يبدو أن الهبوط الأخير في أسعار النفط - من 115 دولاراً للبرميل في حزيران/يونيو 2014 إلى أقل من 50 دولاراً الآن - يهدّد الاستقرار في عدد كبير من الدول المنتجة للنفط. بيد أن المنتجين في الشرق الأوسط يواجهون تأثيرات مختلفة. فالسعودية، مع احتياطياتها الضخمة من العملات الأجنبية، تبدو مرتاحة لترك الأسعار تتراجع كي تتمكّن من الحفاظ على حصتها في السوق على حساب منافسيها في منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبيك) والولايات المتحدة. أما إيران، وعلى الرغم من أنها ترزح تحت وطأة العقوبات الاقتصادية وتعاني من الهشاشة إزاء تراجع الأسعار، فهي أضعف في المدى القصير لكنها أكثر إستعدادا في المدى الطويل لمواجهة تراجع الإيرادات النفطية. ومن جهتها، قد تتمكّن الجزائر من درء الأزمة الاقتصادية بفضل انخفاض مستويات الديون ووفرة الاحتياطيات النقدية، إلا أن حكومتها تعي جيداً الخطر المترتب في المدى الطويل عن الاعتماد الشديد على صادرات الطاقة. بيد أن العراق يواجه الآفاق الأكثر اسوداداً، إذ يجد البلد الذي مزّقته الحرب نفسه مضطراً إلى تحمّل عبء الهبوط في أسعار النفط فيما يخوض حرباً مكلفة ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
يستكشف أربعة خبراء نفطيين تأثير انخفاض الأسعار على اقتصادات الدول الأساسية المنتجة للنفط في المنطقة. ندعوكم إلى الانضمام إلى النقاش عبر مشاركتنا آراءكم في قسم التعليقات.
لاحظ الرسوم البيانية للمقال على هذه الربط (بالإنجليزي):
IMGXYZ24800IMGZYX
احتياطي العملات الأجنبية
IMGXYZ24798IMGZYX
انخفاض أسعار النفط وأسعار تعادلة الميزانية في العام 2014
خطة السعودية
نايثان هودسون
نايثان هودسون، طالب دكتوراه في الدراسات الشرق أوسطية في جامعة برنستون حيث يتخصّص في تاريخ الاقتصاد السعودي.
قررت السعودية عدم خفض الإنتاج النفطي رداً على تراجع الأسعار، لأنها اعتبرت أن ذلك يصبّ في مصلحة الاقتصاد في المدى الطويل. لطالما شدّد وزير النفط السعودي، علي النعيمي، على أن السعودية تنطلق في سياستها النفطية من الرغبة في الحفاظ على حصة البلاد في السوق وإبعاد المنتجين الأقل فاعلية.
مما لاشك فيه أن النعيمي منطقي في كلامه. فكلفة الإنتاج النفطي الشديدة الانخفاض في السعودية، والطاقة الإنتاجية الفائضة التي تتمتع بها البلاد، ومصلحتها الثابتة في الإفادة من احتياطياتها الهائلة، هي جزء من استراتيجية السوق المنطقية التي تنتهجها الرياض والتي تتّسم بعدم الاستعداد لخفض الإنتاج. واقع الحال هو أن تكاليف الإنتاج المنخفضة وفائض الطاقة الإنتاجية يجعلان حسابات السعودية مختلفة حداً عن حسابات المنتجين الآخرين. في حال قرّر صنّاع القرار السعوديون إنتاج نحو ثلاثة ملايين برميل إضافي من النفط في اليوم، فسوف يجنون مبالغ طائلة بغض النظر عن السعر. وفي معرض ذلك، يضمنون احتفاظ السعودية بنفوذ واسع في أسواق النفط، عبر حفاظها على موقعها الذي يجعل منها المنتِج البديل الأوحد للنفط في العالم.
شكّل الضرر اللاحق بخصوم الرياض الجيوسياسيين فائدة إضافية جيدة، لكنه لم يكن دافعاً محورياً، على الرغم من الآراء التي عبّر عنها المحللون وحتى رؤساء الدول، على غرار الرئيس الإيراني حسن روحاني. ليس منطقياً الادّعاء بأن السعوديين مستعدّون لتعطيل مصدر الإيرادات الأساسي بالنسبة إليهم بهدف معاقبة إيران وروسيا. فالتخلي عن مليارات الدولارات من أجل أمل ضعيف بتحقيق أهداف بعيدة المنال في السياسة الخارجية يؤدّي في شكل مباشر إلى تراجع في المبالغ المتاحة لتسديد الأجور وتمويل الإعانات الحكومية والمشاريع الإنمائية. وكما كتب فهد ناظر، إذا كان السعوديون يستهدفون أعداءهم، فالتوقيت غير منطقي أيضاً.
قرار الإحجام عن محاولة الإبقاء على الارتفاع في أسعار النفط هو بالفعل رهانٌ كبير. إلا أنه لم يكن أمام السعوديين الكثير من الخيارات البراغماتية في السياسات. فمن شأن خفض الإنتاج أن يشجّع الروس وسواهم على إنتاج مزيد من النفط، مايؤدّي إلى هبوط إضافي في الأسعار. وهكذا اختارت القيادة السعودية عدم خفض إنتاجها النفطي، انطلاقاً من يقينها بأن أسعار النفط ستتعافى بسرعة نسبياً (أي في غضون سنتَين أو ثلاث سنوات)، وبأنه بإمكان الحكومة أن تتحمّل التأثيرات الناجمة عن تراجع الإيرادات النفطية.
بيد أن أسعار النفط المنخفضة توجّه رسالة قوية إلى المسؤولين السعوديين لتذكيرهم بأنه يتعين عليهم العمل بجدّية على تنويع الاقتصاد السعودي والشروع في تطبيق إصلاحات فعلية على صعيدَي الإنفاق والعمل. لكنها لاتنذر بانفجار الاقتصاد السعودي من الداخل أو بانهيار الدولة. صحيح أنه بإمكان الحكومة السعودية أن تتحمّل الانخفاض في أسعار النفط لسنوات عدة، إلا أنها ستعاني من نفاد المال في المدى الطويل إذا لم تعمد إلى تطبيق إصلاحات أساسية. لكن السؤال الكبير هو متى؟ إذا استقر سعر النفط عند حدود 50-60 دولاراً أميركياً - كما يتوقّع المحللون في معظم المصارف الكبرى - وإذا كان بإمكان الحكومة السعودية أن تكتفي بتطبيق إصلاحات متواضعة، قد تنقضي عقود طويلة قبل أن تواجه المملكة أزمة مالية جدّية.
مما لاشك فيه أنه في حال سجّلت الإيرادات تراجعاً كبيراً لفترة طويلة، سوف يُحتِّم ذلك على السعوديين إيجاد طرق مبتكرة لخفض الإنفاق. لكن الحكومة ستعمد إلى تأجيل الخفوضات في الأجور والإعانات الحكومية لأطول فترة ممكنة. في الوقت الحالي، تُظهر موازنة 2015 أن الحكومة تنوي أن تستمر في الإنفاق، حتى على مشاريع كبرى، بغية الحفاظ على الثقة بالاقتصاد السعودي. اللافت هو أنه على الرغم من الزيادة الكبيرة في الإنفاق منذ العام 2002، ولاسيما منذ العام 2011، لاتزال نسبته من إجمالي الناتج المحلي كما هي (بين 30 و35 في المئة) منذ مطلع التسعينيات.
لايكف محللون كثر عن الحديث عن الوضع المالي المتميّز للسعودية، لكن الأكثرية لاتدرك كما يجب أهمية احتياطياتها الهائلة. بإمكان الحكومة أن تواجه عجزاً يصل إلى 38.6 مليار دولار - العجز المتوقَّع في العام 2015 - سنوياً طيلة عقد كامل قبل أن ينفد الاحتياطي. على الرغم من أنه لاأحد يتوقّع أن يحافظ الإنفاق على مستواه الحالي، إلا أنه بإمكان السعودية بالتأكيد أن تلجأ إلى الاستدانة في حال الحاجة، نظراً إلى أن نسبة الدين مقابل إجمالي الناتج المحلي هي الأدنى بين دول مجموعة العشرين. ناهيك عن قدرة السعودية على زيادة العائدات من الحيازات الأجنبية. وقد رفض وزير المال ابراهيم العساف مؤخراً الدعوات لإنشاء صندوق سيادي من أجل اعتماد مقاربة أكثر جرأة في إدارة الاحتياطيات السعودية التي يُعتقَد أنها تُستثمَر الآن بطريقة محافظة إلى حد كبير. لكن إذا أراد السعوديون أن يحاولوا كسب المال، يمكن أن تكون العائدات كبيرة وأن تساهم بالتالي في تحسين مالية المملكة.
تُطلَق دعوات على الملأ في السعودية من أجل تحقيق الشفافية والحكم الرشيد والتنويع الاقتصادي. وهناك أيضاً جرعة مفيدة من التشكيك في صوابية المقاربة التي تعتمدها الحكومة السعودية. ستشكّل إدارة التصوّر العام مسألة أساسية بالنسبة إلى الحكومة السعودية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى توسيع دور القطاع الخاص في الاقتصاد السعودي، والذي لابد من تحقيقه نظراً إلى حتمية خفض الإنفاق العام في المدى الطويل.
بعد سنوات عدّة، وعلى ضوء الوقائع والتطورات، سيُنظَر إلى القرار السعودي بأنه كان إما لامعاً وإما متهوراً. لكن في الوقت الحالي، يبدو أنه قرار استراتيجي يشكّل ربما الرهان الأفضل بالنسبة إلى السعوديين.
قدرة إيران على الصمود
روبن م. ميلز
روبن م. ميلز، رئيس قسم الاستشارات في شركة "منار للطاقة"، ومؤلف "أسطورة أزمة النفط".
تمارس أسعار النفط تأثيراً على إيران في المدى القصير والمتوسط والطويل، ولو بطرق مختلفة. نظراً إلى أن سعر تعادل الميزانية بالنسبة إلى إيران يتراوح من 131 إلى 136 دولاراً لبرميل النفط1، يبدو أن إيران هي من الدول الأكثر عرضةً للتأثر بتراجع أسعار النفط. ويجب إعادة النظر في الموازنة التي وُضِعت للسنة المالية الجديدة التي تبدأ في آذار/مارس 2015، والتي حدّدت سعر تصدير برميل النفط بـ72 دولاراً، وذلك على ضوء سعر برميل النفط الحالي الذي تراجع إلى 50 دولاراً.
بيد أن الإيرادات النفطية الإيرانية تعاني من أزمة قبل وقت طويل من هبوط الأسعار في حزيران/يونيو الماضي. فقد تراجع الإنتاج النفطي من 3.58 ملايين برميل في اليوم في العام 2011 إلى 2.77 مليون برميل في اليوم في كانون الأول/ديسمبر 2014 بسبب العقوبات. حتى من دون العقوبات، كان من المحتوم أن يتراجع الإنتاج النفطي الإيراني بسبب التأثيرات المتراكمة الناجمة عن نضوج الحقول النفطية، ونقص الاستثمارات وسوء الإدارة في السابق.
والآن مع توافر النفط الرخيص في أماكن أخرى، تراجعت جاذبية إيران بالنسبة إلى العملاء الراغبين في تحدّي العقوبات. سوف تتقاضى إيران أسعاراً أقل مقابل النفط الذي تنجح في بيعه خلسةً، وفي الوقت نفسه ستتراجع القدرة الشرائية لإيراداتها المودَعة في حسابات في الهند والصين وبلدان أخرى، ولن يعود بإمكانها سوى مقايضتها بسلع وبضائع مستوردة من تلك البلدان. وإذا لم يتم التوصل إلى اتفاق حول البرنامج النووي، تواجه إيران خطر أن تتسبّب أسعار النفط المنخفضة بتفاقم التدهور البطيء لقطاعها النفطي، فضلاً عن استمرار الركود الاقتصادي.
لكن نظراً إلى أن الدين الخارجي الإيراني هو في حدّه الأدنى، وبما أن الاقتصاد الإيراني يتمتع باكتفاء ذاتي إلى حد ما، إيران أقل هشاشة إزاء الأزمات الخارجية مثل انخفاض أسعار النفط، بالمقارنة مع روسيا أو فنزويلا. فالعملة الإيرانية، وعلى الرغم من نزعتها التضخّمية، جعلت الصادرات الإيرانية أكثر تنافسية. كما أن الإيرانيين، وعلى الرغم من استيائهم من الارتفاع المستمر في معدلات البطالة والتضخم، باتوا معتادين على المشقّات الاقتصادية. تتضمّن الموازنة الانكماشية للسنة المالية التي تبدأ في آذار/مارس 2015 خفوضات في الإنفاق إلى جانب زيادات في الإيرادات الضريبية وعائدات الخصخصة.
يمكن أيضاً التعويض عن أسعار النفط المنخفضة عبر زيادة الصادرات النفطية في حال تخفيف العقوبات تدريجاً بعد التوصل إلى اتفاق حول البرنامج النووي الإيراني خلال العام الجاري. لكن حتى هذه الصادرات لن تسمح بتحقيق العائدات الضائعة التي توقّعت إيران جنيها في منتصف العام الماضي. ومايزيد الأمور تعقيداً أنه من شأن زيادة الإنتاج الإيراني أن تتسبّب بمزيد من التراجع في أسعار النفط ولفترة أطول. وقد قال وزير النفط الإيراني بيجن زنغنه بوضوح إن إيران ستسعى إلى استعادة حصّتها التي خسرتها في السوق، حتى لو "انفخض السعر إلى 20 دولاراً"، على حد تعبيره، الأمر الذي قد يمارس تأثيراً أكبر إذا اقترن مع الاستمرار في زيادة الإنتاج في العراق.
من شأن هذين العاملين مجتمعين أن يولّدا ديناميكية مثيرة للاهتمام داخل منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبيك). سوف تتحدّى إيران والعراق، وهما حليفتان سياسيتان تملكان الاحتياطيات التقليدية الأكبر والأدنى كلفة بعد السعودية، خصمهما في الرياض، مع العلم بأنه لطالما فازت السعودية في هذا التحدي على مر التاريخ، ولو دفعت ثمناً لذلك. لكن في الوقت نفسه، سوف تتنافس طهران وبغداد على حصة كل منهما في السوق.
بيد أن انخفاض أسعار النفط قد يصب بطريقة من الطرق في مصلحة إيران. من شأن إيران أن تسعى، بعد مرحلة العقوبات، إلى استقطاب الاستثمارات الأجنبية لإعادة بناء طاقتها الإنتاجية النفطية وزيادة إنتاجها من الغاز. لقد اكتسبت حقولها الشاسعة والمتدنية الكلفة جاذبية نسبية بالمقارنة مع المشاريع المرتفعة الكلفة لاستخراج النفط الصخري في الولايات المتحدة، أو استخراج النفط من أعماق المياه أو من القطب الشمالي. فعقد الاستثمار الذي تعمل إيران على صياغته حالياً وتُقدّم بموجبه للمستثمرين رسماً ثابتاً يبلغ بضعة دولارات، لم يكن جذّاباً عندما كان سعر برميل النفط مئة دولار، لكنه يبدو أكثر جاذبية مع تراجع سعر برميل النفط إلى 50 دولاراً لأنه يؤمّن مدخولاً أكثر ثباتاً.
لكن بغض النظر عن سعر النفط، تتمتع إيران بمزايا من شأنها أن تساعدها في المدى الأطول على التعافي من تباطؤ اقتصادي مطوَّل، خلافاً لمنافستها، السعودية، ذات الاقتصاد الأحادي. فإيران تتمتّع باقتصاد منوَّع نسبياً مع قاعدة صناعية كبيرة (ولو كانت متداعية)، وتملك احتياطي الغاز الأكبر أو ثاني أكبر احتياطي غاز في العالم، ولديها أعداد كبيرة من السكان كما أنهم مثقّفون، هذا فضلاً عن موقعها الاستراتيجي جداً بين الخليج الفارسي وبحر قزوين. علاوةً على ذلك، لاترزح إيران تحت وطأة التحديات الأمنية الشديدة كما هو الحال في العراق أو ليبيا أو نيجيريا.
واقع الحال هو أن إيران تشبه روسيا، في جوانب عدّة، أكثر مما تشبه السعودية: التهديد الذي يشكّله انخفاض أسعار النفط أكثر حدّة في المدى القصير، لكن التحكّم به أسهل في المدى الطويل. تبلغ حصة النفط في إجمالي الناتج المحلي الإيراني 30 في المئة، وهي بالتالي أقل منها في السعودية (45 في المئة)، والكويت (نحو 50 في المئة)، وقطر (50 في المئة). إذاً بدافع الحاجة إلى تنويع الاقتصاد بعيداً من الإيرادات النفطية، وعلى ضوء الانفتاح السياسي والاقتصادي من جديد، والخصخصة الفعلية لبعض مؤسسات الدولة، والقدرة على الوصول إلى الاستثمارات الأجنبية، قد تشهد إيران طفرة اقتصادية مشابهة لتلك التي أعقبت انتهاء الحرب الإيرانية-العراقية التي دارت بين العامَين 1980 و1988 في عهد الرئيس رفسنجاني.
1. تقديرات سيتي غروب ووكالة رويترز وصندوق النقد الدولي. ↩
الجزائر وبارقة الأمل
الياس صحار
الياس صحار، صحافي في صحيفة الوطن الجزائرية الناطقة باللغة الفرنسية، يغطّي الأخبار المتعلقة بقطاع النفط والغاز في الجزائر.
يثير الهبوط الشديد في أسعار النفط - واستبعاد إمكانية أن تتجاوز من جديد عتبة المئة دولار للبرميل الواحد - قلق السلطات الجزائرية بسبب اعتماد البلاد الشديد على عائدات المواد الهيدروكربونية التي تشكّل، بحسب البيانات الرسمية، نحو 97 في المئة من مجموع عائدات التصدير، أي نحو 30 في المئة من إجمالي الناتج المحلي و60 في المئة من العائدات الحكومية.
لكن بإمكان الجزائر أن تلتقط أنفاسها. فالدين العام لايتجاوز حالياً ثمانية في المئة من إجمالي الناتج المحلي، ويبلغ مجموع احتياطيات العملات الأجنبية 185 مليار دولار أميركي، الأمر الذي سيتيح للحكومة الجزائرية، في ظل الظروف الحالية، تمويل كل واردات البلاد لمدة ثلاث سنوات. فضلاً عن ذلك، الدين الخارجي صغير نسبياً مع 3.6 مليارات دولار، وتملك الحكومة صندوقاً لتنظيم العائدات يحتوي على 60 مليار دولار. سوف تساهم هذه العوامل مجتمعةً في التخفيف من العبء المترتب عن انخفاض أسعار النفط.
لكن الأهم هو أن أسعار النفط المنخفضة تطلق حقبة جديدة في الاقتصاد الجزائري. سوف تعاني الموازنة من عجوزات بنيوية على الرغم من أن البلاد عرفت مرحلة من الفوائض استمرت 15 عاماً. وحتى لو تعافت أسعار النفط، سيستمر العجز. فعائدات الصادرات الهيدروكربونية في الجزائر استقرت عند مستوى معيّن (نحو 60 مليار دولار في العام 2014) في حين ازداد الإنفاق على البضائع المستوردة بنسبة تفوق الستة في المئة بسبب الطلب المتزايد على السلع الأجنبية (59 مليار دولار في العام 2014). من جهة، أتاحت الفوائض السابقة للسلطات الجزائرية تسديد ديونها الخارجية بصورة استباقية، وإنشاء صندوق لتنظيم العائدات، وامتلاك احتياطي كبير من العملات الأجنبية. لكن لم تتم الإفادة كما يجب من مرحلة الفوائض لناحية التعجيل في الإصلاحات التي كان من شأنها أن تمهّد الطريق لتنويع الاقتصاد الجزائري الذي يشكّل حاجة ماسة بالنسبة إلى البلاد. وقد فشلت الحكومة، على وجه الخصوص، في إنشاء سوق مالية كان من شأنها أن تساهم في دعم القطاع الخاص والتنمية الاقتصادية. وعمدت بدلاً من ذلك إلى التركيز على تشييد البنى التحتية وسياسة الدعم العام للأسعار، ماتسبّب بزيادة النفقات التشغيلية من دون تغيير طبيعة الاقتصاد الجزائري.
من الواضح أن النموذج الاقتصادي الحالي أصبح غير قابل للاستدامة، ولم يعد أمام الجزائر من خيار سوى إجراء إصلاحات هيكلية. وعلى الحكومة أن تبادر سريعاً إلى تطبيق هذه الإصلاحات كي تتفادى الانزلاق المحتوم في أزمة سوف تترتّب عنها عواقب وخيمة إذا لم تتم معالجتها في المدى الطويل.
معضلة العراق
ربى حصري
ربى حصري، مستشارة مستقلة ومحررة في Iraq Oil Forum.
مع تراجع أسعار النفط، يتعيّن على العراق زيادة إنتاجه النفطي للتعويض عن الأهداف الإنتاجية الضائعة خلال الأعوام القليلة الماضية. لكن كلما أنتجت الحكومة العراقية كميات أكبر كلما ساهمت في زيادة الضغوط على أسعار النفط العالمية ودفعها نحو التراجع أكثر فأكثر.
يأتي هبوط أسعار النفط في توقيت غير مناسب بالنسبة إلى العراق. يُتوقَّع أن تُسجّل الموازنة الدفاعية والأمنية زيادة كبيرة لتصل إلى 25 في المئة من إجمالي النفقات في العام 2015 مع اشتداد الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية. يتعين على الحكومة الآن الاستدانة من الداخل والخارج لتغطية العجز الذي يُتوقَّع أن يبلغ 21.8 مليار دولار في العام 2015، بحسب مشروع الموازنة1. وكلما انخفضت أسعار النفط أكثر، سيزداد عجز الموازنة، الأمر الذي سيؤدّي إلى مزيد من الاستدانة فضلاً عن الحاجة إلى زيادة الطاقة الإنتاجية.
في آخر تراجعٍ لأسعار النفط - من الذروة مع 146 دولاراً للبرميل في منتصف 2008 إلى 38 دولاراً للبرميل في مطلع العام 2009 - خفّضت حكومة نوري المالكي موازنتها الوطنية من 72 مليار دولار في العام 2008 إلى 58 مليار دولار في العام 2009، وفتحت القطاع النفطي أمام الشركات الأجنبية. وعلى ضوء الفوائض المتراكمة من الأعوام السابقة والعجز عن إنفاق الموازنة الرأسمالية، بالكاد شعر العراقيون بتأثير الهبوط في أسعار النفط. سرعان ماتعافت الأسعار وارتفعت موازنة 2010 من جديد إلى 71 مليار دولار.
لكن اليوم، الآفاق أكثر اسوداداً. فالسياسات السيئة والفساد المستشري في ظل الحكومات السابقة تؤدّي إلى مضاعفة التأثير الناجم عن الهبوط في أسعار النفط. عندما ارتفعت أسعار النفط بعد الأزمة الاقتصادية في 2008-2009، وبدلاً من السعي إلى بناء اقتصاد السوق وإنشاء قطاع خاص سليم ونابض بالحيوية، استُخدِمت العائدات النفطية الكبيرة، في شكل أساسي، في تمويل التوظيف في القطاع العام. لقد استعملت الأحزاب الحاكمة هذه الإيرادات لتوسيع دائرة محسوبياتها على المستويَين المحلي والوطني. فقد تراوحت المخصصات المالية المقتطعة للنفقات التشغيلية - في شكل خاص الأجور والمعاشات التقاعدية وشبكات الأمان الاجتماعي - في الموازنات المتعاقبة على مر الأعوام الخمسة الماضية، عند حدود 70 في المئة من مجموع النفقات. بالفعل، سجّلت الأجور والمنافع، لاسيما تلك التي يتقاضاها كبار المسؤولين والنواب، زيادة كبيرة على حساب تطوير اقتصاد قابل للحياة. كما أنها حالت دون توظيف الاستثمارات اللازمة التي تشكّل حاجة ماسة في القطاع النفطي.
من جهتها، ردت حكومة عبادي على التراجع الأخير في أسعار النفط، باللجوء إلى الاستدانة. بموجب مشروع الموازنة لعام 2015 - الذي تمت صياغته على أساس احتساب سعر برميل النفط 60 دولاراً - تستدين الدولة من موظفيها عبر تطبيق منظومة للادّخار الإلزامي بحيث يحصل الموظفون فقط على حصة من الرواتب والمنافع المستحقّة لهم. وفي خطوة مستحدثة من غير المؤكّد أنها ستتبلور فعلياً على الأرض، ينص مادة 34 من مشروع قانون الموازنة للعام 2015 على إرجاء تسديد الدفعات لشركات النفط الأجنبية عبر تحويلها إلى سندات خزينة تصل قيمتها إلى 12 مليار دولار. هذا الإجراء هو بمثابة إعادة اقتراض الرسوم المستحقة على الشركات الأجنبية جرّاء إنتاجها للنفط، مع فائدة. بموجب مادة 2، ستحصل المحافظات العراقية على مايُعادل دولارَين للبرميل في إطار مخصصاتها من الأموال النفطية، التي سيتم توزيع 50 في المئة منها فقط، أما الخمسون في المئة المتبقّية فتوزيعها رهنٌ بزيادة العائدات النفطية خلال العام 2015. وسوف يتم تحويل المبلغ المتبقّي من المخصصات النفطية إلى موازنة العام 2016.
كما في الدورات السابقة، سترتفع أسعار النفط من جديد. ومن شأن الخفوضات في النفقات الرأسمالية العالمية على التنقيب عن النفط وتطويره بدفع من تراجع الأرباح، أن تؤدّي في نهاية المطاف إلى خفض التوقعات الإنتاجية، وبالتالي إلى ارتفاع الأسعار - على الرغم من أنه لم تتضح بعد الصورة بشأن توقيت حدوث هذا التبدّل في النزعات ونطاقه. في الانتظار، سيستمر العراق في التخبط في معضلته النفطية. ينبغي على البلاد زيادة إنتاجها النفطي إلى أقصى حد في المدى القصير وتعزيز إيراداتها النفطية لتمويل الإنفاق المتزايد. لكن ذلك يعني الإمعان في بناء اقتصاد غير مستدام يعتمد على المبيعات النفطية.
1. بحسب مشروع الموازنة الذي أقرّته الحكومة. لم يصوّت مجلس النواب بعد على قانون الموازنة النهائي. ↩