لا يمكن النظر إلى ما جرى في العراق من حركة احتجاجية خلال الأشهر السبعة الماضية بمعزل عما يجري في سورية منذ أكثر من عامين. فمنذ الانسحاب الأميركي من العراق نهاية العام 2011، لم تشهد الساحة العراقية أي نشاط مسلح لمجموعات المعارضة المسلحة، باستثناء جماعات صغيرة، وتنظيم "دولة العراق الإسلامية" الذي استمر في تنفيذ عمليات كبرى في بغداد وغيرها من المحافظات، ومن أبرزها عملية اقتحام مبنى مجلس محافظة صلاح الدين واحتلاله لساعات عدة من قبل انتحاريين، في 29 آذار/مارس 2011. وكذلك اقتحام مبنى وزارة العدل في 14 آذار/مارس 2013، وقتل العشرات من منتسبي الوزارة. هذا إضافة إلى سلسلة التفجيرات التي تشهدها بغداد، العاصمة وكبرى مدن العراق، بين حين وآخر.
ومع اتخاذ الثورة السورية طابعاً مسلحاً ، شهدت الحدود العراقية الغربية مع سورية في محافظتَي نينوى والأنبار، معقلَي تنظيم "دولة العراق الإسلامية" الرئيسَين، تدفّقاً لعناصر التنظيم إلى المحافظات الشرقية من سورية، وتحديداً دير الزور ومدنها، قبل انتشارهم في العمق السوري، ليتزوّدوا بالخبرة القتالية التي يفتقرون إليها في حرب العصابات. وإذ يعجز هؤلاء المقاتلين من استخدام منافذ العبور الرسمية إلى خارج العراق، يلجؤون عادةً إلى الطرق البرية غير الشرعية الممتدة إلى مسافة أكثر من 640 كيلومتر على طول الحدود العراقية السورية من الموصل شمال غرب العراق، إلى الأنبار في غرب العراق.
ظلّت الحدود العراقية السورية ممرّاً لعبور مقاتلين إسلاميين إلى العراق طيلة فترة الاحتلال، كما هي حال المهرّبين الذين ينقلون الأسلحة والبضائع والأغنام عبر الحدود إلى العراق، أو من العراق إلى سورية. كذلك أصبحت ممراً للسلاح الإيراني وعناصر الميليشيات الداعمة لنظام الرئيس بشار الأسد، باعتراف أكثر من مسؤول أميركي مثل جو بايدن و جون كيري.
اتخذ الاقتتال في سورية طابعاً طائفياً أفصح عنه شكل الاصطفافات الأخيرة مع نظام الرئيس بشار الأسد من جهة، أو مع فصائل الثورة السورية من جهة أخرى. فقد ارتفعت بشكل ملحوظ حدّة الخطاب الطائفي في ساحات الاعتصام في الأنبار والمحافظات السنّية الأخرى، وترافق ذلك مع رفع الأعلام والشعارات المؤيّدة للجيش السوري الحر، الأمر الذي أغضب الحكومة العراقية التي حذّر رئيسها، في 27 شباط/فبراير 2013، من أنّ "انتصار المعارضة السورية سيؤدّي إلى اندلاع حرب أهلية في لبنان، وانقسامات في الأردن، فضلاً عن اندلاع حرب طائفية في العراق".
باتت جغرافية انتشار مقاتلي "جبهة النصرة لأهل الشام" و"الدولة الإسلامية في العراق والشام" على جانبَي الحدود، أمراً معلوماً لكلٍّ من حكومتَي بغداد ودمشق. وأصبح انتقال هؤلاء المقاتلين عبر الحدود بين البلدين أمراً خارج سيطرة الحكومتَين، خصوصاً في مناطق الشريط الحدودي جنوب الموصل المعروفة بوعورتها، إلى شمال مدينة القائم الحدودية عند مدخل نهر الفرات، إضافة إلى مناطق الشريط الحدودي بين معبر الوليد، في مدينة الرطبة، على بعد 300 كيلومتر غرب مدينة الرمادي، إلى مناطق مناجم الفوسفات شمالاً، على بعد 140 كيلومتراً شمال الرطبة. ويُذكَر أن الرطبة كانت شهدت في 4 آذار/مارس 2013 كميناً لـ"دولة العراق الإسلامية"، استهدف جنوداً سوريين – سبق أن فرّوا من معبر اليعربية شمال شرق سورية إلى داخل الأراضي العراقية في 2 آذار/مارس 2013 - وهم في طريقهم إلى معبر الوليد الحدودي للعودة إلى الأراضي السورية بحماية جنود عراقيين. وأسفر الكمين عن مقتل أكثر من أربعين جندياً سورياً، وحوالى عشرة من الجنود العراقيين.
وكان الجيش العراقي قد حاول تعزيز موارده القتالية في الأنبار، في بداية تموز/يوليو 2012، لدعم مواقعه على الحدود السورية، وتضييق الخناق على التعاون بين القبائل العراقية و"دولة العراق الإسلامية"، من جهة، وبين المعارضة السورية المسلحة، من جهة أخرى، وكذلك تيسير مرور المعونات إلى نظام الرئيس بشار الأسد. بعدئذ، وفي أوائل آذار/مارس 2013، شُكِّلَت قيادة عمليات جديدة حملت اسم "قيادة عمليات الجزيرة والبادية"، وذلك للغرض نفسه. ولا يزال الجيش العراقي يعمل في الاتجاه نفسه، حيث نشر مؤخراً أربعة أفواج قتالية جديدة يبلغ عديدها حوالى أربعة آلاف جندي، لحراسة الحدود العراقية السورية في محافظتَي نينوى والانبار.
وبغية الحدّ من هجمات "دولة العراق الإسلامية"، نفّذت الحكومة العراقية في 23 و24 مايو/أيار 2013، عملية عسكرية برية وجوية واسعة ضد مواقع التنظيم في المنطقة الصحراوية التي تفصل بين الموصل وقضاء راوة، على بعد 90 كيلومتراً شرق مدينة القائم الحدودية، وكذلك بين مدينتَي الرمادي والرطبة، على بعد 300 كيلومتر غرب الرمادي؛ وقد أعقبت هذه العملية عمليات مماثلة أخرى. وأعلنت الحكومة العراقية عن قتل عدد من عناصر تنظيم "دولة العراق الإسلامية" واعتقال آخرين، والاستيلاء على معسكر للتدريب. أما المواقع الجهادية القريبة من التنظيم، فتشير إلى تكبّد القوات الحكومة خسائر كبيرة، منها إصابة طائرة مروحية وعدد من الآليات المدرّعة، إضافة إلى سقوط عدد من القتلى والجرحى العراقيين الذي وصلوا فعلاً إلى مستشفى الرمادي.
إن العلاقة بين تنظيم "دولة العراق الإسلامية"، الذي ينشط في مناطق غرب وشمال غرب العراق، وبين "جبهة النصرة لأهل الشام"، التي تسيطر على مناطق واسعة من الأراضي السورية، تثير قلق الولايات المتحدة وكلٍّ من العراق ودول الخليج والأردن وغيرها، إزاء تنامي قوة المتطرفين على جانبَي الحدود. فثمة خشية من تشكيل واقع جغرافي متّصل لمناطق نشاط المنظمتين المسلحتين ونفوذهما، يكون متكاملاً وعابراً للحدود، وذلك على الرغم من الخلافات العائمة بينهما في الأسابيع الأخيرة.
تتمتّع جبهة النصرة بتأييد من قبل عدد من الفصائل السورية المسلحة والمجتمع السوري. وقد تمثّل هذا التأييد بالردّ على قرار الولايات المتحدة بإدراج جبهة النصرة على لائحة الإرهاب في 5 كانون الأول/ديسمبر 2012، حيث خرجت تظاهرات في جمعة "لا للتدخّل الأميركي... كلّنا جبهة النصرة"، في 14 كانون الأول/ديسمبر 2012، أعلنت رفضها القرار الأميركي، ورفعت شعارات تشير إلى أن "جبهة النصرة تمثّلنا" و"كلّنا جبهة النصرة".
تضمّ جبهة النصرة التي أُعلِن عنها في 24 كانون الثاني/يناير 2012، مقاتلين غالبيتهم من العراق وتونس وليبيا والسعودية، إضافة إلى عشرات الجنسيات الأخرى العربية والإسلامية والأوروبية، قبل أن يغلب العنصر المحلي على تكوين التنظيم الوافد.
ترى "جبهة النصرة لأهل الشام" أنّ "القتال ضد الحكومة العراقية الشيعية في بغداد هو جهاد وواجب شرعي مقدّس من أجل تحريرها من المجوس"، كما جاء في أحد بياناتها. وكان أبو بكر البغدادي أعلن في رسالة له، في 9 نيسان/أبريل 2013، عن قيام "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، وأن أبو محمد الجولاني، مسؤول "جبهة النصرة لأهل الشام"، ما هو إلاّ "جندي من جنود دولة العراق الإسلامية انتدبناه للعمل في سورية". فأعلنت "جبهة النصرة" بعد يومين فقط رفضاً ضمنياً لهذا الإعلان، تمثّل في إعلان بيعتها لأيمن الظواهري، زعيم "التنظيم العالمي لقاعدة الجهاد"، الذي تدخّل لفكّ الاشتباك بينهما. إلاّ أن أبو بكر البغدادي رفض اقتراح الظواهري بإلغاء التنظيم الوليد، واستمرار "العمل باسم دولة العراق الإسلامية، واعتبار "جبهة النصرة لأهل الشام" فرعاً مستقلاً لجماعة "قاعدة الجهاد"، يتبع القيادة العامة"، وذلك وفقاً لرسالة نشرها موقع "الجزيرة نت"، وقال إنها منسوبة إلى الظواهري. وحثّ هذا الأخير في رسالته هذه على وقف "الجدال في هذا الخلاف"، وهو الخلاف الذي ينذر باقتتال بين بعض أقوى الجماعات المسلحة وأكثرها فعالية في العمل النوعي ضد نظام الرئيس بشار الاسد.
يرى السنّة في العراق أن السلاح الذي غنمه الجيش السوري الحر وباقي الفصائل الأخرى، خصوصاً "جبهة النصرة"، في المناطق الحدودية، هو خزين استراتيجي لهم، وهو في مأمن من استيلاء القوات العراقية عليه في حال جرى نقله إلى الأراضي العراقية في الوقت الحاضر. لكن ما أن يسقط نظام الرئيس بشار الأسد، أو ما أن يتفجّر الوضع في العراق، حتى تشهد الحدود السورية العراقية أكبر عملية تدفّق للأسلحة من سورية إلى العراق. كما ستشهد عودة المقاتلين العراقيين بتجربة جديدة مغايرة لتجربتهم السابقة مع قوات الاحتلال الأميركي في وسائل وأساليب قتال الأنظمة والجيوش المحلية في المدن. فهؤلاء سيخوضون قتالاً مع الحكومة العراقية من منطلق تحجيم النفوذ الإيراني في العراق وعموم المنطقة، وهذه رغبة مشتركة لدى كلٍّ من الولايات المتحدة وتركيا وحلفائهما في دول الخليج العربي. فالولايات المتحدة وإسرائيل تخشيان أن تؤدّي إيران دوراً تخريبياً في سورية ما بعد الأسد من خلال حليفها في العراق، الأمر الذي "قد" يستدعي تشكيل مثل هذا الجيش في العراق مستقبلاً. كما أن العراق سيشهد انتقالاً لمقاتلي الجيش السوري الحر، وتدفّقَ المزيد من المقاتلين السوريين والأجانب إلى العراق، مصحوباً بتدفّق هائل للسلاح، وهو ماصرّحت به مراراً قيادات إسلامية وغير اسلامية في المعارضة السورية.
رائد الحامد باحث عراقي.