REQUIRED IMAGE

REQUIRED IMAGE

مقال

محدودية الأدوار وضعف الاستقلالية في المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان

انتشرت في المنطقة العربية ما يعرف في أدبيات الأمم المتحدة بالمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، ولعل الاستقلالية هي المعيار الرئيسي الذي يمكن من خلال قياس مدى جدية هذه المؤسسات.

نشرت في ١٢ أغسطس ٢٠٠٨

انتشرت في المنطقة العربية ما يعرف في أدبيات الأمم المتحدة بالمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، ولعل الاستقلالية هي المعيار الرئيسي الذي يمكن من خلال قياس مدى جدية هذه المؤسسات، وذلك حسب معايير باريس التي اعتمدت من الجمعية العامة بالأمم المتحدة عام 1993 بشأن هذا النوع من المؤسسات. ورغم أن السمة المشتركة بين هذه المؤسسات في المنطقة العربية أنها جاءت وليدة قرار النخب الحاكمة إلا أن تأسيسها مر بمرحلتين، المرحلة الأولى لتطور هذه المؤسسات استمر في فترة التسعينيات من القرن الماضي، وكان تأسيسها ناتج عن أزمات داخلية رأت فيها الحكومات أن تبادر إلى الإعلان عن هذه المؤسسات ضمن حزمة من السياسات لمواجهة حالة من تناقص شرعيتها السياسية في الداخل، واستيعاب أزمات مجتمعية كما كان الحال في المغرب وتونس والجزائر والسودان وفلسطين واليمن. بينما المرحلة الثانية لولادة هذه المؤسسات جاءت في سياق الجدل الدولي والمحلي حول الإصلاح السياسي الذي شهدته المنطقة العربية في الخمسة سنوات الأخيرة وهو الأمر الذي دفع على سبيل المثال كلاً من الأردن والسعودية ومصر وقطر إلى تأسيس هذه المؤسسات، ورغم أن بعض هذه المؤسسات حافظت على استقلال نسبي لها في مواجهة الحكومات، وتحديداً النموذج الفلسطيني والمغربي، إلا أن باقي تجارب الدول العربية لم تستطع أن تبني لنفسها مشروعية مجتمعية باعتبارها مؤسسات وطنية غير تابعة للسلطات الحاكمة، بل درج الرأي العام على اعتبارها واحدة من الهيئات الحكومية، وغالبا ما تتوتر العلاقة بين هذه المؤسسات وحركة حقوق الإنسان خاصة عندما يكون الأمر متعلقا بإثارة قضايا الحقوق المدنية والسياسية، والإصلاح السياسي والدستوري.
تأخذ اختصاصات هذه المؤسسات طابعاً استشارياً، حيث تضطلع بتقديم المشورة للنهوض بسياسات وتشريعات حقوق الإنسان، ووضع خطط وطنية، والمساهمة في نشر ثقافة حقوق الإنسان، ورغم احتواء معظم التشريعات العربية على اختصاص تلقي شكاوي في انتهاكات حقوق الإنسان، إلا أن النص على هذا الاختصاص اتسم بالعمومية، دون تحديد لآليات الشكاوى، أو وجود ضمانات لإلزام أجهزة الدولة بالتعاون مع المؤسسات الوطنية، حيث تحمل صياغات النصوص التزاماً أدبياً فقط.
يتم تعيين أعضاء المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان في كلاً من تونس والجزائر وقطر والأردن بواسطة رؤساء الجمهورية أو بقرارات ملكية، ويتم الجمع بين نظام التعيين والاختيار في الحالة المغربية، حيث يضم المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان 44 عضوا بالإضافة إلى الرئيس، تقدم كل هيئة من الهيئات السياسية والمدنية المحددة في القانون قائمة تضم ثلاثة أشخاص، يتم اختيار واحدا منهم بواسطة الملك ممثلا لهذه الهيئة في المجلس، ويتولى الملك تعين الرئيس و14 عضوا آخرين، وفي فلسطين يستقل مجلس مفوضي الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق المواطن بوضع أسس ومعايير اختيار أعضائها. وفي مصر يتم اختيار أعضاء المجلس القومي لحقوق الإنسان بقرار من مجلس الشورى، وفي السعودية تتشكل الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان من 41 عضوا هم فقط الموقعين على النظام الأساسي وقد حصلوا على مرسوم تعيين من الملك. ولكن ثمة معياراً أخر يؤثر في فعالية تشكيل هذه المؤسسات، وهو وجود ضمانات لكفالة التمثيل العددي لمختلف القوى الاجتماعية والسياسية في المجتمع، و قد تجسد هذا المبدأ بشكل خاص في الحالة المغربية، حيث يوجب قانون المجلس الاستشاري أن تكون آلية تشكيل المجلس ممثلة لمنظمات حقوق الإنسان، والنقابات والأحزاب السياسية، وأساتذة الجامعات، بينما في باقي الحالات نصت القوانين على عبارات عامة بشأن معايير العضوية تترك لجهة التعيين دون إجراءات دقيقة لضمان التنوع.
حدثت تحولات ايجابية في تطور مهام واستقلالية المجلس الاستشاري في المغرب في بداية القرن الواحد والعشرين، وقد لعب المجلس دوراً رئيسياً في تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة، والتي مثلت سابقة فريدة مر بها المغرب مؤخراً لتسوية ماضي انتهاكات حقوق الإنسان، من خلال تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة. من ناحية أخرى لم يحسم المجلس القومي لحقوق الإنسان مسألة استقلاليته الكاملة عن النخبة الحاكمة، فعلى الرغم من أن تقريره السنوي الأول عن حالة حقوق الإنسان في مصر احتوى على انتقادات لممارسات الحكومة والأجهزة الأمنية، فضلاً عن إدانته لسياسات حكومية من حين إلى أخر، أو قيامه بمساعي لتسهيل مراقبة عدد من المنظمات غير الحكومية للانتخابات العامة. إلا أنه في مواقف أكثر يبدو كالمدافع عن الحكومة المصرية، خاصة عندما تكون الحكومة محل انتقادات من منظمات حقوقية دولية مثل العفو الدولية أو الهيومان رايتس ووتش، أو كما حدث مؤخراً بعد صدور قرار البرلمان الأوروبي عن حقوق الإنسان في مصر، حيث التفت بعض قيادات المجلس في إدانة القرار واعتباره تدخل غير مقبول في الشؤون الداخلية المصرية، كما ساند المجلس ترشيح مصر لنيل عضوية مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، على الرغم من التحفظات التي أبدتها عشرات المنظمات الحقوقية المصرية والدولية ، باعتبار أن الحكومة المصرية غير جديرة بعضوية المجلس، نتيجة سجلها المقلق على صعيد احترام حقوق الإنسان.
رغم حرص الحكومات العربية على خلق هذه الكيانات الوطنية والترويج لها محلياً ودولياً، إلا أنها في ذات الوقت تضع المنظمات غير الحكومية والمدافعين عن حقوق الإنسان تحت الحصار الأمني والإداري، مع تباين حجم وأنماط القيود من دولة لأخرى، وقد شهد العامين الأخيرين تدهوراً ملحوظاً في وضعية المدافعين عن حقوق الإنسان في البلدان العربية، حيث يتعرض بعضهم للاعتقالات التعسفية والمحاكمات، والتحرش، وتقييد حركتهم، وإغلاق المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان، ورفض إعطاء شرعية قانونية للعديد من المنظمات الغير حكومية المحلية أو قبول فروع للمنظمات الدولية. لكن المؤسسات الوطنية العربية لم تبذل جهوداً في ممارسة ضغوط أو القيام بواسطة مع حكوماتها من أجل رفع القيود عن مؤسسات المجتمع المدني، في عام 2007 أغلقت السلطات المصرية تعسفياً منظمتين غير حكوميتين أحداهما تعمل على قضايا التعذيب، والأخرى تنشط في الدفاع عن حقوق العمال، ولم يقوم المجلس القومي لحقوق الإنسان بوساطة جدية مع الحكومة من أجل وقف هذا التحرش بالمنظمات غير الحكومية، وفي تونس لم يسبق للمؤسسة الوطنية أن أدانت الإجراءات الصارمة التي تتبعها السلطات التونسية ضد المدافعين عن حقوق الإنسان.
إن الرؤية السياسية الكامنة وراء تأسيس المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان هي التي تحدد طبيعة أدوارها، حيث أن تأسيس مثل هذه المؤسسات يتطلب إرادة سياسية إصلاحية للنهوض بأوضاع حقوق الإنسان، وبدون هذه الإرادة تتحول هذه المؤسسات إلى كيانات بيروقراطية شكلية، محدودة الفاعلية، أو أن تلعب الأدوار المحددة لها سلفاً من الحكومات والأجهزة الأمنية. ونظراً لتأزم مسار التحول الديمقراطي في معظم الدول العربية وتوتر العلاقة بين السلطات الحاكمة والمجتمعات المدنية والسياسية لم يؤدي إنشاء هذه المؤسسات، باستثناء نسبي في فلسطين والمغرب، إلى تحسن حالة حقوق الإنسان، وإذا لم تقم المؤسسات الوطنية بدورها بوضع استراتجيات عملية وحركية لحشد الرأي العام، وممارسة ضغوط على الحكومات، والتواصل مع المجتمع المدني، تصبح خططها لتطوير وضعية حقوق الإنسان مجرد نشاط أكاديمي يمكن أن تقوم به أية مؤسسات بحثية أو جامعية.

معتز الفجيري هو المدير التنفيذي لمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، وعضو اللجنة التنفيذية للشبكة الأوروبية المتوسطية لحقوق الإنسان.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.