المصدر: Getty

الإرهاب في تونس: بين هشاشة الوضع الداخلي وتعقيدات الوضع الإقليمي

تدخل تونس مرحلة حرجة في الحرب على الإرهاب وهو مايغذّي المخاوف لدى أوساط واسعة من المجتمع السياسي والمدني إزاء عودة الدولة الأمنوقراطية.

نشرت في ٢٣ مارس ٢٠١٥

يُمكن اعتبار العملية الإرهابية التي استهدفت متحف باردو في العاصمة تونس مخلّفةً أكثر من عشرين قتيلاً معظمهم من السوّاح الأجانب، تصعيداً خطيراً وفق كلّ المقاييس. فهذه المرّة الأولى التي يستهدف فيها هجوم بهذا الحجم مدنيين منذ العام 2002 عندما فجّر انتحاريّ شاحنة بالقرب من معبد يهودي في جزيرة جربة في الجنوب التونسي. كما أنّها المرّة الأولى منذ اندلاع الثورة التي تضرب فيها الجماعات المتطرّفة في قلب العاصمة بعدما اقتصرت العمليات السابقة على المناطق الداخلية والحدودية مستهدفةً قوّات الأمن والجيش. لاتكمن خطورة هذا التصعيد فقط في تداعياته على قطاع السياحة وعلى الاقتصاد الهشّ أصلاً، والذي يُعاني من حالة عدم الاستقرار منذ سقوط نظام بن علي في العام 2011، بل أيضاً في الدلالات المهمة التي يحملها حول المعضلات التي يواجهها النظام السياسي الجديد وقدرته على التعامل مع الحركات المتطرّفة، وحول مخاطر العنف الجهادي المرجّح للتفاقم في ظلّ تأزّم الوضع في الجارة ليبيا، وتصاعد التهديدات الأمنية العابرة للحدود. 

إدماج الإسلام السياسي وتطرّف الهوامش

توحي المؤشّرات أنّه سيكون على تونس أن تواجه خطر تصاعد العنف الجهادي في المرحلة المقبلة، خصوصاً أنّ التسويات التي أنهت الأزمة السياسية وأمّنت تواصل الانتقال الديمقراطي، أفضَت إلى عودة النظام القديم مقابل إدماج حركة النهضة الإسلامية، وأغلقت عمليّاً إمكانيّة إحداث تغيير جذري بالطرق السلمية، ماقد يدفع بجزء ولو كان أقليّاً من المجتمع إلى خيارات متطرّفة. فلئن ساهمت حركة النهضة في تأمين المسار الانتقالي وضمان نوع من التوازن للنظام السياسي بقبولها تسليم الحكم للتكنوقراط، وإقرارها بهزيمتها في الانتخابات التشريعية، وقبولها المشاركة في حكومة الحبيب الصّيد من موقع أقلّاوي لايتناسب مع حجمها الانتخابي، فإنّ تنازلاتها سواء في مايتعلّق بالجانب الإيديولوجي كالنصّ على الشريعة في الدستور، أو تجريم التكفير، أو الجانب السياسي من خلال رفضها إقصاء رموز النظام القديم في إطار التأقلم والتعامل البراغماتي مع موازين القوى الداخلية والإقليمية، فتحت الطريق على يمينها أمام التيّارات الجهادية التي تسعى إلى التعبئة باسم الدفاع عن الإسلام ومحاربة عودة النظام الاستبدادي الذي حكم البلاد منذ الاستقلال. المفارقة أنّ نجاح حركة النهضة في التحوّل إلى حزب محافظ، وفي تطبيع موقعها في المشهد السياسي، يعني عمليّاً فشل الإسلام السياسي وفق عبارة أوليفييه روا: فشله كإيديولوجيا أفقها أسلمة الدولة، وبالتالي فتح الطريق أمام القوى الأصولية القابعة على هامش هذا المشهد أو الرافضة له أصلاً لمحاولة التغيير باستعمال العنف المسلّح. وبعيداً عن الاتهامات التي تعتمدها الأوساط العلمانية لتوصيف العلاقة بين حركة النهضة والتيّارات الأصولية، فإنّ صعود هذه الأخيرة هو نتيجة حتميّة للمزايدات التي عادة ماتطبع علاقة الحركات الإسلامية في مابينها. حاولت حركة النهضة طيلة المرحلة الأولى من حكمها احتواء التيّارات الأصولية وامتصاص احتقانها، عن طريق إقناع أنصار هذه التيّارات بضرورة اعتماد العمل السياسي والاجتماعي كمنهج للتغيير السلمي، قبل أن تبادر حكومة علي العريّض، في آب/أغسطس 2013، على أثر سلسلة من الاغتيالات السياسية من قبل السلفيين الجهاديين، إلى تصنيف تنظيم أنصار الشريعة كجماعة إرهابية، معترفةً ضمنيّاً بفشل مساعيها. اعتقدت حركة النهضة أنّ خلافها مع التيّارات الجهادية ديني في الأساس قبل أن تكتشف أنه خلاف سياسي عميق. ففي حين كانت الحركة تسعى إلى تطبيع موقعها في النظام السياسي مابعد الثورة كقوّة ديمقراطية مراهنة على السلطة، كانت التيّارات الجهادية ترفض النظام أصلاً وتطمح إلى قلبه بالقوّة. تعطُّل لغة الحوار كان سببه تبايُن عميق في الموقف من المشهد السياسي الجديد، لم تكن المراجعات الدينية قادرة على احتواءه. 

صعود التطرّف يدلّ أيضاً على وجود أزمة داخل النظام السياسي الجديد الذي هو في طور التشكّل، وعدم قدرة هذا الأخير على التعامل مع هذه المخاطر، فضلاً عن استيعابها. ولعلّ حالة الارتباك التي تتخبّط فيها الحكومة الائتلافية منذ تكوينها وبداياتها المخيّبة للآمال، خير دليل على ذلك. فعلاوة على احتدام صراع الأجنحة داخل نداء تونس على خلفيّة إشراك حركة النهضة في الحكومة، ومارافقه من تسريبات لمعطيات أمنية ضربت مصداقية الأجهزة الأمنية وكشفت تعرّضها إلى اختراقات حزبية وأخرى من مراكز نفوذ مالي واقتصادي، فإنّ أداء رئيس الحكومة منذ تكليفه بدا مهتزّاً وضعيفاً وغير قادر على وضع برنامج للحكومة، ولا على تحديد الأولويّات. وعلى الرغم من أهمية التحالف الحزبي الذي يسندها، بدت الحكومة عاجزة وخاضعة إلى حسابات المدى القصير، وإلى توجّس الأحزاب الداعمة لها وغياب الثقة في مابينها، في حين تميّزت المعارضة الديمقراطية، سواء داخل البرلمان أو خارجه، بضعفها وتشرذمها وعدم قدرتها على تجاوز هزيمتها في الانتخابات الماضية. وهذا مادفع محمّد الحامدي، أحد رموز المعارضة غير الممثّلة في البرلمان، إلى الكتابة قبل الهجوم الإرهابي ببضعة أيّام أنّ "لا أحد يحكم فعلاً ولا أحد يُعارض فعلاً والبلد يتهاوى نحو الأسوأ". كشفت الاتهامات بالتقصير في التصدّي للعنف الجهادي الذي تعرّضت إليه حركة النهضة من قبل حلفائها في الحكومة عقب عملية باردو، عن استفحال المزايدات بين مكوّنات المشهد السياسي، وعن هشاشة التحالف الإسلامي-العلماني الذي بدا أشبه بتسوية مرحلية لتجاوز الأزمة السياسية، وليس توافقاً تاريخياً يُؤمّنُ الديمقراطية ويدفع نحو التصدّي إلى القوى المتطرّفة عبر استيعابها أو مقاومتها.

المخاطر الأمنية العابرة للحدود

خطورة عملية متحف باردو تكمن أيضاً في هويّة منفّذيها، وهما شابّان ينحدر أحدهما من ولاية القصرين، وهي ولاية حدودية مع الجزائر كانت أحد معاقل الثورة على نظام بن علي، ولاتزال بعد أربع سنوات تعاني من التهميش وغياب التنمية، فيما ينحدر الثاني من أحد الأحياء الشعبية الفقيرة في أحواز العاصمة تونس. وبعيداً عن إقامة علاقة آليّة بين الفقر والتهميش من جهة، وبين الإرهاب من جهة ثانية، فإنّ هوية الشابّين تعكس أحد خصائص التيارات الجهادية في تونس، وهي قدرتها على النموّ في الهوامش الاقتصادية والاجتماعية وعلى الاستقطاب في هذه الأوساط التي تجد نفسها في قطيعة متزايدة مع الحكم ومع المعارضة بإسلامييها وعلمانييها، بما في ذلك السلفية السياسية التي يبقى وزنها هامشيّاً مقارنة بدول أخرى كمصر أو المغرب مثلاً. هشاشة الوضع الداخلي وغياب الإرادة السياسية القويّة يُمثّلان خطراً حقيقياً على تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، خصوصاً بالنظر إلى تأزّم الوضع الإقليمي وازدياد مخاطر التدفّقات عبر الحدود المزعزعة للاستقرار من أسلحة وجهاديّين. فلقد أوردت وزارة الداخلية التونسية معلومات أوّلية تفيد بأنّ منفّذَي العملية تلقّيا تدريبات في أحد المعسكرات في ليبيا في أواخر العام 2014، قبل العودة إلى تونس. وبالتالي، يُمثّل تحوّل الجارة ليبيا إلى قاعدة خلفيّة لاستقطاب الجهاديين التونسيين وتدريبهم، خطراً حقيقياً بالنسبة إلى تونس، خصوصاً أنّ قيادات جهادية تونسية وجدت ملجأ لها هناك، كسيف الله بن حسين المعروف بأبي عياض، زعيم أنصار الشريعة، أو أحمد الرويسي المعروف بأبي زكريا التونسي الذي كان يُشرِف على مركز تدريب، والذي قُتِل مؤخّراً ضمن مجموعة من التونسيين في المعارك بين تنظيم الدولة الإسلامية وقوّات فجر ليبيا في منطقة سرت. ويبدو أنّ تحوّلات الجهاد العالمي من جهاد معولم يُمثِّل تنظيم القاعدة أحد أبرز تعبيراته، إلى جهاد يخوض حرب مواقع ويسعى إلى أن يجد لنفسه موطئ قدم على أبواب تونس ممثّلاً في تنظيم الدولة الإسلامية، قد تدفع بالكثير من الجهاديين التونسيين الذين ذهبوا إلى سورية إلى العودة والاستقرار في ليبيا لجعلها قاعدة انطلاق العمليات باتجاه تونس. 

تكشف هذه العملية أنّ تونس اليوم بحاجة إلى نقاش جدّي حول الخيارات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية، بعيداً عن المزايدة المفتعلة في التصدّي للتيّارات الجهادية، خصوصاً أنّ البلد يُعَدّ أحد أهمّ المصدّرين للمقاتلين إلى ساحات الجهاد العالمي. لايجب أن يقتصر النقاش على القوانين والتشريعات التي على أهميتها لن تكون قادرة بمفردها على مجابهة مخاطر التطرّف، بل يجب أن يتطرّق بصفة أوسع إلى وضع استراتيجية وطنية لمكافحة الإرهاب تحظى بقدرٍ عالٍ من التوافق، وتكون كفيلة بحفظ الأمن من دون التضحية بالحريّات. تدخل تونس مرحلة حرجة في الحرب على الإرهاب، في غياب إصلاح المؤسسة الأمنية منذ سقوط نظام بن علي، ما أعطاها حصانة تجاه المساءلة والمراقبة، وهو مايغذّي المخاوف لدى أوساط واسعة من المجتمع السياسي والمدني إزاء عودة الدولة الأمنوقراطية، وإزاء محاولة تمرير مبادرات للمصالحة بين النظام القديم وحلفائه الجدد من الإسلاميين قد تمثّل التفافاً على مسار العدالة الانتقالية. كما أنّ أمن تونس يقتضي حتماً النأي بها عن الدخول في حرب المحاور الدائرة اليوم في ليبيا، وإلى السعي إلى دعم الحلول السياسية للأزمة الليبية، مع تكثيف التعاون والتنسيق الأمني مع دول الجوار. 

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.