المصدر: Getty
مقال

الأزمة الراهنة ودروس الثمانينيات

تستعين دول الخليج بالدروس المؤلمة التي تعلّمتها في الثمانيات لمواجهة الأزمة الحالية.

نشرت في ٨ يوليو ٢٠٠٩

ضرب الركود الحالي العديد من البلدان الغربية بقوة لم يُعرَف لها مثيل منذ الكساد الكبير في الثلاثينيات. في المقابل، واجهت الأنظمة الملكية النفطية في الخليج كسادها الخاص في الثمانينيات واستقت منه دروساً. صحيح أن التحوّل النزولي العالمي ومارافقه من هبوط في أسعار النفط يؤثّر إلى حد كبير في هذه الدول، لكنها كانت أفضل استعداداً من معظم البلدان الأخرى في العالم لتجاوز الأزمة الحالية.

كان الهبوط الأخير في أسعار النفط أكثر دراماتيكية من نواحٍ عدة من ذلك الذي حدث في مطلع الثمانينيات. إذ انهارت الأسعار من 140 دولاراً للبرميل في صيف 2008 إلى أقل من 40 دولاراً في مطلع 2009، ولم يحدث منذ ذلك الحين سوى تعافٍٍ جزئي. وقد فاجأت سرعة الهبوط هذه معظم مراقبي الأسواق، إذ كان انهيار الثمانينيات خفيفاً بالمقارنة، حيث تراجعت الأسعار تدريجياً من نحو 40 دولاراً للبرميل العام 1981 إلى 25 دولاراً العام 1985، وسجّلت لفترة مؤقتة أدنى مستوى لها مع عشرة دولارات فقط العام 1986. وقد منح هذا الانهيار الحكومات وقتاً أطول بكثير للتكيّف – أوهذا ما اعتقدنا.

في الواقع، أثار هبوط الأسعار في الثمانينيات ذعراً حكومياً وتسبب بانهيار القطاع الخاص في الخليج، هذا في حين كان رد الفعل على التراجع الأخير أكثر تروياً بكثير. في الثمانينيات، قلّصت الحكومات الموازنات، وأفلست أعداد هائلة من المتعاقدين المحليين، وعانت مجموعات عائلية كبيرة من العجز عن الوفاء بالديون، مما أسفر عن تمهيد الطريق أمام عمليات تثبيت وإعادة هيكلة بطيئين ومؤلمين خلال عقد التسعينيات، وهو العقد الذي تميّز ببطء النمو.
هذه المرة، تعمد معظم حكومات مجلس التعاون الخليجي في الواقع إلى زيادة الإنفاق بدلاً من كبحه، وينمو القطاع الخاص ببطء أكبر بدلا من أن ينهار. أما المتاعب التي تواجهها مصارف خاصة ومجموعات عائلية، فسببها هو العدوى من النظام المالي الدولي وليس من التقلبات في أسعار النفط أوالتقلبات المالية.

لقد نضجت اقتصادات مجلس التعاون الخليجي على صعيدَين. الأول أن السياسة المالية كانت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أكثر حذراً منها في مرحلة الارتفاع الحر في أسعار الأسهم في السبعينيات، مما سمح للحكومات بأن تتعامل بمرونة أكبر مع التراجع الحالي في النشاط الاقتصادي. والثاني أن القطاعات الخاصة باتت أقل اعتماداً بكثيرعلى الإنفاق الحكومي، مما وفّر لهذه القطاعات حماية من أزمة مالية محتملة أعلى بكثير من تلك التي حصلت عليها في الثمانينيات. وفي حين أن التغيير الأول هو ذو تأثير فوري، إلا أن التغيير الثاني يتضمن على الأرجح أهمية أكبر في المدى الطويل.

في السبعينيات، كان الإنفاق يحذو حذو الدخل النفطي المتزايد. ففي السعودية، بلغ إجمالي معدّل النمو السنوي للدخل الحكومي بين 1969 و 1976 نسبة 57 في المئة، فيما سجّل إجمالي معدل النمو السنوي للإنفاق الحكومي 55 في المئة. بعبارة أخرى، كانت كل المداخيل الإضافية تقريباً في هذه المرحلة من الارتفاع في أسعار النفط تُنفَق على الفور. لكن في المقابل، بلغ معدّل نمو الدخل الحكومي في السعودية بين 2002 و2008 نسبة 31.5 في المئة، في حين سجّل النمو في الإنفاق 14 في المئة في السنة. وعلى الرغم من أن الإنفاق ارتفع إلى حد كبير (ازداد أكثر من الضعف منذ العام 2002)، إلا أنه تم ادخار أكثر من نصف المدخول السنوي الإضافي.

كان التوسع المالي حذراً بالدرجة نفسها في دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى. وهذا يعني أن مستويات الاحتياطي في الخارج تفوق في معظم الحالات ما كانت عليه في أي وقت مضى بالنسبة إلى الموازنات الوطنية، على الرغم من الخسائر الاستثمارية الكبيرة التي حدثت خلال العام 2008. وفي مطلع العام 2009، كانت دول مجلس التعاون الخليجي الأكثر ثراء تملك كلها ما يكفي من الأصول في الخارج لتمويل العديد من الموازنات السنوية، حتى لو افترضنا خسارتها لأي مصدر للدخل الحالي – وهو وضع تُحسَد عليه أي دولة. وبالاستناد إلى تقديرات غير رسمية للأصول في الخارج، من شأن المدخرات القطرية أن تكون كافية للحفاظ على مستويات الإنفاق التي سُجِّلت عام 2008 لأكثر من سنتين أخريين، في حين تستطيع السعودية أن تحافظ على مستويات الإنفاق لأكثر من ثلاث سنوات، والكويت لأكثر من أربع سنوات، والإمارات العربية المتحدة لأكثر من خمس سنوات. هذا في حين كانت المدخرات السعودية في الخارج في نهاية الطفرة النفطية الأخيرة العام 1981 تكفي لتمويل موازنة سنوية واحدة، أي أنها كانت أقل بكثير مما هي عليه الآن واستُنفِدت في غضون سنوات قليلة.

إن تراكم الأصول في الخارج يعني أنه حتى لو تكبّدت بعض دول مجلس التعاون الخليجي عجوزات معقولة في الموازنة العام 2009، فهذا بالكاد سيهدّد وضعها المالي في المدى المتوسط. وهكذا، من شبه المؤكّد أن الحذر المالي النسبي الذي أظهرته هذه البلدان خلال الطفرة الأخيرة يعكس الدروس التي تعلّمتها من انهيار الثمانينيات، ما يسمح الآن للأنظمة الملكية في الخليج بأن تطبّق توسعاً مالياً مدروساً في العام 2009 في إطار إجراء معاكس للدورة الاقتصادية، فتزيد إنفاقها على الأجور والمشاريع على السواء كي تتمكّن اقتصاداتها من تجاوز مرحلة صعبة. وعدا موازنة الكويت التي ترزح تحت وطأة الوضع السياسي، توازي موازنات 2009 في كل بلدان مجلس التعاون الخليجي الأخرى موازنات 2008 أوتفوقها.

وثمة تغيير آخر يصعب قياسه مباشرة لكنه مهم بالدرجة نفسها هو أن القطاع الخاص يؤدي دوراً أكثر نضوجاً بكثير من ذي قبل في التنمية الوطنية. وتُظهر اختبارات الاقتصاد القياسي أن القطاعات الخاصة في الخليج هي الآن أقل اعتماداً بكثير على الإنفاق الحكومي مما كانت في السبعينيات أوالثمانينيات، وتلبّي طلباً خاصاً أكبر حجماً. فحصتها من إجمالي الرساميل الثابتة ازدادت إلى حد كبير (في السعودية، مثلاً، ارتفعت هذه الحصة من ثلث المجموع الوطني إلى الثلثَين تقريباً، على الرغم من الطفرة الأخيرة في مجال البناء في القطاع العام). فقد تطوّر تجار الخليج من أصحاب أملاك ريعيين إلى أبطال إقليميين، وأصبحوا أقل اعتماداً بكثير على الإعانات الحكومية المباشرة، وينشطون أكثر فأكثر في الاستثمار عبر الحدود، وتحديداً في الساحة العربية. وهكذا، وحتى لو اضطُرَّت الحكومات إلى الحد من إنفاقهم، فسوف يكون التأثير على هذا القطاع أخف وقعاً بكثير مما كان عليه قبل ربع قرن.

لاتزال اقتصادات الخليج تواجه مشاكل محتملة في المدى الطويل: فالتطورات الديمغرافية ستجعل من الصعب العودة عن الزيادات الأخيرة في الإنفاق؛ كما أن الإنفاق الحكومي سيستمر على الأرجح في النمو في المدى الطويل. إذ لم تتمكّن أي دولة من دول مجلس التعاون الخليجي من تقليص الرواتب في القطاع العام، وحتى في سنوات التقشف في الثمانينيات والتسعينيات، كان تطبيق الخفوضات العاجلة في الإعانات صعباً من الناحية السياسية، وغالباً ماكان يتم العدول عنه بعد احتجاجات عامة أو في القطاع الخاص. وعلى أي حال، حالما تصبح الإعانات ممأسسة، يصعب إلغاؤها. وإذا تواصلت الزيادات التدريجية في الإنفاقات الأخيرة على هذا النحو، فقد تؤدي إلى مشاكل بنيوية في المالية العامة في غضون عقد أو اثنين حتى بالنسبة إلى دول الخليج الأكثر ثراء.
 

لن تكون هذه المشاكل عصيّة على الحل، لكن قد تتطلب إعادة تفاوض مؤلمة في العقود الاجتماعية التي تقف الآن وراء تماسك دول مجلس التعاون الخليجي، والتي سمحت لمعظمها بالحفاظ على هدوئها خلال الانهيار الحالي. هنا، وفي هذه النقطة بالذات، يمكن أن تصبح القدرة المحسَّنة على الصمود المالي والأصول المتراكمة للقطاع الخاص، مهمة من الناحية السياسية. ومع أنه ليس من الواضح كيف ستنجلي الصورة النهائية، إلا أنه من المرجّح أن الدولة والقطاع الخاص سيتواجهان في ميدان سياسي أكثر تساوياً من السابق.

ستيفن هرتوغ أستاذ كرسي الشرق الأوسط والمتوسط في كلية العلوم السياسية في باريس ومؤلف
 Princes, Brokers, Bureaucrats: Oil and State in Saudi Arabia
(الأمراء والسماسرة والبيروقراطيون: النفط والدولة في السعودية) (يصدر قريباً عن مطبعة جامعة كورنيل).

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.