عقب الاحتجاجات الحاشدة، تدخّل الجيش المصري في 3 تموز/يوليو لعزل الرئيس محمد مرسي من منصبه، الأمر الذي شكّل انعطافاً دراماتيكياً في المرحلة الانتقالية التي تشهدها البلاد بعد سقوط مبارك. تتسلّم القوات المسلحة المصرية دفة البلاد من جديد، وقد أطلقت وعوداً بوضع خارطة طريق سياسية جديدة والعمل سريعاً على تشكيل حكومة مدنية. لكن البلاد منقسمة بشدّة، والطريق نحو الأمام حافل بالالتباس والغموض.
يتحدّث أربعة خبراء في الشؤون المصرية ومساهمين في "صدى"، عن الوضع في مصر. يعرض كل منهم وجهة نظره حول دوافع الأفرقاء المختلفين للمصالحة السياسية والتسوية، وحول إمكانية التوصّل إلى حل سياسي.
ندعوكم إلى الانضمام إلى النقاش عبر مشاركتنا آراءكم في قسم التعليقات.
ليست مسألة حرب أهلية
ناثان براون
ناثان براون، باحث غير مقيم في مركز كارنيغي للسلام الدولي وأستاذ علوم سياسية في جامعة جورج واشنطن.
لاتقف مصر اليوم على حافة الحرب الأهلية. لكنها لم تنخرط أيضاً في مرحلة انتقالية تقود إلى إرساء نظام ديمقراطي مستقر. لقد جرى تجاوز كل الخطوط الحمراء الخطابية؛ ويتم اللجوء إلى العنف من حين إلى آخر؛ كما أن الانتهاكات التي كانت سائدة في السياسة المصرية قبل 2011 (استغلال كره الأجانب لتحقيق مآرب معيّنة؛ إسكات وسائل الإعلام؛ الأساليب التعسّفية التي تلجأ إليها القوى الأمنية)، عادت بقوّة. ولايمكن إلقاء اللوم على أي طرف معيّن في هذا الإطار، أو بالأحرى يمكن إلقاء اللوم على جميع الأطراف.
انطلاقاً من صراعات الأسبوعين الماضيين - أو حتى العامين الماضيين - تتجلّى بوضوح المكوّنات الأساسية للأزمة السياسية في مصر.
ثمة مشكلتان أساسيتان على مستوى الدولة المصرية. أولاً، لاتزال كل آليات المنظومة السلطوية على حالها إلى حد كبير (المحاكم العسكرية، قانون الطوارئ - على الرغم من انقضاء مدّة العمل بحالة الطوارئ - الأجهزة الأمنية التعسّفية؛ القوانين التي تفرض قيوداً على الصحافة والمجتمع الأهلي، وما إلى هنالك). لم تعد هذه الآليات خاضعة مركزياً لسيطرة الرئاسة - إلا أن هذا يقود إلى المشكلة الثانية. يعمل الأفرقاء البارزون في الدولة من دون أي إشراف سياسي. يُظهر بعضهم (الجيش، الأزهر، القضاء) مؤشّرات محدودة عن ضبط النفس، لكنهم يرفضون أية ضوابط خارجية. ويبدو أن بعضهم الآخر (لاسيما الأجهزة الأمنية) يميل إلى لعب لعبة قذرة جداً. ويفعلون ذلك أحياناً من أجل استمالة الرأي العام.
أما على مستوى المجتمع السياسي، فتبرز ثلاث مشاكل. أولاً، لا وجود لمجموعة من القواعد المقبولة من مختلف الأفرقاء؛ وهكذا يبدو أن فاعلين كثراً يشعرون بأنه يحق لهم أن يضاهوا خصومهم في أسوأ تصرّفاتهم. ثانياً، الاستقطاب السياسي شديد، والخطاب الأكثر شيوعاً هو ذاك الذي يستخدم لغة تجريد الآخرين من الشرعية؛ وأكثر من ذلك، لا آفاق تشير إلى إمكانية توصّل الخصوم إلى أرضية مشتركة ولو محدودة النطاق. ثالثاً، المؤسسات الرسمية ضعيفة. معظم الأحزاب مجرّد تنظيمات صوَرية؛ الحركات الاجتماعية التعبوية قوية لكنها عابرة، وتجد صعوبة في خوض غمار السياسة العادية أو حتى تطوير استراتيجيات متماسكة.
إزاء هذه القائمة الطويلة من المشاكل، لابد من الإشارة إلى أن المنظومة السياسية في مصر بعد 2011 تنطبع بميزتَين إيجابيتين: لقد باتت أكثر تعدّدية إلى حد كبير، إذ لم يعد بإمكان طرف سياسي واحد السيطرة على المنظومة؛ وثمة مستوى مرتفع من المشاركة السياسية. في تموز/يوليو 2011، يمكن إضافة عامل إيجابي آخر، ولو كان غريباً. فانشقاق شخصيات سلفية مهمّة من معسكر الرئيس مرسي خلال الانتفاضة والانقلاب - سواء كان فعل خيانة أم لا - حال دون تحوّل الخلاف السياسي إلى مواجهة بين الإسلاميين وغير الإسلاميين.
تعني هذه العناصر مجتمعةً أنه يتعذّر على أي خصم أن يلغي الآخر. إلا أن المشكلة هي أن ذلك لايمنع البعض من المحاولة. لكن بانتظار أن يتقبّل المصريون - والمؤسّسات التي تدّعي خدمتهم - أنه ما من فريق يملك القدرة أو السلطة للتكلّم باسم الشعب بكامله، فإن التعدّدية الجديدة لن تولّد لا استقراراً ولا ديمقراطية.
المطلوب إشراك مختلف الأفرقاء
محمد السمهوري
محمد السمهوري خبير اقتصادي مقيم في القاهرة وباحث ومحاضر سابق في مركز كراون للشرق الأوسط التابع لجامعة برانديس في بوسطن.
تسلّط إطاحة الرئيس المصري الإسلامي محمد مرسي في مطلع الشهر الجاري، الضوء على دروس مهمّة نتوقّف عند اثنين منها يرتديان أهمّية بالغة - ولهما تداعيات كبيرة - في التعاطي مع مسألة الاستقرار السياسي في مصر . أولاً، لقد أخفق الإخوان المسلمون إخفاقاً ذريعاً في أن يفهموا في شكل وافٍ الظروف الفريدة والتاريخية التي جاءت بهم إلى السلطة الصيف الفائت. ثانياً، لقد فشلوا في ممارسة فن السياسة الحديثة القائمة على إشراك الجميع ودمجهم وبناء التوافق، والتي تُعتبَر ضرورية من أجل دفع مصر نحو الأمام في مرحلة ما بعد مبارك.
نتيجة لهذا الفشل المزدوج المأسوي، أساء الإخوان المسلمون كثيراً استخدام التفويض الرئاسي الذي منحهم إياه الشعب المصري بهامش فوز ضئيل (51.7%) في حزيران/يونيو 2012، وبدأوا يطبّقون تدريجاً، ومن دون حكمة، أجندة إسلامية تتناقض بشدّة مع تطلعات المصريين الأوسع والأكثر تنوّعاً وإلحاحاً، والتي عبّروا عنها بوضوح في صرختهم الشهيرة في ميدان التحرير قبل عامَين ونصف العام "الرغيف، الحرية، والعدالة الاجتماعية".
كان ثمن هذا الفشل المأسوي باهظاً جداً، وقد تجلّى بطرق عدّة في نهاية العام الأول من رئاسة مرسي: تفاقم اللاستقرار والالتباس على المستوى السياسي في البلاد، وتعاظم الاضطرابات الاجتماعية وتزايد التصدّعات بين مكوّنات المجتمع، وتدهور الظروف الأمنية العامة والشخصية، وتراجع حالة الاقتصاد المصري الذي وصل تقريباً إلى حافة الانهيار. وقد زاد هذا كلّه من الشعور بالإحباط لدى الناس الذين نفد صبرهم أصلاً ويتوقون لتحسينات ملموسة في حياتهم وأرزاقهم.
فقط في هذا السياق السياسي والاجتماعي والأمني والاقتصادي، يمكننا أن نفهم في شكل كامل ما حدث في مصر في 30 حزيران/يونيو، وبصورة أشدّ وقعاً ربما، لماذا نزل ملايين المصريين - 20 مليون مصري بحسب بعض الإحصاءات، وهو رقم غير مسبوق - إلى الشارع للمطالبة بإنهاء ولاية مرسي بعد عام واحد في الرئاسة. وفي هذا السياق فقط، يمكن الحكم على "خارطة الطريق" لمرحلة ما بعد مرسي التي أعلن عنها الرئيس المصري المؤقّت في 9 تموز/يوليو، وتقييم حظوظها بالفشل أو النجاح. وفي هذا السياق دون سواه، يجب التشديد على الحاجة الأساسية إلى مصالحة سياسية سريعة - على الرغم من أنها قد تبدو صعبة حالياً - وهي ضرورية جداً لبناء مستقبل مصر، كما يجب التحذير بشدّة من عملية انتقالية غير شاملة يمكن أن تقود مصر أكثر فأكثر نحو المجهول.
المصالحة المستعصية، هل من سبيل؟
محمد سالم، باحث في مركز إبن خلدون للدراسات الانمائية في القاهرة.
ماذا بعد سقوط محمد مرسي؟ كان ولازال السؤال الأكثر تعقيدا والذي لم توجد له إجابة قبل 30 حزيران/يونيو وبعدها، ولعل التعقيد هنا نابع من أن هذا التساؤل قد ارتبط بتفكير وقتي ارتكز على إسقاط نظام الاخوان المسلمين فحسب، ولم يقترن برؤية استراتيجية لكيفية التعامل مع جماعة الإخوان كطرف خارج الحكم. ومن ثم وصلنا إلى الأزمة الراهنة التي إن لم ينزع فتيلها لن تتورع عن الإجهازعلى مكتسبات ثورة يناير والعودة بمصر إلى المربع الأول. وفي زمرة تعقيدات المعادلة السياسية الجديدة، تبدو الحاجة ملحة لإيجاد مخارج تجنبنا ويلات هذه اللحظة الفارقة، فلا الوضع السابق يمكن الرجوع إليه ولا الوضع الحالي يمكن استمراره، وهنا يتصاعد الحديث عن عملية مصالحة وطنية شاملة.
ولاشك إن الوصول إلي مصالحة وطنية يعد أمر بعيد المنال، فمؤشرات التصالح لا تبدو جلية، وثمة صعوبات جمة تقف حجر عثرة أمام تحققها:
- كل طرف في الأزمة يتخندق في موقعه ويرفض التراجع، والحلول الوسط الخلاقة ممنوعة من الطرح مهما كانت نوايا اصحابها سليمة ووطنية.
- غياب الأجواء الممهدة للمصالحة، وذلك بالنظر إلي أن مرحلة ما بعد مرسي بدأت بإغلاق منابر إعلامية، ثم إعتقال وتجميد أرصدة قيادات إخوانية، وأخطرها مذبحة الحرس الجمهوري، وهي أمور لايمكن أن تقترن في الوقت ذاته بالحديث عن مصالحة.
- يطفو علي السطح حالة من "الفاشية" سواء كانت فاشية دينية، أو فاشية إقصائية في أواسط التيار المدني تدعو إلي استئصال وإبادة جماعة الإخوان، وترفض بشكل قاطع المصالحة أو أي دعوة لها.
- لمتقدم القيادة العسكرية بعد حلولا تدفع نحو إدماج الإخوان في العملية السياسية بترتيباتها الجديدة، وهنا يقع السيسي ورفاقه في خطأين كبيرين؛أولهما استمرار حالة التجاهل لمطالب جماعة الاخوان بدون السعي لحلول وسط، وثانيها التناقض ما بين إعلان عدم الاقصاء والاجراءات علي الأرض التي تغلب منطق القوة.
- عدم قبول جماعة الإخوان لأي حديث عن حوار أو مصالحة قبل تحقيق مطلبهم وهوعودة مرسي، فالمسألة أضحت الآن مسألة وجود وصراع بقاء.
وعلى الرغم من أن فرص المصالحة تبدو صعبة للغاية، بيد أن الأمر لايخلو من بعض الأمل وذلك بالنظر إلي أن لكل الأطراف الراهنة مصلحة في تجاوز هذه المرحلة، فجماعة الإخوان وعلى الرغم من الرفض الواضح لأي حوار، هنالك من يري حاجة لخروج آمن أو ضمانات لمرحلة ما بعد مرسي. وعلى الرغم من أن أنصار هذا الرأي قليلون للغاية وغير مؤثرين، قد يكون هذا الطرح قائما مستقبلا لاسيما مع ما يبدو من ثبات لمواقف القيادة العسكرية الرافض لأي تراجع، ناهيك عن وهن الرهان على حدوث انشقاق في صفوف الجيش.
وبالمقابل، فإن الجيش ومعه التيار المدني لديه مصلحة في إضفاء مشروعية على العملية السياسية الجديدة، ودحض صفة الانقلاب العسكري عما حدث، ويكون الأمر جله في بوتقة "تصحيح المسار"، والوصول في النهاية إلى نتيجة مهمة وهي منع انزلاق البلاد إلى هاوية الحرب الأهلية.
وختاما، فإن أي حديث عن دولة مصرية قابلة للحياة سياسيا لابد من أن يقترن بخطوة إلى الأمام-قبل الاندفاع صوب صناديق الاقتراع-عمادها الرئيسي مصالحة وطنية شاملة، وبدونها ستظل مصر علي كف عفريت.
السيناريو المتوقَّع في مصر
نادين عبدالله
نادين عبدالله، باحثة في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية. تُظهر التجربة المصرية أن الإجراءات الديمقراطية العملانية ليست كافية لنجاح العملية الانتقالية. إذ يجب أن تتم هذه الإجراءات في إطار توافقي بين اللاعبين السياسيين والاجتماعيين. لقد ظهرت منظومة سياسية جديدة في الأسابيع الأخيرة في مصر، وعلى الأرجح أنها ستقود إلى عملية انتقالية جديدة تحت وصاية الجيش. وهذه المنظومة تخضع لإدارة المعارضة الليبرالية وحزب "النور" السلفي، كما أنها تحظى بالدعم ضمناً من المؤسسات الحكومية (البيروقراطية والقضاء والأجهزة الأمنية). يبقى إشراك مختلف الأفرقاء، وبالتالي إعادة دمج "الإخوان المسلمين"، الأمل الوحيد من أجل عملية انتقالية مستدامة. وإلا سيتعاظم التشنّج السياسي على الأرجح، وقد تنهار الدولة تحت تأثير الضغوط الناجمة عن الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، وبالتالي سيتم اللجوء إلى القمع لفرض الاستقرار. في هذه الحالة، تتعرّض مصر لخطر العودة إلى نظام شبه سلطوي شبيه إلى حد ما بحقبة مبارك. تستطيع مصر الانتقال، في المدى القصير، نحو نظام "سلطوي تنافسي"، انطلاقاً من افتراضَين: محاولة صادقة لإعادة دمج "الإخوان المسلمين"، والتصوّر الجديد لعلاقات السلطة المذكور آنفاً. ومن شأن هذا النظام أن ينطبع بالخصائص الآتية: توازن قوّة بين البرلمان (الذي يتألف نصفه تقريباً من الإسلاميين) والرئيس الذي سيكون على الأرجح ذي خلفية عسكرية أو ربما من المعارضة؛ وجهاز أمني في قلب النظام يكون مشابهاً لذاك الذي كان موجوداً في حقبة مبارك (الشرطة، وفي شكل خاص الجيش)؛ ومساحة سياسية مفتوحة فضلاً عن انتخابات حرّة نسبياً. لابد من الإشارة أيضاً إلى أن المساحة السياسية فُتِحت بعد ثورة 25 كانون الثاني/يناير، ولم يتمكّن أي نظام من إغلاقها بعد ذلك. من شأن هذا السيناريو أن يُظهر أن الانتكاسات العديدة التي تتعرّض لها مصر هي جزء من مسارها الطويل والبطيء نحو الدمقرطة.