المصدر: Getty
مقال

احتمالات التهدئة واشتداد الأزمات السياسية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي

تتجذر سرديات أكثر تطرفا تبرر الصراع وحتمية استمراره، وتشحن الأنصار للانتقام، وتخلق بيئة مواتية للتجنيد، وتعطي العنف مزيدا من التأصيل الديني على أساس ثنائية اليهودي الإسلامي.

نشرت في ١٣ أبريل ٢٠٢٣

تنشر صدى في هذه المناقشة مقالين يتناولان تصاعد المواجهات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي في ظل أزمات داخلية في كل من إسرائيل والأراضي الفلسطينية. يركز المقال الأول للكاتب عمرو صلاح الدين على اتساع دائرة الصراع بين الطرفين إلى أبعد من الاستيطان وقضايا الاحتلال المباشرة، ويرصد مقاله مصادر القلق في الوقت الراهن التي تغذي البعد الهوياتي في الصراع، مشيرا إلى أن مقومات هذا البعد صارت تلعب دورا أكبر من أي وقت مضى. ويشرح عمرو صلاح أن تأثير صعود اليمين المتطرف الإسرائيلي لا يقتصر على توسع الاستيطان أو على خطاب يدعو لفرض السيادة الإسرائيلية على كامل الأراضي الفلسطينية، وإنما يمتد لإنتاج سردية دينية -قومية إسرائيلية أكثر تطرفا حول الصراع.

أما المقال الثاني الذي يكتبه عزام شعث فهو يبحث عن إمكانية تحقيق التهدئة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في ظلّ تنامي المواجهات بينهما مع اشتداد الأزمة السياسية في إسرائيل، وكيف ستنعكس على مسار التهدئة، ولاسيما بعد المصادقة على تأسيس الحرس الوطني ضمن صفقة نتنياهو- بن غفير مقابل تأجيل تشريع التعديلات القضائية، وحدود دور هذه القوات في التعامل مع الفلسطينيين. يركز المقال في ظل هذه المعطيات على مخرجات قمتي العقبة وشرم الشيخ، ويطرح تساؤلًات عن فُرص خفض التوتر الأمني، وإمكانية تحقيق التهدئة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

الصراع الفلسطيني الإسرائيلي: الأسوأ قادم

 قتل وفقر ولا مساواة ويمين متطرف وفاعلون جدد في ظل تلاشي حل الدولتين وانشغال أمريكي؛ عوامل تفاعلها يرجح كارثة.

انتهى عام 2022 وقد كان "الأكثر قتلا في الضفة الغربية" بحسب الأمم المتحدة. أما الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي فقد قُتل فيها ما يقرب من 110 منهم 94 فلسطينيا. أرقام رغم مأساويتها ليست مصدر القلق الوحيد، لكن أيضا ما جرى خلال الأعوام الأخيرة من تطورات على صعيد الداخل الفلسطيني والإسرائيلي وعلى الصعيد العالمي. تطورات قد تتفاعل مع متغيرات أخرى بما يدفع بالعنف بين الاسرائيليين والفلسطينيون نحو منحى خطير في المستقبل القريب. وهو الوضع الذي قد لا تنجح سياسة إطفاء الحرائق الأمريكية التقليدية- سواء مباشرة أو عبر الوسطاء- في احتوائه. قد تكون مشاهد العنف التي تشهدها القدس والضربات الإسرائيلية الأخيرة الانتقامية على غزة ولبنان، واستدعاء الجيش الإسرائيلي الاحتياطي مدخلا لما هو أكبر.

واحد من مصادر القلق هي أن مقومات تغذية البعد الهوياتي في الصراع صارت تلعب دورا أكبر من أي وقت خلال الأعوام الماضية. فتأثير صعود اليمين المتطرف  الإسرائيلي لا يقتصر على توسع الاستيطان أو على خطاب يدعو لفرض السيادة الإسرائيلية على كامل الأراضي الفلسطينية، وإنما يمتد لإنتاج سردية دينية -قومية إسرائيلية أكثر تطرفا حول الصراع، سوف تغذي وتزيد حدة سرديات الجماعات الدينية المسلحة الفلسطينية التي ستقوي بدورها سردية اليمين المتطرف الإسرائيلي. وهكذا تستمر دائرة من الحركة نحو سرديات أكثر تطرفا - يصعب فكها- تبرر الصراع وحتمية استمراره، وتشحن الأنصار للانتقام مع كل واقعة عنف، وتخلق بيئة مواتية للتجنيد، وتعطي العنف المزيد من التأصيل الديني -على أساس ثنائية اليهودي الإسلامي.

مصدر آخر للقلق هو فرص تلاقى صراع الهويات مع إحباط سياسي وتزايد الحديث عن استحالة حل الدولتين. حديث ليس مصدره هذه المرة فقط الصقور على جانبي الصراع أو جماعات الممانعة العربية التقليدية، لكن أصواتا معتدلة ظلت داعمة لحل الدولتين، بل كان بعضها جزءا من مسار عملية السلام (مروان المعشر مثالا). فقد أدى التوسع الاستيطاني إلى جعل إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 أمرا ًصعبا. إنه ليس شعورا نخبويا فقط، لكنه كذلك حالة نامية من فقدان الأمل لدى الشارع الفلسطيني  في حل الدولتين.

وبالمثل فقد يتفاعل الإحباط السياسي مع أزمات اقتصادية واجتماعية فاقمتها الاحداث العالمية. تبدو مؤشرات الفقر في الأراضي الفلسطينية، واللا مساواة الأفقية بين العرب واليهود في إسرائيل مصدرا آخر للقلق، كمزيج يراه المعنيون بالاقتصاد السياسي مدخلا رئيسا للعنف.  ففي الأراضي الفلسطينية تشير الأمم المتحدة إلى أن 36 في المئة يعيشون في فقر، فيما وصل المعدل في غزة إلى 64 في المئة، صار أغلبهم- هذا العام  وفقا للأمم المتحدة -في حاجة لمساعدات وعرضة "لظروف كارثية". هذا يتلاقى مع تحذير البنك الدولي  حول تأثير كوفيد-19 والحرب الأوكرانية، والصراع الذي أدى "إلى تضخيم أخطار زعزعة الاستقرار" في الأراضي الفلسطينية، في وقت لا تزال مساعدات المانحين غير كافية لسد فجوة التمويل لدى السلطة الفلسطينية. هنا تأتي خطورة "فخ الصراعات" The conflict trap، إذ يقود الفقر الى عنف ينتج عنفا مضادا يخلف دمارا وفقرا ينتج عنفا جديدا وهكذا تستمر الدائرة وتتسع. أما في إسرائيل، فالفروق  الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة بين عرب ويهود إسرائيل في الدخل ومستوي المعيشة، ونوعية الوظائف، والتمثيل داخل المؤسسات كلها عوامل تغذي وتتغذى عل تزايد الصراع الهوياتي، ما يجعل إسرائيل نفسها عرضة لتجدد عنف أهلي بين العرب واليهود مثلما شهدت في عام 2021. ناهيك عن أن تصاعد الاستقطاب في إسرائيل تحت حكم نتنياهو وسياسة حكومته الخلافية قد يعزز من تلك الاحتمالية.

بالتوازي، ظهور فاعلين جدد خارج السيطرة أو التنبؤ في الضفة الغربية وإسرائيل يزيد احتمال التصعيد والتصعيد المضاد. في الحالة الفلسطينية، فإن ظهور جماعات مثل كتائب جنين وأريحا وكتائب عرين الأسود مؤشرات تستحق الاهتمام. قد يكون هؤلاء الفاعلون أقل قابلية للتنازل بحكم محدودية تجربتهم وخبرتهم السياسية وافتقارهم للانتماء إلى المنظمات التقليدية (حماس والجهاد الإسلامي) والتي يتم التفاوض معها من خلال وسطاء. في الحالة الإسرائيلية، فلايزال صعود اليمين المتطرف بقيادة إيتامار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش يواصل محاولات تمرده ضد ثقافة التيار الرئيسي في إسرائيل بالسعي لتسليح المستوطنين الإسرائيليين والعقاب الجماعي  للفلسطينيين، والدعوة للقضاء على البلدات الفلسطينية وإعادة العمل بعقوبة الإعدام وإعادة هيكلة النظام القضائي الإسرائيلي لتقليص سيطرته على السياسات والمسؤولين. فرض مثل هذه الخطة لا يمكن أن يقوض القيود الديمقراطية في إسرائيل فحسب، بل يمكن أن يستفز تصعيدا مضادا من جانب الفلسطينيين وإلى أعمال عنف واسعة النطاق. أما مأزق نتنياهو بين المتطرفين في حكومته وضغوط الشارع المعارض، قد يجعل التصعيد تجاه الفلسطينيين في لحظة ما مخرجا يمكن اللجوء اليه لتعبئة الشارع خلفه بما يرضي يمين حكومته، ويسكت معارضيه خارجها في لحظة مواجهة مع "العدو" تقتضي التكاتف.

يأتي هذا في وقت تنشغل فيه الولايات المتحدة بأزمات كبرى من بينها الحرب الأوكرانية، والتضخم واحتياجات الطاقة العالمية واحتواء حلفاء شرق أوسطيين يتقاربون مع روسيا أو الصين. فضلاً عن أن الإدارة الأمريكية تقترب من مرحلة "البطة العرجاء"، حيث الرئيس خلال العام الأخير من ولايته يكون مقيدا برغبته في إعادة انتخابه لولاية رئاسية جديدة، ما يجعل نفوذه في الخارج والداخل مرتبطا بحسابات معقدة. وهو ما قد يعطي الحكومة الإسرائيلية فرصة اتخاذ خطوات أحادية دون الخوف من رد فعل أمريكي أبعد من الإدانة أو إرسال مبعوث لبحث تهدئة تستمر لفترة قبل أن يندلع العنف مجددا.

اما إيران التي لم تتوصل لاتفاق مع الولايات المتحدة حول برنامجها النووي، فأزماتها الداخلية والعقوبات الدولية لم تحول دون إظهار تأثيرها في مجريات الأحداث في الإقليم والعالم. وإن كان ظهور طائرات ايرانية  بدون طيار في ساحات الحرب الأوكرانية رسالة تأكيد على حضور دولي فلطالما مَثل دعمُ الفصائل الفلسطينية مساحة للتأثير الإيراني مَكن  جماعات مثل حماس والجهاد الإسلامي من تطوير حجم ومدى صواريخها في مدة زمنية محدودة، لتصل إلى 250 كلم في عام  2021 وهو العام الذي شهد إطلاق صواريخ فلسطينية تجاه مدن إسرائيلية عدة من بينها تل أبيب وسقوط ما يقرب من 300 قتيل في تصعيد بين إسرائيل وحركتي حماس والجهاد.

باختصار، يبدو احتمال تصعيد واسع النطاق بين الإسرائيليين والفلسطينيين قائم أكثر من أي وقت خلال السنوات الماضية. ويأخذ هذا الاحتمال في الاعتبار تفاعلا جزئيا أو كليا بين عوامل عدة، بما في ذلك الظروف الاقتصادية والاجتماعية للفلسطينيين، وصعود جهات فاعلة جديدة في الصراع، إضافة إلى انشغال الولايات المتحدة، وعدم وجود حل سياسي. كلها عوامل يجب أن تجعلنا مستعدين لحدوث الأسوأ.

عمرو صلاح، محاضر ومرشح دكتوراه بكلية كارتر لتسوية النزاعات الدولية بجامعة جورج ميسون الأمريكية.

البحث عن تهدئة التوتر الأمني في الضفة الغربية

يطرح تأزم الوضع السياسي في إسرائيل تساؤلات بشأن إمكانية تحقيق التهدئة في ظل زيادة المواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

تُثير قمتا العقبة وشرم الشيخ اللتين عُقدتا في الأردن ومصر بفارق عشرين يومًا، تساؤلًا عن فُرص خفض التوتر الأمني، وإمكانية تحقيق التهدئة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في ظلّ تنامي موجات المواجهة بينهما مع اشتداد الأزمة السياسية في إسرائيل، مع ما تمثّله من انعكاسات على مسار التهدئة، خاصة بعد المصادقة على تأسيس الحرس الوطني ضمن صفقة نتنياهو- بن غفير مقابل تأجيل تشريع التعديلات القضائية، وحدود دور هذه القوات في التعامل مع الفلسطينيين.     

الدوافع والسياقات

ارتضى الفلسطينيون والإسرائيليون المشاركة في قمتي العقبة وشرم الشيخ لتحقيق أهدافهما. الفلسطينيون يتطلعون إلى تهدئة الأوضاع الميدانية كمقدمة لفتح أفق التسوية السياسية، بينما يسعى الإسرائيليون إلى استعادة التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية لاستئناف مسؤولياتها في مناطق الضفة الغربية.

عُقدت قمة العقبة رغم تزايد الاعتداءات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، والسياسات التي أقرّتها الحكومة الإسرائيلية لتعزيز الاستيطان وشرعنته، والتي قوبلت بوقف السلطة الفلسطينية للتنسيق الأمني، وبعمليات إطلاق نار فردية باتجاه إسرائيليين في الضفة الغربية ومدينة القدس. ولأنَّ قمة العقبة لم تحقّق أهدافها في خفض التوترات الأمنية، انعقدت قمة شرم الشيخ في ظلّ الأجواء نفسها، ولتحقيق الأهداف ذاتها، وصدر عن القمتين بيانين ركزا بصورةٍ أساسية على التهدئة وخفض التوترات الأمنية في الضفة الغربية.

مخرجات القمتين

تضمن البيانان الختاميّان لقمتي العقبة وشرم الشيخ التوافق على ستة بنود، منها أربعة بنود مكرّرة في البيانين، تتعلق بخفض التصعيد، والحفاظ على الوضع القائم في الأماكن المقدسة، والالتزام بالاتفاقيات السابقة، ووقف مناقشة إنشاء أيّ وحدات استيطانية لمدة 4 أشهر، وعدم إقرار أيّ بؤر استيطانية لمدة 6 أشهر.

ولئن كانت قمة العقبة لم تحدّد آلية خفض التصعيد- وهو موضوع القمة وهدفها- فإن قمة شرم الشيخ استدركت الأمر في بيانها الختامي بالنص على "رفع التقارير عند استئناف الاجتماع في شرم الشيخ في شهر أبريل". ومع ذلك لم يُفصّل هذا النص آلية خفض التصعيد مرة أخرى. في حال تولت إسرائيل هذه المهمة، سيمثّل ذلك تفويضًا لها لقمع الفلسطينيين ومعالجة موضوع التهدئة أمنيًا، ما يجلب ردود فعل فلسطينية دون أن يتحقق هدف خفض التصعيد. وفي حال أوكلت المهمة إلى السلطة الفلسطينية فستكون عاجزة عن تحقيقها لأنها لا تمتلك السيطرة الفعلية في الضفة والقدس، ولا السيطرة على المجموعات المسلحة، وسيكون الأمر أكثر تعقيدًا مع العمليات الفردية التي يُنفذها فلسطينيون لا ينتمون لأيٍّ من الفصائل الفلسطينية.

إذن، الجديد في قمة شرم الشيخ هو "تحسين الأوضاع الاقتصادية، وتعزيز الوضع المالي للسلطة الفلسطينية"، لكن سياسة التسهيلات الاقتصادية التي اُختبرت مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لا تُمثّل ضمانا لتهدئة التوترات الأمنية، حتى وإن اُعتبرت سبيلًا لتعزيز الوضع المالي للسلطة والتخفيف من أزماتها.             

سيناريوهان محتملان 

وفق ما تقدم، فإنّ القمتين لم تحقّقا أهدافهما، حيث استمرت الاعتداءات الإسرائيلية وتواصلت المواجهات الفلسطينية ردًا عليها. ولذلك، يتفاعل سيناريوهان بشأن مستقبل التهدئة بعد قمتي العقبة وشرم الشيخ:

- السيناريو الأول: تنامي التوتر الأمني؛ وذلك لعدم التقيد بمخرجات القمتين، لتستمر إسرائيل في معالجة التوترات بطابعٍ أمني، خصوصًا بعد تشكيل قوة الحرس الوطني، ومضيها في سياسة تعزيز الاستيطان، في مقابل تصاعد ردود الفعل الفلسطينية، التي لا تدفع إسرائيل إلى وقف التصعيد.. وهكذا. يُعدّ هذا السيناريو الأكثر ترجيحًا، لأن أسباب التصعيد لا تزال قائمة.

- السيناريو الثاني: خفض التوتر ووقف التدهور الأمني؛ يفترض هذا السيناريو التهدئة بضغوط الوسطاء عبر استعادة التنسيق بين السلطة وإسرائيل. ويرتكز هذا السيناريو على الخشية من "الانفجار الشامل" الذي قد يؤدي إلى انهيار السلطة الفلسطينية، بما يشكّل عبئًا على الإسرائيليين والفلسطينيين معًا، فضلًا عن أن استمرار التصعيد سيؤدي إلى توسيع دائرة المواجهة بما يتعارض مع سياسة "التحييد والتجزئة" التي تتبناها إسرائيل، بما هي تعمل على التصعيد في المناطق الأقل كلفة وضررًا.

خلاصة

وأخيرًا يمكن القول إنَّ قمتي العقبة وشرم الشيخ لا تمتلكا صيغا ملزمة للطرفين، ولأن هذه الصيغ ترتكز على المباحثات الأمنية وتخلو من القضايا السياسية، ستظل معالجاتها مؤقتة ودون مستوى تحقيق أهداف التهدئة الشاملة والمستدامة التي تفتح منافذ للتسوية السياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين.       

عزام شعث، كاتب وباحث سياسي مقيم في غزة، حاصل على درجة الدكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية من جامعة محمد الخامس بالرباط.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.