على الرغم من إقرار دستور جديد يهدف إلى وضع السلطة التشريعية بعيداً من المخزن، لايزال الجهاز التنفيذي في المغرب يحكم سيطرته على الشؤون التشريعية.
تركّز الاهتمام المحلي والدولي على العاهل المغربي محمد السادس بعد إصداره عفواً ملكياً عن 48 سجيناً إسبانياً بينهم شخص مدان بالتحرّش بالأطفال. في حين أثارت هذه الخطوة غضباً عارماً لدى المغاربة (مما اضطُرّ الملك إلى العودة عن قرار العفو)، تظهر إلى الواجهة مسائل سياسية أكثر جوهرية وارتباطاً بهيكلية توزيع السلطة داخل الدولة. وفي الحقيقة فإن كل هذه المساءل تتمحور حول دور المخزن في السياسة والحكم. فقد بدا في الظاهر أن الإصلاح الدستوري الأخير يمنح مزيداً من الصلاحيات للحكومة ومجلس النواب المنتخَبين، إلا أنه يحتوي أولاً على عدة فصول غامضة ويمكن أن يتم تأويلها بشكل متناقض مع بعضها البعض، وهو ثانياً يحيل في كثير من فصوله على قوانين تنظيمية تحدد الشروط والإجراءات اللازمة لممارسة هذا الحق أو تلك الصلاحية. هذا الغموض وتلك الإحالات يمكن أن تكون في الواقع أمرا مقصودا كي يتمكن المخزن من التحكم في تأويل وتفسير الدستور حسب ما يتيحه ميزان القوى في البلاد.
إن ما وقع مؤخراً يشير إلى أن مثل هذا التحليل قد يكون صائباً: فمجلس النواب كان قد بدأ منذ ستة أشهر في تحضير مقترح قانون تنظيمي يتعلق بهيكلة وطريقة تسيير اللجان البرلمانية لتقصي الحقائق، إلا أن الأمانة العامة للحكومة –وهي لا تتلقى تعليماتها من رئاسة الحكومة بل مما يُسمّى بالجهات العليا (في إشارة إلى المخزن)- فاجأت مجلس النواب وخصوصاً لجنة التشريع فيه بإدراجها في جدول أعمال مجلس الحكومة مشروع قانون صُدِّق عليه في اليوم نفسه ويتعلق بالموضوع عينه. وهي بذلك تضرب عرض الحائط أولاً بكل الجهود التي قامت بها اللجنة النيابية المختصة، وتلحق ثانياً ضرراً اعتبارياً كبيراً بالمؤسسة التشريعية وبالوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان، الحبيب الشوباني، الذي كان يتابع أشغال اللجنة المذكورة ويخبر الحكومة بتقدم عملها.
يمكن أن نتساءل الآن حول الأسباب التي تقف وراء قرار يبدو مستفزاً لا بل أخرق للوهلة الأولى، خصوصاً أن الشوباني كان يؤكد للجنة النيابية المختصة أن الأمانة العامة لا تحضر أي مشروع منافس. لقد أثار هذا الأمر زوبعة حقيقية ليس فقط داخل مجلس النواب وإنما كذلك داخل حزب العدالة والتنمية الذي يقود التحالف الحكومي، حتى أن الشوباني قرّر مقاطعة المجلس الحكومي. وأعلن عبد الله بوانو، رئيس فريق العدالة والتنمية بمجلس النواب، أنه تفاجأ بالمبادرة الحكومية. كما أن البرلماني عبد العزيز أفتاتي، الذي يمثل الجناح المناهض للمخزن داخل الفريق الإسلامي بمجلس النواب، طالب الأمانة العامة للحكومة بسحب مشروعها الذي اعتبره استخفافاً بالمؤسسة التشريعية. وقد كُشِف لاحقاً أن رئيس مجلس النواب الذي ينتمي إلى حزب الاستقلال، طلب من لجنة التشريع وقف عملها على الاقتراح قبل بضعة أيام فقط من موافقة الحكومة على مشروع القانون الذي تقدّمت به الأمانة العامة، مما بدد أي أوهام حول الفصل بين السلطات.
وما يزيد الأمر غرابة أن لجان التقصي البرلمانية - التي تشكّل هيكليتها موضوع التشريعات المتناقضة -هي من صميم تخصص مؤسسة البرلمان كما يدل على ذلك اسمها. فكيف تشرّع إذن الحكومة، من خلال أمانتها العامة، مكان البرلمان؟ فلجان التقصي هذه، والتي تنص عليها المادة السابعة والستون من الدستور الجديد، تُعتبَرإحدى الآليات الأساسية التي تساهم في إعطاء البرلمان بعض مظاهر القوة في مواجهة الجهاز التنفيذي متيحةً له إمكانية مراقبة تدبير الشأن العام من قبل المؤسسات العمومية ومرافق الدولة، والمساهمة في محاربة الفساد المستشري داخل المقاولات العمومية.
وإذا علمنا أن الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان وحزب العدالة والتنمية يعارضان تحكم القصر في المسار التشريعي، وأنهما حاولا بسياستهما ومبادراتهما أن يحميا الصلاحيات التشريعية لمجلس النواب -فأغلبية أعضائه النسبية تنتمي للحزب نفسه- فهمنا أن أحد دوافع الأمانة العامة للحكومة ومن ورائها الجهاز المخزني ذو القوة النافذة هو تهميش البرلمان أكثر مما هو مهمّش. فمن بين عشرين قانوناً تنظيمياً ينص الدستورالجديدعلى ضرورة إصدارها، لم يصدرمنها حتى بداية شهر تموز/يوليو الماضي سوى قانونين اثنين على عهد حكومة بنكيران والتي تجاوز عمرها السنة والنصف. وكما أكد أحمد الزايدي، رئيس الفريق الاشتراكي بمجلس النواب، فإن هذه ليست هي المرة الوحيدة التي يُعرقَل فيها العمل التشريعي للبرلمان، وأعطى مثلاً بتدخل الجهاز التنفيذي منذ بعض الوقت لوقف مناقشة وتحضير مقترح قانون بمجلس النواب تقدم به الفريق الاشتراكي بدعوى أن الحكومة –أي أمانتها العامة- تُعد لمشروع في الموضوع نفسه.
كل ما سبق قد يعني من بين ما يعنيه أن الولاية التشريعية الحالية -والتي يلعب فيها بعض الإسلاميين والاشتراكيين دوراً محورياً فيما يخص الدفع نحو تأويل ديمقراطي للدستور- ستنتهي دون أن يصدر عن البرلمان الجزء الأكبر من القوانين التنظيمية،أي إن الجهاز المخزني إما سيفرض تفسيراته الخاصة للدستور عبر الأمانة العامة للحكومة بتحضيره لأغلبية القوانين التنظيمية وتمريرها عبر مجلس الحكومة وإما أن هذه القوانين لن يخرج بعضها إلى الوجود في عهد حكومة بنكيران، وكلا الأمرين في صالح الجهاز المعني. والنتيجة النهائية لكل هذا هي أن صورة ومصداقية المؤسسة التشريعية –على مستوى المخيال الجمعي- ستبقى ضعيفة في مواجهة الجهاز التنفيذي ذي القوة الضاربة والذي تسيطر عليه إلى حد كبير المنظومة المخزنية المحافظة.
المعطي منجب محلل سياسي ومؤرّخ مغربي. محرّر "مواجهات بين الإسلاميين والعلمانيين بالمغرب" (2009)، ويساهم بانتظام في نشرة صدى.