تبدو أصداء الربيع العربي في أفريقيا جنوب الصحراء أكثر تعقيداً ممّا خُيِّل في البداية؛ فقد قيل الكثير عن تسبّب الأزمة الليبية بأزمة في مالي مثلاً، لكن قلّة فقط توقّفت عند المراحل الانتقالية في شمال أفريقيا، وتحديداً كيف يمكن أن تُهيَّأ الساحة لأشكال جديدة من التعاون الأمني بين بلدان الساحل الأفريقي. لقد بدأت هذه الاحتمالات تتبلور الآن، حتى في الوقت الذي يبذل العالم جهوداً دؤوبة للتوصّل إلى مقاربة متعدّدة الأطراف للتعامل مع الأوضاع في شمال مالي. وخير مثال على ذلك الاجتماع المقبل لـ"تجمّع دول الساحل والصحراء" (سين-صاد) في نجامينا، تشاد، في كانون الثاني/يناير الجاري، حيث يُرجَّح أن يواصل المغرب خطواته المدروسة لتسلّم قيادة التجمّع.
أفقَدَ الربيع العربي "تجمّع دول الساحل والصحراء" بوصلته، بعدما زعزع أسس "الهندسة الأفريقية للسلم والأمن"، وهزّ ركائز الاتحاد الأفريقي عبر إطاحة معمر القذافي الذي كان داعِماً أساسياً له. قدّم تجمّع "سين-صاد"، وهو ليس معروفاً بقدر المجموعات الاقتصادية الإقليمية السبع الأخرى التابعة للاتحاد الأفريقي، رؤى عالية السقف وبعيدة الاحتمال للوحدة الاقتصادية والتبادل السياسي والثقافي بين عدد متزايد من البلدان الأفريقية، فقد توسّع من أربعة أعضاء إلى 28 عضواً بفضل السخاء الليبي. لكن بحلول أواخر العام 2011، بدا أن التجمّع يتّجه نحو الأفول والاضمحلال مع وفاة قائده.
في هذه الأثناء، أتاح الربيع العربي فرصاً جديدة للشراكة أمام المغرب، البلد الأفريقي الوحيد غير العضو في الاتحاد الأفريقي، والمعزول منذ وقت طويل بسبب النزاع حول الصحراء الغربية وخصومته مع الجزائر المجاورة. مع زوال شخصيّتَي القذافي وزين العابدين بن علي الاستقطابيّتَين من المشهد، قد تكون هناك بوادر أمل جديد لـ"اتحاد المغرب العربي"، وهو أحد المجموعات الاقتصادية الإقليمية الشمالية التابعة للهندسة الأفريقية للسلم والأمن، والذي يبدو أن تونس مصمِّمة على إحيائه من جديد. وقبل نحو عام، بدأت الدول الأفريقية تمارس ضغوطاً لدى المغرب لإعادة إحياء تجمّع "سين-صاد".
لابد أن "تجمّع دول الصحراء والساحل" يمارس، من بين هذه التحالفات الكثيرة، جاذبيّة خاصّة بالنسبة إلى المغرب، وذلك لأسباب عدّة. فعلى الأرجح أنه لن يكون هناك خلاف حول الموقع المتصدِّر الذي يحتله المغرب في المنظمة، نظراً إلى أن الدول الأعضاء الأخرى لاتتمتّع بالحافز والمكانة والاستقرار اللازم لقيادة التجمّع. فنيجيريا وكينيا ثابتتان في موقعهما بصفتهما دولتَين مركزيّتَين في مجموعات اقتصادية إقليمية قائمة وفاعلة - نيجيريا في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) وكينيا في مجموعة دول شرق أفريقيا، من بين مجموعات أخرى. ولاتزال مصر منهمكة في الدبلوماسية الإقليمية وشؤونها الداخلية، في حين أنه من شأن غياب الجزائر عن تجمّع "سين-صاد" أن يُطلق يد المغرب لإدارة المنظّمة بمعزل عن جارتها. فضلاً عن ذلك، قد تتمتّع المملكة بأشكال جديدة من التأثير داخل مجموعة اقتصادية إقليمية تقوم على انخراط الشمال الأفريقي العربي والمسلم في جنوب القارة. يشمل تجمّع "سين-صاد" أكثر من نصف الدول الأفريقية، ومايوحّد هذه المجموعة المتنوِّعة جداً من البلدان - من غامبيا إلى جزر القمر، ومن الصومال إلى سيراليون - هو الإسلام أكثر منه الظروف المناخية الإيكولوجية أو الظروف البيئية. فتجمّع "سين-صاد" يضم كل الدول الأفريقية ذات الغالبية المسلمة، ماعدا الجزائر (فضلاً عن الدول الأعضاء التي تضم أقلّيات مسلمة كبيرة)، وهذا الواقع يُناسِب الملك المغربي الذي يستمدّ سلطته جزئياً من موقعه كأمير للمؤمنين.
لكن الأهم من ذلك هو أنه من شأن قيادة "تجمّع دول الساحل والصحراء" أن تتيح للرباط الانخراط في منطقةٍ حيث لديها مشاغل أمنية عميقة ومباشرة. يردّد المسؤولون المغاربة باستمرار أن الجنوب والجنوب الشرقي هما مصدران أساسيّان للمخاوف، ولاسيما صعود التهديدات العابرة للأوطان. تنتشر في الساحل الحدودي الهجرة غير الشرعية، والاتّجار غير المشروع بالسلاح والبشر؛ كما أنه يشكّل ملاذاً لـ"تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" ومجموعة متكاثِرة من الجماعات المسلّحة التي تستخدمه مسرحاً لعمليّاتها. لاشك في أن هذه التحدّيات تلقي بثقلها على المغرب، فيما يستقرّ مزيد من المهاجرين غير الشرعيين في البلاد، ويتفشّى الاتجار غير المشروع أكثر فأكثر في أوساط الشباب الصحراوي، وتواجه المدن الكبرى والمعالم السياحية خطر التعرّض إلى مزيد من الهجمات الإرهابية الإسلامية. أقرّت الحكومة المغربية، على خلفيّة الربيع العربي، دستوراً جديداً في تموز/يوليو 2011 أعاد تحديد الأولويات المغربية في السياسة الخارجية، مع التركيز في شكل خاص على منطقة أفريقيا جنوب الصحراء. ويُسلَّط الضوء بوضوح على منطقة الساحل التي تُذكَر مباشرةً بعد المغرب والأمّة (وقبل حوض المتوسّط) في لائحة الأولويات المغربية في المنطقة. لهذه الأسباب مجتمعةً، لدى المغرب مصلحة في تبنّي هيكلية "سين-صاد" الجاهزة وتكييفها، فرصيد التجمّع لايقتصر على التفاعل الاقتصادي والتبادل الثقافي، بل يشمل أيضاً نشر القوّات متعدّدة الجنسيات في عمليات حفظ السلام (كما حصل في العام 2001 في جمهورية أفريقيا الوسطى).
في حزيران/يونيو الماضي، اتّخذت الرباط الخطوة الأولى التي تمثّلت باستضافة اجتماع لـ"تجمّع دول الساحل والصحراء" يهدف إلى إعادة إحيائه وتحويل تركيزه نحو الأمن. من شأن الاجتماع المقبل في نجامينا أن يكشف المزيد عن النوايا المغربية وآفاق تجمّع "سين-صاد" وتوجّهاته. ومن المؤشّرات الأساسية التي يجب رصدها في هذا الإطار المسؤوليات والسلطات المفوَّضة إلى لجنة السلام والأمن الجديدة في التجمّع؛ والتعهّدات المالية التي تقطعها الدول الأعضاء ولاسيما المغرب للتجمّع؛ والاقتراحات لنقل أيّ من الهيئات التابعة له إلى خارج العاصمة الليبية، طرابلس (حيث يقع حالياً مقرّ التجمّع)؛ والدور الذي ستؤدّيه الدول الأعضاء ذات الثقل، مثل مصر والسنغال ونيجيريا وكينيا؛ ومدى التركيز على المسائل الأمنية في الدول الأعضاء الغربية، مثل مالي ونيجيريا، بدلاً من الدول الشرقية مثل الصومال والسودان-جنوب السودان. لقد اقترح المسؤولون في الحكومة التشادية الشهر الفائت سيناريو تنسحب بموجبه الدول الواقعة عند الأطراف من "تجمّع دول الساحل والصحراء"، بعدما توقّفت الجَزرات (أو العصي) التي كان القذافي يُقدّمها لها للجلوس إلى الطاولة، فيصبح عدد أعضاء التجمّع عشر دول فقط تُركِّز حصراً على الجزء الغربي، الأمر الذي من شأنه أن يمنح المنظمة أهليّة عالية للتحرّك في أماكن مثل شمال مالي. أخيراً، وأبعد من الاجتماع في حدّ ذاته، سوف تترتّب تداعيات مهمّة عن ردّ فعل الجزائر، أياً يكن، على إعادة إحياء تجمّع "سين-صاد". وقد يكون الردّ الأكثر إثارة للاهتمام والأشدّ تعقيداً (بالنسبة إلى المغرب) هو أن تتقدّم الجزائر بطلب للعضوية في التجمّع.
سوف تشكّل قمّة رؤساء الدول في كانون الثاني/يناير الجاري برئاسة تشاد، خطوة نحو الأمام، لكن تجمّع "سين-صاد" سيظلّ يتعرّض إلى ضغوط قويّة للتدخّل سريعاً في الأزمة في مالي. بيد أن هذه المجموعة الاقتصادية الإقليمية التي لم تتّضح آفاقها بعد، قد تجد نفسها في نهاية المطاف منخرطة هناك وفي الساحل على نطاق أوسع - سواء في هذه الأزمة أو في أزمة أخرى قد تنشأ لاحقاً. ارتدادات الربيع العربي حافلة بالتناقضات والمفارقات. فربما وجَب أن يموت مؤسِّس "تجمّع دول الساحل والصحراء" كي تعيش المنظّمة، وقد تتحوّل الدولة المركزية في التجمّع من أحد أقوى مناصري الاتحاد الأفريقي إلى الدولة الوحيدة غير العضو فيه. الخط المستقيم من الأزمة الليبية إلى أزمة مالي واضح إلى حد ما، لكن التأثيرات النهائية للربيع العربي على السلام والأمن في أفريقيا لاتزال غير واضحة المعالم.
الدكتور بنجامين ب. نيكلز أستاذ مساعد في مادّة التهديدات العابرة للأوطان ومكافحة الإرهاب في مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية. يستند المقال في جزء منه إلى أحاديث مباشرة مع مسؤولين مغاربة وليبيين وتشاديين في واشنطن ونجامينا.
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.