دفع الربيع العربي بأوروبا إلى بذل مجهود أكبر للتفكير في آلية لدعم المرحلة الانتقالية في بلدان جنوب المتوسط الخاضعة لأنظمة سلطوية، بيد أنه لا يزال من المستبعد أن تُجري إعادة نظر معمَّقة في مقاربتها الإقليمية. وأحد العوائق هو أنّ إطار التعاون المتعدّد الأطراف المتمثِّل في الاتّحاد من أجل المتوسّط الذي يضم 43 عضواً، غير متجانس إلى حد كبير بحيث لا يتيح التعاون السياسي أو الاتّفاق على آليّات للتعاون دون الإقليمي. وقد استخدمت فرنسا التي كانت وراء ترويج هذا الإطار، مقاربة حكومية تقوم على اتّفاقات ثنائية في محاولة منها لقيادة الشراكة. لكن تبيّن أن النشاطوية الفرنسية ليست مناسبة، ولم ينطلق الاتحاد من أجل المتوسّط فعلياً بعد.
كانت مؤشّرات الفشل واضحة قبل الانتفاضة التونسية بوقت طويل، من خلال إرجاء القمم التي كان من المقرّر أن يعقدها الاتحاد من أجل المتوسط والمحاولات الفاشلة لتجديد الرئاسة المشتركة. حتى فرنسا أقرّت مؤخراً بالحاجة إلى تكييف السياسة الأوروبية من أجل التعاطي مع الفرص والتحدّيات الجديدة في العالم العربي.
صدرت الاقتراحات لإعادة توجيه السياسة الأوروبية عن المفوّضية الأوروبية وخدمة العمل الخارجي الأوروبي الحديثة العهد، أولاً من خلال "الترويج للشراكة من أجل الديمقراطية والازدهار المشترك"، ومؤخراً من خلال مقترحات تدعو إلى مراجعة سياسة الجوار الأوروبي وإنشاء "فريق العمل الخاص بجنوب البحر الأبيض المتوسط." لكن عدداً من الدول الأعضاء تعامل بفتور مع الأفكار الأكثر جذرية مثل تحرير أنظمة منح تأشيرات السفر وزيادة ولوج المحاصيل الزراعية إلى الأسواق. أما الأفكار حول إنشاء "صندوق أوروبي للديمقراطية" و"مرفق المجتمع المدني" توجد في الخطوط العريضة فقط.
لا يزال الاتحاد من أجل المتوسط قائماً حتى الآن
يبدو أن الاتحاد من أجل المتوسط سيبقى قائماً، على الرغم من الصعوبات التي يواجهها، وذلك لسبَبين. ليست هناك رغبة لإلغائه لدى الاتحاد الأوروبي، ولا الدول العربية تطالب بذلك، لا سيما الآن بعد رحيل بعض المتحمّسين الأوائل لإلغائه (وزير الخارجية الفرنسي السابق برنار كوشنير ونظيره الإسباني ميغيل أنخيل موراتينوس)، كما أن فرنسا أصبحت أكثر انفتاحاً على تكييف الاتحاد من أجل المتوسط من خلال تعزيز دور الاتحاد الأوروبي في الرئاسة المشتركة، وإطلاق مشاريع جديدة للاتّحاد تتمحور حول المجتمع المدني، وتركيز أكبر على مراعاة الشروط السياسية عن طريق سياسة الجوار الأوروبي. فضلاً عن ذلك، نظراً إلى الحاجة الملحّة إلى التعامل مع التطوّرات في العالم العربي، الموقف السائد في الاتحاد الأوروبي هو أنه من الأفضل إلقاء نظرة من جديد على الآليات الموجودة واستخدام ما يصلح منها بأسلوب مستحدَث في القريب العاجل نسبياً. هذا مع العلم بأن سياسة الجوار الأوروبي كانت تخضع لمراجعة قبل وقت طويل من اندلاع الثورات العربية.
إذاً سيبقى الاتحاد من أجل المتوسط قائماً لبعض الوقت، لكنه لن يقدّم مساهمة كبيرة في رفع التحدّيات التي يطرحها الربيع العربي. لا تزال الأمانة العامة للاتّحاد في برشلونة تقصّر عن تأدية دورها، إلا أنّ هناك أملاً بأن يعمل الأمين العام الجديد يوسف العمراني (الأمين العام السابق لوزارة الشؤون الخارجية المغربية) الذي عُيِّن مؤخراً لتطبيق مقاربة أكثر عمليّة. لكن ما السبيل لتنفيذ مشاريع جديدة دعماً لتنمية المجتمع المدني؟ تقتضي الموافقة على المشاريع وتجديد الرئاسة المشتركة للاتحاد من أجل المتوسط (لاستبدال الرئيس الفرنسي ساركوزي والرئيس المصري المخلوع حسني مبارك) عقد قمّة. وهذا أمر صعب لأن سوريا مثلاً تستخدم تأثيرها لتعطيل أي حدث رفيع من شأنه أن يفترض ضمناً علاقات طبيعية مع إسرائيل.
وتعارض الحكومات الأوروبية من جهتها فكرة استخدام معاهدة لشبونة لجعل الاتحاد الأوروبي قوّة محرِّكة أكثر مركزية في الاتحاد من أجل المتوسّط، وتؤيّد اتّخاذ القرارات بالتشاور بين الحكومات: مثلاً ترفض المملكة المتحدة أن يتولّى الممثّل الأعلى للاتحاد الأوروبي تمثيلَ الاتحاد في الرئاسة المشتركة للاتحاد من أجل المتوسط خشيةً أن يشكّل هذا الأمر سابقة تؤثّر في شكل عام في تطبيق معاهدة لشبونة.
سياسة الجوار الأوروبي: المقاربة الثنائية
من هذا المنطلق، تبقى سياسة الجوار الأوروبي القائمة على أساس ثنائي الأداة الأساسية التي يتعامل الاتحاد الأوروبي من خلالها مع الربيع العربي. والمرتقب في هذا الصدد هو اعتماد الاتحاد الأوروبي مزيداً من التمايز في علاقاته مع جيرانه، وربط هذه العلاقات بحجم الإصلاح الذي يجرونه في أنظمتهم. فالشروط المطلوب توافرها هي الآن محط تركيز أكثر من أي وقت مضى، وسوف يتحوّل الدعم للديمقراطية اتّجاهاً أساسياً في سياسة الجوار الأوروبي. تعرض أوروبا الآن على جيرانها إعطاءهم المزيد في مقابل حصولها أيضاً على المزيد منهم، أي إن منافع أكبر بانتظار البلدان التي تقرّر الالتقاء مع أوروبا في مختلف الميادين.
بيد أن فاعلية أسلوب الشروط هذا تتوقّف على قدرة الاتحاد الأوروبي على توفير منافع معزَّزة من خلال خطط عمل جديدة في إطار سياسة الجوار الأوروبي. يتعهّد الاتحاد الأوروبي تخصيص أموال جديدة لدعم التنمية والديمقراطية في البلدان التي تنخرط في إصلاحات جدّية، إلا أن الفاعلين في الاتحاد منقسمون حول مسائل مثل حرَكيّة السكّان، ناهيك عن الخطوات الواجب اتّخاذها بشأن النزاع المتواصل في ليبيا.
تتميّز سياسة الجوار الأوروبي عن الاتحاد من أجل المتوسط في أن هيكليّتها الثنائية تتيح تطوّر العلاقات مع الشركاء العرب بوتيرات مختلفة. لكنها لا تزال تعاني من محدوديات خطيرة. أولاً، لا تشمل هذه السياسة كل جيران الاتحاد الأوروبي في الجنوب. فليبيا لا تزال خارجها، ولا تبدي الجزائر حماسة كبيرة حيالها. ثانياً، من شأن اعتماد الاتحاد الأوروبي حصراً على سياسة الجوار الأوروبي أن يعني التخلّي بالكامل عن تعدّدية الطرف الأوروبية-المتوسّطية. لكن عملية برشلونة، وعلى الرغم من كل شوائبها، حقّقت بعض النجاحات، مثل إنشاء مؤسسة آنّا ليند التي طوّرت شبكة إقليمية لأكثر من 3000 منظمة مجتمع مدني.
فيما يُستبعَد أن يتم إصلاح الاتحاد من أجل المتوسط أو استبداله في وقت قريب، يحتاج مستوى الشراكة الإقليمي إلى الاهتمام والمبادرة. ويجب إعادة النظر في هندسته من أجل التخلّص من الشلل الذي يعاني منه. قد يكون التعاون بين 43 دولة عضو في الاتحاد فعّالاً في بعض الميادين، لكن المطلوب هو هيكليات أوروبية-متوسّطية موزَّعة على طبقات بحيث يصبح بالإمكان إنشاء هيئات دون إقليمية أيضاً تتألّف من بلدان ومؤسّسات تتشاطر اهتماماً مشتركاً بالحوار والتعاون في ميدان معيّن، وتعجز عن ذلك في الوقت الحاضر بسبب فقدان الاهتمام من جانب البلدان الأخرى في الاتحاد من أجل المتوسط أو معارضتها لهذا التعاون. ولا يقوم الطابع دون الإقليمي بالضروة على تصنيف جغرافي، بل قد يتبيّن أن تطبيق الهندسة المتغيِّرة يكون أكثر قابلية للحياة إذا بُني على أساس جداول الأعمال.
تتضمّن وثيقة "الشراكة من أجل الديمقراطية والازدهار المشترك" تلميحاً إلى مثل هذه المقاربة، فهي تنصّ على أن الالتزام ب"انتخابات حرّة وعادلة تخضع للمراقبة المناسبة" هو "الشرط الأوّل للتأهّل للانضمام إلى الشراكة". بيد أن هذا الاقتراح لا يتطرّق إلى إنشاء هيكليات جديدة. في الواقع، وعلى الرغم من إعادة تركيز سياسة الجوار الأوروبي، ليس واضحاً على الإطلاق بأن الدعم الأوروبي للدمقرطة عن طريق التحرّك الأحادي (في غياب التحرّك المتعدّد الأطراف) سيحصل على الاندفاعة التي تقتضيها الأوضاع الراهنة.
ريتشارد غيليسبي أستاذ مادّة السياسة في جامعة ليفربول ورئيس تحرير مجلة "مديترينيان بوليتيكس".