أدّت حكومة الوفاق الوطني الفلسطينية اليمين القانونية في الثاني من حزيران/يونيو الماضي، في خطوة تعِد بوضع حد لسبع سنوات من الخلاف العنيف بين حركتَي فتح وحماس، وبين الضفة الغربية وقطاع غزة. بيد أن التفاؤل الذي أثاره الاتفاق حول حكومة وفاق وطني لم يعمّر طويلاً. فالتحديات المطروحة على الاندماج الأمني والمؤسسي والاقتصادي لاتزال موضع خلاف شديد كما كان الحال في محاولات المصالحة السابقة. وقد زادت الخلافات حول التنسيق الأمني مع إسرائيل في شكل خاص، من حدّة التشنّجات بين حماس وفتح.
لاتختلف تركيبة الحكومة "التكنوقراطية" الجديدة كثيراً عن الحكومة التي سبقتها بقيادة فتح. وقد فضّلت حماس البقاء في الخلفية بدلاً من تعيين ممثّليها في الحكومة، وذلك بسبب المخاوف من أن يتوقّف المانحون الدوليون، لاسيما الولايات المتحدة، عن إرسال المساعدات إلى السلطة الفلسطينية في حال تسلّمت حماس زمام الأمور. علاوةً على ذلك، أدركت حماس، خلال فترة تسلّمها مقاليد الحكومة في غزة طيلة سبعة أعوام، أعباء الحكم الباهظة، لاسيما على ضوء الحصار الإسرائيلي لغزة والتغييرات الأخيرة في التحالفات الإقليمية وميزان القوة. فالحركة تتعرّض لضغوط مالية وسياسية خانقة اشتدّت وتيرها بعد سقوط حظوتها لدى النظامَين السوري والإيراني، وقيام الحكم العسكري الجديد في مصر بفرض مزيد من العزلة على قطاع غزة. لهذه الأسباب، وجدت الحركة نفسها عاجزة عن تسديد رواتب موظّفي القطاع العام أو تأمين الخدمات الأساسية لسكان غزة. لذلك يمكن القول بأن نقل مسؤوليات الحكم إلى السلطة الفلسطينية من خلال حكومة الوفاق هو بمثابة حبل النجاة الذي كانت حماس بأمس الحاجة إليه. أما محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، فقد سعى من جهته إلى استغلال فشل المفاوضات الأخيرة بين حماس وإسرائيل، وكبح النفوذ المتزايد الذي يكتسبه محمد دحلان، عدوّه اللدود في حركة فتح، داخل قطاع غزة. وقد سارعت إسرائيل إلى إدانة اتفاق الوحدة، مشيرةً إلى أن حماس تبقى تنظيماً إرهابياً ملتزماً بتدمير إسرائيل، ووعدت باستخدام الوسائل الدبلوماسية والمالية للضغط على منظمة التحرير الفلسطينية من أجل وقف تعاونها مع حماس.
لكن حتى قبل أن تتمكّن إسرائيل من الرد فعلياً على الأرض، سرعان ماتسبّبت التطورات الميدانية بتقويض أي مظاهر اتفاق بين فتح وحماس. فبعد أسبوعَين فقط على إعلان حكومة الوفاق الوطني، خُطِف ثلاثة مستوطنين يهود شباب قرب مدينة الخليل في الضفة الغربية. وعثرت القوات الإسرائيلية على جثثهم في 30 حزيران/يونيو الماضي قرب بلدة حلحول شمال الخليل. وقد سلّطت عملية الخطف وماتلاها من أحداث الضوء على الاختلافات الأساسية بين حركتَي فتح وحماس في مقاربة العلاقات مع إسرائيل. وهو واحد من أكبر العوائق التي تعترض عملية المصالحة. لقد أدان عباس علناً عملية الخطف في اجتماع وزراء الخارجية في منظمة التعاون الإسلامي في 18 حزيران/يونيو الماضي، وجدّد تأكيد التزامه بالتنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. ولمّح عباس وآخرون في حركة فتح، إلى أنه في حال تبيّن أن حماس تقف خلف العملية، فقد يؤدّي ذلك إلى إلغاء اتفاق الوحدة. وقد سارعت إسرائيل إلى تحميل حماس المسؤولية، ووجّهت أصابع الاتهام تحديداً إلى عضوَين في الحركة اختفيا من منزلَيهما ليلة اختطاف المستوطنين الثلاثة. لم تعلن حماس مسؤوليتها عن العملية - مايعني ربما أن الرجلَين تصرّفا من تلقاء نفسيهما، من دون تلقّي أوامر من قيادة حماس - إلا أنها أشادت بها. وقد شنّت إسرائيل عملية عسكرية واسعة النطاق في الضفة الغربية كان هدفها المعلَن العثور على الرهائن، لكنها استهدفت عملياً عناصر حماس وبناها التحتية. ونفّذت القوات الإسرائيلية مداهمات في المنازل والمكاتب والمؤسسات التي يُعتقَد أنها على ارتباط بالحركة، واعتقلت نحو 600 فلسطيني معظمهم ينتمون إلى حركة حماس.
وقد أثارت إدانة عباس الواضحة لعملية الخطف ودعمه للتنسيق الأمني المستمر مع إسرائيل، انتقادات حادة في صفوف حماس كما في أوساط الرأي العام الفلسطيني. فبعدما أنهت القوات الإسرائيلية هجومها في رام الله في 22 حزيران/يونيو الماضي، صبّ فلسطينيون مستاؤون جام غضبهم على مقر الشرطة التابعة للسلطة الفلسطينية في المدينة، فرشقوا المبنى بالحجارة وتصادموا مع عناصر الشرطة. حتى داخل فتح، انتقد البعض، مثل جبريل الرجوب الطريقة التي تعامل بها عباس مع القضية. وكانت حماس الأكثر حدّة في إدانتها لموقف عباس. فقد اعتبر البعض في الحركة أن اتفاق المصالحة ينص على وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، وأن سلوك عباس يسرّع في انهيار الاتفاق. في هذا السياق، صرّح محمد نزال، القيادي البارز في حماس: "إذا لم يُعد عباس النظر في مواقفه، فسوف يقوم بوأد المصالحة قبل وقت طويل مما توقّعه أيٌّ من الفريقَين". وقد سارع أنصار عباس في فتح إلى الرد متّهمين حماس بمحاولة إضعاف السلطة الفلسطينية وحتى التسبّب بانهيارها. حتى إن أحمد عساف، المتحدث باسم فتح في الضفة الغربية، ذهب إلى حد اتهام حماس بالتخطيط لانقلاب في الضفة الغربية.
يصبّ هذا الخطاب الحاد النبرة في مصلحة الحكومة الإسرائيلية التي أعلنت رفضها للمصالحة بين فتح وحماس وعلّقت المباحثات مع السلطة الفلسطينية رداً على إنشاء حكومة الوفاق الوطني. وقد أدّت العملية العسكرية التي شنّتها القوات الإسرائيلية مؤخراً ضد عناصر حماس وبناها التحتية في الضفة الغربية، إلى تقليص إمكانات الحركة هناك، لكنها ساهمت في المقابل بتعزيز شعبية حماس في الشارع الفلسطيني. لقد أظهرت الجولات السابقة التي خاضتها إسرائيل ضد الحركة أن الغارات العسكرية ليست فعّالة في القضاء على وجود حماس في الضفة الغربية. فعلى سبيل المثال، في انتخابات مجالس الطلبة التي أجريت مؤخراً في جامعات الضفة الغربية، كان واضحاً أن حماس تحافظ على درجة كبيرة من الشعبية في أوساط الفلسطينيين على الرغم من الجهود التي تبذلها السلطة الفلسطينية وإسرائيل لكبح نفوذ الحركة. كما أنه من شأن تفكيك القدرات التنظيمية لحركة حماس في الضفة الغربية أن يدفع بعملائها إلى العمل بطريقة مستقلّة - من دون تلقّي التوجيهات من القيادة والخضوع لتأثيرها المهدّئ - أو إلى الانضمام إلى المبادرات الجهادية التي بدأت تنتشر في الضفة الغربية.
إذا تبيّن أن قيادة حماس تقف خلف خطف المستوطنين الثلاثة ومقتلهم، غالب الظن أن حكومة الوفاق الوطني ستنهار. لكن حتى لو ثبت أن العملية من تدبير أعضاء محليين في حماس تصرّفوا من دون تلقّي أوامر من القيادة المركزية، تبقى هناك تحدّيات كثيرة تهدّد بإسقاط الوفاق الهش. فحضور الحكومة في قطاع غزة لايزال محدوداً جداً، كما أنها لم تبادر إلى دمج الموظفين الحكوميين التابعين لحماس في غزة، في مؤسسات السلطة الفلسطينية. وفشلت في وضع خطة استراتيجية من أجل إعادة التأهيل والإعمار في قطاع غزة، أو إعادة فتح المعابر الحدودية، أو إنهاء الحصار. ناهيك عن أنها لم تتّخذ أية خطوات للتحضير لانتخابات تشريعية ورئاسية أو لدمج المؤسسات الحاكمة التابعة لفتح وحماس.
بعد السيطرة على الحكم في غزة عام 2007، وظفت حماس خمسين ألف موظف جديد في القطاع العام (أربعين ألف موظف حكومي وعنصر أمني، وعشرة آلاف موظف مؤقت) بهدف استبدال الأشخاص المحسوبين على حركة فتح. وقد أظهرت حكومة الوفاق تردّداً حتى الآن في تسديد رواتب الموظّفين الذين كانوا يعملون مع حكومة حماس في غزة، بحجّة أنها لاتملك الأموال الكافية لتغطية تلك الرواتب. ولذلك أعلن الموظفون الحكوميون في غزة الإضراب احتجاجاً، ماأدّى إلى تعطيل معظم الخدمات العامة في القطاع. لدى حكومة السلطة الفلسطينية مخاوف مشروعة من أن يمارس دمج موظّفي حماس في المؤسسات الرسمية تأثيراً سلبياً على تدفّق المساعدات من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وفي أعقاب عملية خطف المستوطنين الثلاثة وقتلهم، والتي حُمِّلت حماس مسؤوليتها على الرغم من أن قيادتها لم تؤكّد أو تنفِ ضلوع الحركة في العملية، قد يجد عباس صعوبة أكبر في تقديم حجج مقنعة للمانحين الأجانب لتبرير ضم موظفي حماس إلى قائمة الموظفين التابعين للسلطة الفلسطينية.
غالب الظن أن الأزمة المتعاظمة في غزة، على ضوء الإضراب الذي ينفّذه موظفو القطاع العام وتعطُّل الخدمات، لن تلقى لها حلاً في القريب العاجل، على الرغم من أن قطر عرضت إرسال أموال لتسديد مستحقّات ثلاثة أشهر من الرواتب غير المدفوعة. يشير هذا الوضع إلى أن التحديات نفسها التي كانت قائمة قبل عملية الخطف، لاتزال عالقة ولم تتم معالجتها كما يجب. صرّح موسى أبو مرزوق، القيادي البارز في حركة حماس، في 29 حزيران/يونيو الماضي أنه يبدو أن عباس لايكترث لقطاع غزة ولايترك أمام حماس من خيار سوى إعادة فرض سيطرتها الحصرية على القطاع. تسير كل الرهانات بما لاتشتهيه حكومة الوفاق الوطني، لكن هذه الأخيرة تبقى الخيار الأفضل لحركتَي فتح وحماس من أجل المضي قدماً. فنظراً إلى فشل المفاوضات مع إسرائيل والوضع المزري في غزة، تواجه كل من الحركتَين أزمةَ شرعيةٍ في الأراضي التي تسيطر عليها، ويجدر بها التعامل مع الاستياء المتعاظم في الشارع الفلسطيني. من شأن حكومة وفاق وطني تُحضّر لانتخابات فلسطينية لم تحصل منذ العام 2006، أن تشكّل السبيل الوحيد لجعل الرأي العام الفلسطيني يستعيد ثقته بقيادته. فإذا أرادت فتح وحماس أن تتكلّل تجربتهما الأخيرة من أجل الوفاق والوحدة بالنجاح، عليهما أن تتحلّيا بقدر أكبر بكثير من الاعتدال في التعاطي العلني في ما بينهما.
محمود جرابعة باحث في مركز إيرلانغن للإسلام والقانون في أوروبا، ومقره ألمانيا. مؤلف "حماس: مسيرة متردّدة نحو السلام" (رام الله: المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، 2010). ليهي بن شطريت أستاذة مساعدة في كلية الشؤون العامة والدولية في جامعة جورجيا في أثينا. كلاهما يساهمان بانتظام في نشرة صدى.
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.