع الأساسية التي يلجأ إليها قطاع الأمن الوطني، بغض النظر عما إذا كانت فعالة وكذلك بغض النظر عن الشخص المستهدَف. يندرج ذلك في إطار نمط أوسع من القمع العشوائي والواسع النطاق الذي يُعوِّل عليه النظام للبقاء في السلطة. باختصار، لقد أصبح التعذيب غاية في ذاتها، بدلاً من أن يكون أداةً تُستخدَم لغرض محدد. وغالب الظن أن هذه الظاهرة ستزداد فيما يُحاول النظام إبقاء قبضته على السلطة في وجه الاحتجاجات والاضطرابات الاجتماعية المحتملة.
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.
ماجد مندور محلل سياسي وكاتب عمود Chronicles of the Arab Revolt عبر "أوبن ديمقراسي". لمتابعته عبر تويتر: MagedMandour@