في المراحل الأولى لانتشار وباء "كوفيد 19"، سارع المغرب إلى الإعلان عن سلسلة من الإجراءات الاحترازية من أجل الحد من تفشي الفيروس. حتى تاريخ 16 نيسان/أبريل، سجّلت البلاد رسمياً نحو 2250 إصابة و128 وفاة. غير أن الأوضاع على الساحة العالمية تؤشّر إلى أن الأرقام قد ترتفع سريعاً. لقد أفضى الوعي بشأن مكامن الخلل البنيوية في منظومة الرعاية الصحية الوطنية إلى التسريع في اعتماد إجراءات متشددة في مرحلة مبكرة في المغرب. اللافت أن توجيهات الملك محمد السادس شكّلت، وهذا ليس مفاجئاً إلى حد ما، خارطة طريق منذ البداية، في حين أن الأفرقاء السياسيين الآخرين التحقوا بالركب بصورة أساسية.
أطلقت الدولة في إطار إجراءاتها لمكافحة "كوفيد 19" حملة لترميم الصورة الهدف منها تعزيز الثقة بالبلاط الملكي الذي تمايز بأدائه الدور الأكثر استباقية في مجال إدارة الأمن الصحي. إنه أمرٌ معهود أن تبرز سلسلة القيادة الفعلية على نحوٍ أكبر في الأزمات، ليس أقله كي تثبت نفسها للمواطنين بالمقارنة مع الأفرقاء الآخرين. وقد دعا العاهل المغربي، في سياق حملة إعلامية قوية، إلى إنشاء صندوق تعاضدي بدءاً من 10 مليارات درهم (نحو مليار دولار أميركي)، ولاحقاً ازداد حجمه ثلاثة أضعاف. الهدف من الصندوق هو تحسين البنى التحتية الطبية في مواجهة الجائحة، وامتصاص الصدمة الاقتصادية في القطاعات الأساسية مثل السياحة التي تؤمّن نحو 10 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، ودعم المجموعات الاجتماعية الهشّة. وقد ساهمت في الصندوق منذ تأسيسه شركاتٌ كبرى مثل مجموعة المدى المملوكة من العاهل المغربي، وهي التكتل الاقتصادي الأضخم في البلاد، ومنظمات غير حكومية وحتى وزراء في الحكومة. والدافع الأساسي وراء هذه المساهمات هو الإعفاء الضريبي الذي وُعِد به المساهمون في الصندوق.
وقد أصدر محمد السادس، بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة، أمراً للقوات المسلحة لوضع المنشآت الطبية وطواقمها رهن إشارة المنظومة الصحية في إطار الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لمكافحة الجائحة. إضافةً إلى ذلك، قام الجيش المغربي مؤخراً بإنشاء مراكز طبية وتجهيزها في مناطق عدة في البلاد لمواجهة تفشي وباء "كوفيد 19". ولكن نادراً ما يجري اللجوء إلى الجيش. فنظراً إلى حضور الأجهزة الأمنية في كل مكان وإقرار قانون الطوارئ الصحية، لم تصدر ردود فعل غاضبة عن المواطنين والمراقبين إزاء الحضور المحدود للجيش في الغالب.
حصل الجيش الملكي ووزارة الداخلية – المعروفة بأنها تعمل تحت رعاية الملك – على صلاحيات معزّزة بموجب قانون الطوارئ الصحية. في الوقت نفسه، أحجم الأفرقاء السياسيون الآخرون عن أداء دور قيادي. فهم يُبدون دعماً كاملاً للخطوات الملكية، على نحوٍ انتهازي نوعاً ما، بهدف تجنُّب المساءلة في حال مُنيت سياسات الملك بالفشل. في مؤشر مثير للاهتمام، أعرب 74 في المئة من المجيبين في استطلاع أجراه المعهد المغربي لتحليل السياسات، عن عدم ثقتهم بقدرة المستشفيات على رفع هذا التحدّي الجديد، لكنهم أبدوا رضاهم عن الإجراءات المطبَّقة. بيد أن 58 في المئة من المستطلَعين قالوا إنهم غير واثقين بقدرة الحكومة على إدارة التعاطي مع الجائحة. فثمة بلدان تتمتع بتجهيزات وموارد أفضل، مثل الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وقد تكبّدت تداعيات قاسية جداً بسبب الوباء. وعلى الرغم من التحذيرات التي أُطلِقت على امتداد السنوات من ظهور أوبئة وانتشارها، تكتشف البلدان في مختلف أنحاء العالم أنها تعاني من نقص في أسرّة المستشفيات، وفي الطواقم التمريضية، ومعدات الحماية الأساسية، وذلك بسبب الخفوضات في الإنفاق على قطاع الرعاية الصحية العامة طوال عقدٍ من الزمن بدفعٍ من السعي إلى تحقيق الأرباح والمكاسب المادية.
انطلاقاً مما تقدّم، سوف تكون لتفشّي الفيروس في المغرب تداعيات كارثية على الأرجح. فالمنظومة الصحية في البلاد تعاني من الضغوط والانتكاسات منذ وقت طويل. وفي عام 2019، قدّم أكثر من 300 طبيب في القطاع العام استقالة جماعية بعد إضرابات عمّت مختلف أنحاء البلاد. فقد نزل مئات الأطباء والطلاب في القطاع العام إلى الشوارع مرتدين سترات سوداء، وندّدوا بظروف العمل الرديئة والمتدهورة بالمقارنة مع القطاع الخاص الذي يحصل على تمويل أفضل. وقد عبّروا عن احتجاجهم على تدنّي الأجور، والاكتظاظ في المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية، ورداءة البنى التحتية التي هي دون المستوى المطلوب، والتوزيع المجحف للطواقم والمنشآت على صعيد البلاد.
تُظهر الإحصاءات الأخيرة، وفقاً لمستودع البيانات التابع للمرصد الصحي العالمي، أن عدد الأطباء في المغرب هو سبعة لكل 10000 شخص (2017)، وهو من أدنى المعدلات في منطقة المغرب العربي (في الجزائر المجاورة، المعدل هو أكثر بقليل من 18 طبيباً لكل 10000 شخص، وفي تونس، 12.7). وتستحوذ جهتان فقط من الجهات الإدارية الاثنتَي عشرة في البلاد، وهما تحديداً الرباط والدار البيضاء، أي المركزَين الإداري والاقتصادي على التوالي، على أكثر من ثلث مجموع الأطباء في المغرب. أحياناً، يُحدَّد موعد للمريض بعد سنة كاملة، في حين أن الحوامل قد ينجبن في الشارع في المناطق النائية أو المكتظة. نتيجةً لذلك، يوجّه المشاركون في الاحتجاجات الحاشدة خلال الأعوام الماضية سهام انتقاداتهم بصورة دائمة إلى سوء الحوكمة والتخطيط، وعدم كفاية التمويل، فضلاً عن انتشار الفساد على نطاق واسع في المراكز الصحية. وفي هذا الإطار، برز حراك الريف في شمال البلاد، والذي طالب بإجراء تحسينات في الرعاية الصحية الأساسية وبإنشاء مستشفى محلي متخصص لمعالجة مرضى السرطان باعتباره أولوية قصوى في المنطقة التي لا تزال تعاني من تداعيات الغاز الضار الذي استُخدِم لقمع الثورات السابقة خلال الاحتلال الإسباني.
إذاً يفضح الفيروس الشوائب البنيوية في القطاع الصحي المغربي، حيث تعاني 70 في المئة من المستشفيات من أوضاع مزرية. غير أنه يسلّط الضوء بصورة خاصة على أوجه اللامساواة الشديدة بين المواطنين وكذلك بين الجهات الإدارية. تمارس الإجراءات التقييدية التأثير الأكبر على الفئات السكانية الأكثر هشاشة. وفي المدى القصير، يحدق خطر الجوع والبؤس بالعمال المياومين والباعة الجوّالين وجميع العاملين في الاقتصاد غير النظامي الذين يشكّلون أكثر من 20 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. ويمكن أن يقدّم المجتمع المدني مساعدة كبيرة شرط أن تفسح الدولة في المجال قانوناً أمام العمل التعاضدي.
يتسبب عدم الاستدامة الناجم عن الإغلاق الشامل بتفاقم الهشاشة الاجتماعية. فالحجر المنزلي والتباعد الاجتماعي ومعايير النظافة الملائمة هي ترفٌ لا يستطيع سكّان الأحياء الفقيرة والعمّال المياومون مثلاً الحصول عليه. ولهذا السبب، حي التشارك الشديد الاكتظاظ في الدار البيضاء هو الأكثر تأثراً بالأزمة حتى الآن بين مختلف المناطق المغربية. إذا استمرت حال الطوارئ الصحية، يجب اعتماد عدد كبير من الإجراءات الموجَّهة نحو المواطن. فالأوضاع في السجون مثلاً دفعت بالناشطين في مجال حقوق الإنسان إلى إطلاق عريضة يطلبون فيها من الملك توسيع الأثر الإيجابي لخطواته من خلال منح العفو لسجناء الرأي، لا سيما نشطاء حراك الريف.
على المستوى الديمقراطي، فإن التعامل مع هذا التهديد غير المسبوق للأمن الصحي قد يؤمّن جرعة "إنقاذية" أو يؤدّي إلى تضييع فرصة سانحة لإرساء عقود اجتماعية جديدة. على صعيد المنطقة، وخوفاً من تفشّي وباء "كوفيد 19"، جرى مؤقتاً تعليق الاحتجاجات المناهضة للحكومة في بلدان مثل الجزائر والعراق ولبنان والتي كانت قد انطلقت خلال العام المنصرم. وليس المغرب استثناءً مع أن الاحتجاجات في البلاد كانت أقل حدة في الآونة الأخيرة.
في المغرب، أتاحت الخطوات الاستباقية التي اتخذها الملك التحرك سريعاً لمكافحة الوباء، لكنها حجبت الأفرقاء السياسيين الآخرين. وفرضت أيضاً تراجع الخطاب حول المساءلة والشفافية والدمقرطة. وقد طغت اللهجة الأبوية والدعوات لتحمّل المسؤولية على التصريحات الرسمية الصادرة عن السلطات. ولكن يغيب النقاش الأوسع نطاقاً بشأن الأفرقاء السياسيين المخوّلين توفير الأمن، وعن معنى "الأمن" في هذه المرحلة، والجهات التي يجب ضمان أمنها. كذلك يغيب إلى حد كبير التفكير في مسألة المقايضة بين الحريات الشخصية والخيار الجماعي وقرارات القادة. وفي الأجواء العامة التي يطغى عليها هاجس ضبط الأمن الصحي، أبدى بعض الأطراف حتى ترحيبهم بلجوء السلطة إلى العنف ضد مَن يخرقون إجراءات الحجر الصحي.
على الرغم من أن الجائحة هي ظاهرة عالمية، إلا أن تأثيرها على كل بلد يتوقف إلى حد كبير على آلية صنع القرارات على المستوى المحلي. تكتسي الأسابيع المقبلة أهمية كبيرة لمعرفة كيف ستقوم الحوكمة الأمنية في المغرب بمعالجة التحديات المتعددة الطبقات التي يتسبب بها "كوفيد 19". ولكن الإجماع الذي تكوّن تدريجاً لمواجهة التهديد الذي يشكّله الفيروس يحمل في طياته إمكانية قطع أشواط جديدة نحو الانتقال الديمقراطي.
الدكتورة جيوليا سيميني زميلة ما بعد الدكتوراه في كلية العلوم السياسية والاجتماعية في جامعة بولونيا في إيطاليا. عبد الرحيم شلفوات باحث مقيم في المغرب متخصص في الإعلام والسياسة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لمتابعته عبر تويتر @chalfaouat.