يشكل الباعة الذين يفترشون الأرصفة في شوارع القاهرة الكبرى وأحيائها القديمة مساحات السوق الشعبي التي لا يمكن تجاهلها. في بعض المدن الصغيرة والهامشية، تعد هذه الأسواق المساحة العامة الوحيدة، حيث يمكن لأفراد من الطبقتين المتوسطة والدنيا أن يقضوا أوقات فراغهم، وأن يتفاعلوا اجتماعيا ويحققوا مكاسب اقتصادية.
تُنصب هذة الأسواق أسبوعيا، مثل سوق الثلاثاء في منطقة المنيب بالجيزة، و"سوق التونسي" بمنطقة السيدة عائشة بالقاهرة، وسوق "عزبة أبو حشيش" بمنطقة غمرة بالقاهرة، وسوق الأحد بمنطقة الوكالة . ويُقام بعض منها وسط المقابر، وأغلبها بين الأحياء السكنية وفى الشوارع الفرعية.
وصف التكوين الطبقى للسوق الشعبى
تتميز الأسواق الشعبية بالميوعة الدينية والسياسية. حيث لا يمكن وصف الباعة الجائلين والتجار والمشترين بأنهم يحملون هوية دينية أو إيدلوجية سياسية أو ينتمون لطبقة اجتماعية واحدة. فأغلب الباعة الجائلين ينتمون إلى الطبقة الدنيا ولا يمكلون إلا قوت يومهم. بينما ينتمى التجار للطبقة المتوسطة والمتوسطة العليا.
أما المشترون فهم ينتمون إلى الطبقات الدنيا التي تبحث في الأسواق الشعبية عن السلع المستعملة زهيدة الثمن، أو إلى الطبقة المتوسطة العليا الذين يبحثون عن البضائع "اللُقطة"، وغالبا ما تكون علامات تجارية عالمية مستعملة، وهناك فئة المشترين التجار من الطبقة الوسطى، حيث يأتون لشراء المواد الخام لمشاريعهم، إذ يكون أغلبهم من صانعي الملابس وحرفيي المشغولات اليدوية.
سرديات السوق والمجال العام وعلاقات القوى
يمكن اختبار مساحات الأسواق تلك على أنها مثالا مصغرا لممارسات السلطة بين أفراد المجتمع بعضهم البعض وبين الدولة كذلك. تعُج تلك الأسواق بسرديات الناس العادية التى تمكننا من استخلاص كيفية تشكُل المجال العام وعلاقات القوى داخله، ومنها:
حكايات النفوذ والهيمنة " حكاية حراس السوق": يقول أحد حراس الأسواق الشعبية فى منطقة السيدة عائشة إن نظام تأجير الفرشات يكون وفقا لاتفاق مسبق بين البائع وحراس الأسواق، حيث لكل منطقة من مناطق السوق مجموعة حراس الذين بواسطتهم يتم تأجير الأماكن المخصصة للفرشات.
(ع.ح) هو أحد حراس سوق التونسي بمنطقة السيدة عائشة، وهو أب لأربعة أبناء فى مراحل التعليم المختلفة وحاصل على مؤهل متوسط، توارث مهنته هذه أبا عن جد، وهو في الوقت نفسه من سكان المنطقة وله فرشة يبيع فيها يوم الجمعة.1
وفى سياق علاقة الحراس بالبلديات الرسمية يقول: "قد يكون بعضهم مُعين بطريقة غير رسمية من قبل البلديات كي يراقبوا حركة الباعة والمشترين داخل السوق، وقد يتخذها البعض الآخر مهنة". ويقول إنه مقابل الإيجار يقوم حارس أو زعيم السوق بخدمة الباعة من خلال تنظيم المساحات المخصصة لكلا منهم لعرض بضاعته وعدم الجور على مساحات الباعة الآخرين. يتجول (ع.ح) طوال ساعات السوق حتى ينظم حركته، ويحمي البضائع من اللصوص، ويمنع حدوث المشاحنات اليومية بين الباعة أو بين الباعة والمشترين.
حكاية المساحات البديلة: على غرار مشروع القانون المقدم من مجلس الوزراء لتعديل بعض أحكام القانون رقم 277 لسنة 1959 فى شأن نظام السفر بالسكك الحديدية، والذي نص على استحداث قانون لتجريم أنشطة الباعة الجائلين داخل محطات القطار والمترو، تتعالى أصوات مسئولين لإصدار قانون يجرم عمل الباعة الجائلين في الميادين والشوارع الرئيسة للحفاظ على الشكل الحضاري والقضاء على الازدحام المروري. ومن المتوقع أن يصدر مثل هذا القانون قريبا .
ولهذا، يلجأ أغلب الباعة الجائلين إلى أسواق اليوم الواحد، والتي تكون أغلبها بعيدة عن الميادين والشوارع الرئيسة، متوارية في الحارات والأزقة في مناطق عشوائية نائية، بوصفها المساحة الآمنة البديلة الوحيدة لتأمين مصادر قوتهم الهش، والتي توفر لهم مهربا من حملات البلديات المستمرة.
حكايات السلطة والسلطة المضادة: بالرغم من أن أغلب الأسواق الشعبية فى مصر هى مساحات تغيب عنها الدولة بشكل كبير، إلا أن موظفي الدولة موجودون شهريا لتحصيل رسوم عرض الباعة بضائعهم فى أكشاك تقيمها الدولة هناك.
وللتحايل على التهرب من دفع تلك الرسوم، لجأ بعض الباعة إلى أرصفة الشوارع الداخلية والحارات. وبذلك يمارسون شكلا من أشكال السلطة المضادة، أي التحايل على القانون وعرض بضائعهم دون ترخيص.
في سوق الثلاثاء بأحد الأحياء العشوائية بمحافظة الجيزة، هناك باعة جائلين بالبضائع الخفيفة، لا يدفعون رسوما للدولة، ولكنهم يدفعون ما يُعرف "بالإتاوات" لحراس السوق نظير حمايتهم. قد يعتبر البعض هذه الإتاوات نوعا من البلطجة، وبينما يراها الباعة تأمينا وحماية لهم، يعتبرها المحللون نوعا من أنواع الإدارة الذاتية لمناطق تبعد عن أعين الدولة.
هنا تظهر بشكل أوضح صورة تشكُل المجال العام بشكل غير رسمى. حيث لا يستطيع أن يفرش أحد التجار بضاعته ويعرضها فى مكان أو مساحة ليست معروفة أنها تابعة له. وبمعنى آخر، يستطيع التجار ذوي النفوذ في السوق أن يختاروا لأنفسهم المساحات ذات الأهمية الحيوية لجذب المشترين، وبالتالي تكون المساحات الهامشية فى السوق من نصيب التجار الضعفاء.
يمكن وصف علاقات القوى فى الأسواق الشعبية بأنها معقدة ومتشابكة يتداخل فيها العام والخاص، والشكل الرسمي للسلطة مع الأشكال غير الرسمية، ويتشابك فيها الاقتصادي بالسياسي والاجتماعي. لكن تسود في هذه الأسواق "العلاقات غير الرسمية" التي تنظم حركة السوق وتفاعلاته اليومية. وهي تسهم في إضفاء " الطابع غير الرسمي" بشكل متزايد على الاقتصاد المصري وعلى المجال العام.
مروة منتصر حاصلة على الدكتوراه في العلوم السياسية، ومتخصصة في قضايا الاجتماع السياسى ودراسات الهجرة واللاجئين فى الشرق الأوسط.
ملاحظة:
1 - تم إجراء المقابلة مع (ع.ح) في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2022.