المصدر: Getty
مقال

العالم العربي يميل شرقًا

يناقش هذا المقال اتجاهات الرأي العام العربي بشأن القوى العظمى المتنافسة في المنطقة العربية، ويحلل أسبابها ودوافعها بهدف فهم مدى تأثيرها على التوجهات المستقبلية لدول المنطقة.

 وليد الشيخ
نشرت في ٢٧ يونيو ٢٠٢٣

في إطار تنافس الدول الكبرى على المنطقة، برزت مؤخرا حالة استياء واضحة في الدول العربية تجاه الولايات المتحدة، وبدرجة أقل تجاه الاتحاد الأوربي، مقابل تزايد نسبي في شعبية روسيا والصين. أظهر استطلاع رأي للشباب العربي نشرته بي بي سي، تراجع شعبية الولايات المتحدة التي اعتبرها 57 في المئة فقط منهم حليفا مقابل 41 في المئة اعتبروها عدوا، في الوقت نفسه أظهر الاستطلاع تصاعد شعبية روسيا حيث اعتبرها 70 في المئة حليفا مقابل 26 في المئة اعتبروها عدوا.

في استطلاع أشمل أجرته مؤخرا مؤسسة فريدريش إيبرت التابعة للحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني الحاكم، شمل 9 دول عربية إضافة إلى تركيا وإيران وإسرائيل، أظهر أن الثقة في روسيا أكبر من الولايات المتحدة في 5 دول عربية بعضها حلفاء لواشنطن كالإمارات ومصر والأردن، وترى 7 دول أن حرب أوكرانيا ما هي إلا صراع جيوسياسي بين روسيا والغرب، وليس مجرد حرب بين بلدين.

في حين، أجمعت الدول التسع على أن واشنطن هي المستفيد الأكبر من حرب أوكرانيا، أيدت من جهة أخرى الانسحاب العسكري الأمريكي من المنطقة العربية، بل أن 7 دول منها أكدت أن الانسحاب الأمريكي سيجعل المنطقة أكثر أمنا، وقالت 5 دول منها أنه ذلك سيحسن علاقة دول المنطقة ببعضها البعض. وأكثر إثارة للانتباه هو أن تَعُد دولتان حليفتان لواشنطن، هما الإمارات وقطر، التواجد الروسي في الدول العربية أكثر نفعا للمنطقة.

فيما يتعلق بالاتحاد الأوربي، فقد أجمعت الدول التسع أن أوروبا غير قادرة على حماية نفسها بنفسها، وأنها تحتاج للولايات المتحدة لحمايتها، مع رفض 7 دول عربية، منها مصر والسعودية والأردن، لأي وجود عسكري أوروبي أكبر في المنطقة. وفيما يتعلق بالشكل الحالي للعالم، أكدت 6 دول أنه سيصبح عالما متعدد الأقطاب، مقابل 3 دول ذكرت أنه لا يزال عالما أحادي القطب لكنه سيتغير.

هذا يؤكد تراجع شعبية الولايات المتحدة بالمقارنة مع الصين، استطلاع آخر للرأي أجراه الباروميتر العربي لصالح بي بي سي  حيث أظهرت نتائجه أن الصين حظيت بشعبية أكبر من الولايات المتحدة في 8 من 9 دول عربية بعضها يُعد من حلفاء واشنطن.

هل انتصرت بروباغندا بوتين أم الغرب؟

عكست وسائل التواصل الاجتماعي استياء عربيًا واضحًا بشأن العدوان الروسي على أوكرانيا، لميل العرب بشكل عام للاعتقاد بأن هذا العدوان جاء نتيجة لاستفزازات الولايات المتحدة وأوروبا لروسيا، وهم يُحملونهما مسئولية استمرار الحرب، بتداعياتها الاقتصادية السلبية على مواطني العالم العربي.

تزايدت الاتهامات للولايات المتحدة وأوروبا "بازدواجية المعايير"، مقارنة بكيفية التعامل مع هجمات إسرائيل على قطاع غزة، أو الحرب الأمريكية على العراق، ونشرت مقالات وبيانات في صحف عربية حكومية وخاصة، إضافة لبيان لبوابة الأزهر يؤكد فكرة ازدواجية معايير الغرب. ويقول بعض العرب إنهم لا يجدون فارقًا بين غزو جورج بوش الابن للعراق، وغزو بوتين لأوكرانيا.

هذا الاستياء المتنامي تجاه الغرب له أسباب أخرى، مثل الماضي الاستعماري، والانحياز الدائم لإسرائيل، والغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق، واستمرار استياء التيارات الإسلامية والقومية التقليدية المعادية للغرب، إلى جانب شعور جيل الربيع العربي بتخلي الغرب الديمقراطي عنه، بل ودعمه المستمر للأنظمة الشمولية مقابل الحصول على مصالح اقتصادية وسياسية. بدورها تحاول هذه الأنظمة الشمولية استغلال هذا الاستياء الشعبي بتوظيفه لتخفيف الضغوط الغربية تجاه انتهاكاتها لحقوق الإنسان.

رغم تورط روسيا المباشر في سوريا، إلا أن شعبيتها تزايدت لدى قطاعات من العرب، لوقوفها في وجه ما تعتبره هيمنة أمريكية أحادية، وكذلك لأن روسيا دعمت بعض الدول العربية بالحبوب والوقود بأسعار مخفضة. وهذا ما دفع بعض العرب إلى التفكير بأن روسيا تلعب الآن دورا رئيسا في معركة "كسب قلوب وعقول العالم العربي"، الأمر الذي اعترف به الإعلام الغربي الناطق بالعربية، وبأن الغرب يخسر حرب المعلومات في البلدان العربية.

أما الصين فكثير من العرب ينظرون إليها بوصفها قوة غير استعمارية، تركز على النجاح الاقتصادي دون ضغوط سياسية، وتزايد التعاطف معها إثر الزيارات الرسمية الأمريكية الأوربية لتايوان، حيث اعتُبرت استفزازا لها أيضا. إضافة إلى تطوير الصين علاقاتها الشاملة مع الدول العربية، على أسس الاستقلالية والمنفعة التجارية المتبادلة من أجل تحقيق نظام عالمي أكثر عدلا، حتى أصبحت الصين مؤخرا الشريك التجاري الأول للدول العربية.

بين التوازن والبراغماتية

رغم هذا الميل الشعبي العربي المتوافق استثنائيًا مع حكوماته، إلا أنه من المستبعد حدوث تحول استراتيجي عربي للتحالف مع الصين وروسيا على حساب الولايات المتحدة وأوروبا، وذلك لأسباب متنوعة منها الحماية العسكرية والسياسية الأمريكية لدول الخليج، واعتماد معظم الجيوش العربية على منظومة التسليح الأمريكية، والتبعية التكنولوجية، وعلى الميزان التجاري الأمريكي الأوربي العربي الضخم، وكذلك احتياج الدول العربية النامية لمعونات مالية كبيرة منها ومن صندوق النقد الدولي.

لكن مع ذلك، يُتوقع أن تتصرف الدول العربية ببراغماتية واقعية، وقد تقوم بتقليل وضعها كل البيض في سلة الغرب تدريجيا، وستسعى لتنويع تحالفاتها السياسية والاقتصادية والتسليحية، سواء مع روسيا والصين أو مع دول الجوار الإقليمي مثل إيران وتركيا وحتى إسرائيل، سيحدث هذا في منطقة وصفها هنري كيسنجر بأنها تتحول من "منطقة مواجهة" إلى "لعبة موازنة"، ربما انتظارا لتأسيس نظام عالمي متعدد الأقطاب، وتوقع بأنها ستكون" لعبة جديدة بقواعد جديدة".

الأمر الذي انعكس في اتفاق السلام السعودي الإيراني برعاية صينية، ورسائل تقارب مصري مع تركيا وإيران، وكذلك توجههما ومعهما الإمارات والجزائر والبحرين ضمن 19 دولة مرشحة للانضمام لمجموعة بريكس، التي تضم الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، ويُتوقع أن يتجاوز حجمها الاقتصادي مجموعة الدول السبع قريبا، ما جعل أصوات أوربية تبدي خشيتها من تحولها إلى بديل لمنظومة الغرب. وهو ما قد تحاول الدول العربية تحقيقه عبر مزيد من التقارب مع الشرق، لكن دون استفزاز الغرب.

وليد الشيخ، صحفي ومحلل سياسي مقيم في برلين، يمكن متابعته على صفحته في فيسبوك وعلى تويتر @Walid_Alsheikh. 

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.