يمكن القول إن لبنان هو بلد التسويات، تسويات تنتج استقرارا نسبيا لفترة زمنية محدودة، وبمجرد أن تتغير العوامل التي أدّت إلى التسوية يدخل لبنان في مرحلة من عدم الاستقرار ريثما تتكوّن عوامل جديدة تنتج تسوية جديدة. عوامل التسوية في لبنان هي داخلية بفعل موازين القوى المحلية والخارجية. لم يكن لبنان يوماً بمنأى عن تداعيات الصراعات في المنطقة، بل كان لهذه الصراعات دورها في تشكيل الكيان اللبناني وفي الحفاظ على استمراريته. اليوم يُعاد السؤال المركزي والذي دائماً ما يشغل بال اللبنانيين: هل لبنان أمام مفترق طرق وتغير جذري للنظام اللبناني؟ وهل بالإمكان تغيير هذا النظام الذي أصابه الترهل والفساد؟ أصبح هذا السؤال أكثر الحاحاً بعد الأزمة الاقتصادية الحادة التي وقعت منذ نحو ثلاث سنوات. من خلال قراءة تاريخية لتركيبة النظام اللبناني والعوامل الداخلية والخارجية التي أرست قواعده يمكن الوصول الى عدة استنتاجات بخصوص طبيعة التسويات والعوامل التي قد تنتجها.
أولاً، تركيبة النظام اللبناني قائمة على توازنات وتسويات دقيقة وأي خلل بهذه التوازنات سوف يؤدّي الى احتدام صراع طائفي حاد وعملية استقطاب قد تؤدي الى اقتتال دموي. على سبيل المثال، أدت عودة ميشال عون بعد الانسحاب السوري عام 2005 وإعلانه أن أي عملية إصلاح للنظام يجب أن يسبقها إعادة الدور المسيحي إلى مؤسسات الدولة من خلال عملية اتخاذ القرار والمناصفة في توزيع المناصب والوظائف داخل المؤسسات الرسمية أدّى ذلك إلى نشوب صراع داخل النظام وأحيانا إلى شلل مؤسساته، ولعلّ أبرز مثال على ذلك الفراغ الرئاسي منذ عام 2014 حتى العام 2016 هو دخول التيار الوطني الحر إلى الحكم مستنداً إلى قاعدة شعبية واسعة ما أدى إلى تغيير في موازين القوى ونظام المحاصصة في الدولة اللبنانية، فبعد أن كانت القوى السياسية من تيار المستقبل وحركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي تُهيمن على الجزء الأكبر من حصة المسيحيين في الدولة اللبنانية، طالب عون باسترجاعها وهذا ما أدى إلى نشوب صراع سياسي محتدم بين هذه القوى لا يزال قائماً حتى اليوم.
ثانياً، هناك عدة عوامل تحدد موازين القوى بين الطوائف، منها حجم الطائفة الديمغرافي، وقدراتها المالية والعسكرية، وتحالفاتها الخارجية، ووحدة الطائفة خلف زعامة سياسية، كل هذه العوامل تؤثر في ميزان القوى وتشكل أحد العوامل التي تؤدي إلى فرض تسوية، وتحدد أيضا كيفية توزيع الحصص بين الطوائف. على سبيل المثال، تعطي وحدة الطائفة خلف زعامة سياسية واحدة حق نقض أي قرار سياسي او اقتصادي، ولكن إذا كانت الطائفة منقسمة إلى عدة أقطاب فإن موافقة أحد اقطابها على قرارات الحكومة مثلا يكفي ليعطيه غطاءً طائفياً ووطنياً. كذلك الأمر إذا كان أحد الأحزاب يتمتع بدعم مالي خارجي يعطيه القدرة على تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية لطائفته، فهذا يزيد من شعبيته، ويوحّد الطائفة خلفه، وبالتالي يعزز موقفه التفاوضي وفرض شروطه عند حصول تسويات سياسية.
ثالثاً، أثبتت التجربة أن تغيير موازين القوى هو فقط ما يؤدي إلى إنتاج تسويات جديدة على مستوى توزيع الحصص، تجارب الطائف والوجود السوري والدوحة خير مثال على ذلك. لم يكن اللبنانيون ليصلوا إلى اتفاق الطائف لو لم يكن هناك تغيير في موازين القوى على مستوى المنطقة. دفع انهيار الاتحاد السوفيتي وحرب العراق على الكويت بدول مؤثرة في لبنان (السعودية، سوريا وأميركا) إلى الإسراع في عقد تسوية تنهي الحرب الأهلية اللبنانية عام 1989 وتركيز جهودها على الحرب في الخليج. أما الوجود السوري فقد كان سببه اتفاق بين سوريا وأميركا حول لبنان حيث تدعم سوريا حرب واشنطن على العراق بالمقابل تُسلّم واشنطن سوريا الملف اللبناني. وبالتالي حافظت دمشق على وجودها في لبنان حتى العام 2005. هذا الوجود العسكري والسياسي كان له دور محوري في إرساء التسوية التي أنتجها الطائف، وحافظت سوريا على الاستقرار السياسي في لبنان. لم تخرج دمشق من لبنان إلا بعد أن وقع خلاف بينها وبين الولايات المتحدة حول حرب واشنطن الثانية على العراق فاضطرت إلى الخروج من لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري في شباط 2005.
أما فيما يخص اتفاق الدوحة، فقد كان لأحداث 7 أيار/ مايو 2008 الدور المؤثر في الوصول إلى الاتفاق. هذه الأحداث أدت إلى تغيير في موازين القوى ولو عسكريا والضغط على الأطراف الإقليمية للوصول إلى تسوية خوفاً مما يسمى هيمنة حزب الله على الدولة خصوصاً بعد أن فشل مشروعهم في تفكيك شبكة الاتصالات التابعة للمقاومة. لذلك نرى أن أي تسوية في لبنان يجب أن يسبقها اختلال في التوازنات بين الأطراف السياسية. هذه التسويات عادة تصمد إلى فترات محدودة وهي فترة من استقرار سياسي نسبي هش قد يدوم لعقدٍ من الزمن أو أكثر.
تمكننا مراجعة الصراعات السياسية والطائفية في لبنان من الاستنتاج بأن اشتداد الأزمات لم يكن يؤدي إلى إجراء عملية إصلاح للنظام السياسي والمالي، لا، بل على العكس، كان اللبنانيون يعلنون تمسكهم أكثر بالنظام الطائفي. على سبيل المثال الصراعات الطائفية التي نشبت بين الدروز والمسيحيين في القرن التاسع عشر أدت الى تكريس عرف طائفي بتوزيع مناصب المتصرفية بين الطوائف. كذلك الأمر بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، لم نشهد عملية إصلاحية لمعالجة أسباب الحرب والتخلص من الطائفية التي كانت سببا رئيساً في نشوبها، بل على العكس فقد شهدنا تكريس الطائفية في النصوص الدستورية بعدما كانت عرفا بين اللبنانيين ولم تكن نصّاً مكرّسا. ينتج اشتداد الأزمات عادة تكريس الطائفية، ويمكن القول إن النظام اللبناني يحافظ على استمراريته من خلال هذه الصراعات وإن اشتدادها يُقوّيه لا يُضعفه. وهذا يصبح واضحا أكثر عندما يقع صراعٌ سياسي وطائفي أو عندما تُصيب لبنان أزمة مثل الأزمة المالية الحالية، حين يلجأ اللبنانيون إلى طوائفهم وقياداتهم الطائفية من أجل حمايتهم وتأمين خدمات اجتماعية واقتصادية.
فشلت تظاهرات 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 في إدارة عملية التغيير ولم تستغل اللحظة التاريخية، فقد كانت مظاهرات عابرة للطوائف تُطالب بالإصلاح. لم تلتفت قيادات هذه المظاهرات إلى المسألة الطائفية وكونها متجذّرة في لبنان، وأنها جمرٌ تحت الرماد وأن عملية إطفائها تتطلب جهداً كبيراً وتنظيماً ورؤيةً واضحةً لعملية التغيير، وما إن مرّت عدة أيام على بدء التظاهرات حتى عاد الخطاب الطائفي وبدأ المتظاهرون بالتقوقع داخل طوائفهم. بالإضافة إلى ذلك، استغلّت بعض القوى السياسية وجمعيات المجتمع المدني هذه المظاهرات من أجل توجيهها ضد أطراف محددة مما أفقدها مصداقيتها.
لا شك أن الأزمة الاقتصادية والمالية التي يمر بها لبنان اليوم سوف يكون لها أثر كبير على الواقع السياسي اللبناني ولعلّ الانتخابات النيابية الأخيرة خير دليلٍ على ذلك، فقد خرجت أطراف سياسية تقليدية من البرلمان وتبدلت أحجام القوى السياسية الممثلة فيه. لكن الملاحظ أنه على الرغم من الأزمة الاقتصادية الحادة التي يمرّ بها لبنان والتظاهرات التي شهدها لم يغير الناخب اللبناني مواقفه من القوى الطائفية التقليدية على الرغم من اتهامه إياها بالفساد وأنها سبب الأزمة الحالية. يعود ذلك إلى ضعف مركزية الدولة اللبنانية، وغياب الخدمات، وتآكل البنى التحتية، خصوصاً مع الانهيار المالي والاقتصادي ما فتح المجال أمام القوى الطائفية لملئ الفراغ الذي تركته الدولة من خلال تقديم خدمات اجتماعية ومالية وصحية. كذلك، تمكنت هذه القوى من الهيمنة وإعادة الخطاب الطائفي الذي أحيته بعد التظاهرات. يقول ميشال فوكو إن نجاح القوى السياسية في إخضاع الجماهير ليس في قدرتها على استخدام القوة العسكرية وقوة القانون بل بما يصطلح عليه بالقوة/المعرفة، أي استخدام المعرفة لإقناع الناس بتوجهاتهم وبسياساتهم، وبالتالي الهيمنة عليهم من خلال خطاب تعبوي عاطفي يُحاكي الوعي الجمعي للطائفة ويكرّس ثقافة الخوف من الآخر، وبالتالي يصوّر السياسي نفسه على أنه هو المخلّص وحامي الطائفة. يستطيع السياسي اللبناني الاستفادة من الذاكرة الجمعية لأبناء طائفته خصوصا من خلال التذكير الدائم ببطولاته خلال الحرب الأهلية وقدرته على الدفاع عن مناطق أبناء طائفته.
في الخلاصة، لايعني اشتداد الأزمة المالية والاقتصادية أن النظام اللبناني أصبح متحلّلا وآيلاً للسقوط، وبات بالإمكان استبداله بنظام غير طائفي. على الرغم من المظاهرات في تشرين الأول/أكتوبر 2019 وفشل الطبقة السياسية في وضع خطة التعافي رغم مرور نحو ثلاث سنوات منذ بدء الأزمة لا يزال النظام الطائفي صامدا، بل إنه يتغذّى على الأزمات التي تكرّس الطائفية ويستمد قوته واستمراريته منها. في الوقت الراهن، أقصى ما يمكن أن نشهده هو إعادة انتاجه من خلال تسوية جديدة تُعيد توزيع الحصص بين الطوائف اللبنانية.
عباس عاصي حاصل على دكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة ليدز في بريطانيا وماجستير في الدراسات الدولية وماجستير في الاقتصاد السياسي من جامعة سيدني في أستراليا. عمل في مركز دراسات الوحدة العربية وكان باحثا مشاركا في المجلس العربي للعلوم الاجتماعية.