الاتفاق الذي أبرمته مصر مع صندوق النقد الدولي في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2016 للحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار أميركي مقابل سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية، أحدث تحولاً جوهرياً في الاقتصاد المصري، ومن أبرز التجليات الواضحة لهذا التحول تراجع قيمة الجنيه المصري في مقابل الدولار الأميركي. في حين لقيت رزمة الإصلاحات استحساناً في الداخل والخارج، أدّى تحرير سوق صرف العملات الأجنبية، الذي أُنجِز في إطار الإصلاحات والذي يتيح تحديد سعر الجنيه من قِبَل قوى السوق بدلاً من البنك المركزي المصري، إلى تراجع سعر صرف الجنيه في مقابل الدولار من 8.88 جنيهات في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر إلى أكثر من 19.50 جنيهاً في أواخر كانون الأول/ديسمبر.
في حين شهدت قيمة الجنيه تحسناً طفيفاً، مع بلوغ سعر الصرف 18.45 جنيهاً مقابل الدولار، خسر المصريون العاديون أكثر من نصف مدّخراتهم وتراجعَ مدخولهم الشهري إلى حد كبير. ونظراً إلى اعتماد مصر على الواردات، تسبّب تراجع سعر صرف الجنيه في مقابل الدولار أيضاً بارتفاع في معدل التضخم الذي يسجّل أصلاً مستويات مقلقة، مع بلوغ التضخم في مؤشر أسعار المستهلك على أساس سنوي 20.73 في المئة في تشرين الثاني/نوفمبر 2016، و25.86 في المئة في كانون الأول/ديسمبر.
على الأرجح أن مستويات التضخم سوف تتراجع عندما تحظى مفاعيل تعويم العملة والتراجع في قيمتها، بالوقت الكافي كي تتمدّد عبر الاقتصاد. أما في الوقت الراهن فالمسألة الأكثر إلحاحاً تتمثل في السؤال إذا كان سعر صرف الجنيه سيرتفع من جديد.
قبل توقيع اتفاق القرض مع صندوق النقد الدولي وما رافقه من جهود لتحرير سوق صرف العملات، كان المصرف المركزي يبيع 120 مليون دولار بالمزاد العلني أسبوعياً للمصارف المحلية المختلفة في مصر بسعر صرف محدّد. ثم تبيع المصارف من جديد الدولارات إلى عملائها من الشركات بهدف استيراد السلع والخدمات من الخارج، وفي حالة الشركات المتعددة الجنسيات التي تقع مقارها الرئيسة في الخارج، الهدف من شراء الدولارات هو نقل الأرباح إلى خارج البلاد. بعد إنفاق ما توافر من الدولارات الأميركية، كانت الخيارات الوحيدة المتاحة أمام تلك الشركات اللجوء إلى تجّار العملات أو إلى مكاتب صرف العملات في السوق السوداء. لكن بالنسبة إلى الشركات الراغبة في إنجاز عمليات واسعة النطاق، لم يكن شراء الدولارات في الشارع إجراء مناسباً.
منذ الإصلاحات، يعوّل البنك المركزي المصري على تدفقات العملات الأجنبية لتزويد سوق ما بين المصارف بالعملات. فباستثناء المزاد العلني الذي أقيم في الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، عندما حصل التحرير الصادِم، لم يتمكّن الأفراد والمصارف المتخصصة بالخدمات للشركات من الحصول على العملات الأجنبية سوى عن طريق سوق صرف العملات ما بين المصارف. وفي حين سرت شائعات بأن المصرف المركزي قد يضع بعض احتياطي العملات الأجنبية في تصرف سوق ما بين المصارف، لم يتحقق ذلك بعد.
كانت الفكرة وراء هذه الخطوة الابتعاد فجأةً عن سوق صرف العملات الأجنبية وترك قيمة الجنيه تتراجع بصورة طبيعية إلى أن يتحقق التوازن بين العرض والطلب. مع تراجع قيمة الجنيه إلى مستوى أكثر طبيعية، تصبح الأصول المحلية أكثر جاذبية للمستثمرين الأجانب الذين يمكنهم الآن شراء المزيد بواسطة دولاراتهم. في حين أنه لا البنك المركزي المصري ولا صندوق النقد الدولي توقّعا أن تتراجع قيمة الجنيه بالقدر الذي تراجعت به، كان الإجماع بأن قيمة الجنيه سترتفع من جديد خلال العام المقبل، لجملةٍ من الأسباب.
غالباً ما يُستتبَع التراجع المفاجئ في قيمة العملة بارتفاع تدريجي في إطار ما يُعرَف بـ"التقلب الشديد في سعر الصرف". عندما تتراجع قيمة العملة بصورة سريعة، غالباً ما تكون الأسعار المحلية بطيئة في التكيف مع القيمة الجديدة للعملة على الرغم من التعديلات السريعة في الأسواق المالية. كما أن الاحتياجات من الواردات تُحدَّد في معظم الأحيان في المدى القصير بسبب الموجبات التعاقدية وغياب البدائل الداخلية. يتراجع الطلب على العملات الأجنبية في المدى الطويل مع تمكُّن الشركات والأعمال المحلية من زيادة إنتاج السلع البديلة عن الواردات، وتزداد الاستثمارات الخارجية بفعل تراجع تكاليف المدخلات الضرورية لإنتاج سلع للتصدير.
علاوةً على ذلك، وفي حين خرج البنك المركزي المصري رسمياً من سوق صرف العملات الأجنبية، تساهم كمية الاحتياطيات التي يملكها في تعزيز مصداقية الحكومة المصرية. مع تطبيق الإصلاحات الماكرو اقتصادية المعلَن عنها واستلام القرض من صندوق النقد الدولي على دفعات، سوف ترتفع مستويات الاحتياطي، هذا مع العلم بأنها وصلت إلى 26.36 مليار دولار – وهو المستوى الأعلى منذ العام 2011 – ويتوقّع صندوق النقد الدولي أن تبلغ من جديد 33 مليار دولار، أي المستوى الذي كانت عليه في عهد مبارك، بحلول السنة المالية 2018-2019. عبر تعزيز الاحتياطيات لتبلغ أرقاماً أعلى من المتوقّع، سوف يُنظَر إلى الاقتصاد المصري بأنه يقدّم بيئة أفضل للمستثمرين الأجانب، ما سيفضي إلى زيادة الطلب على الجنيه المصري وبالتالي ارتفاع قيمته.
هذا وقد أتاح الارتفاع في مستوى الاحتياطيات لمصر الشروع في تسديد المبالغ المستحقّة للدول الدائنة الأجنبية والشركات الدولية – في مؤشر قوي عن الاستقرار المالي. عندما عرضت الحكومة المصرية سندات مقوّمة بالدولار للبيع في 29 كانون الثاني/يناير الماضي، وكان الهدف الأولي بيع 2.5 مليارَي دولار، سُجِّل إقبال شديد للمستثمرين ووصلت قيمة السندات المباعة إلى أربعة مليارات دولار. فيما تعمل مصر على تطوير بيئة استثمارية أكثر مرونة وجاذبية بموجب البرنامج الإصلاحي، قد تبدأ أيضاً بتصدير الغاز الطبيعي نحو أواخر العقد الراهن. في هذا الإطار، يُتوقَّع أن يرتفع إنتاج الغاز الطبيعي المصري من 3.8 مليارات قدم مكعب في اليوم في صيف 2016 إلى 7.7 مليارات قدم مكعب في غضون ثلاث سنوات. فيما لا تزال مصر تستهلك 5.2 مليارات قدم مكعب في اليوم، يمكن تصدير الفائض المتوقع في إنتاج الغاز إلى الأسواق الدولية، الأمر الذي سيساهم في زيادة الإمكانات التصديرية في قطاعَي الصناعات الثقيلة والتصنيع بعد تسوية مسألة النقص في الغاز الطبيعي، وفي الحد من الطلب المصري على واردات الغاز الطبيعي من الخارج، ما يؤدّي إلى تسجيل مزيد من الارتفاع في الطلب على الجنيه.
آفاق النمو الاقتصادي في المدى الطويل واعدة، وقد بدأت الإصلاحات باستقطاب قدر كبير من الاستثمارات الخارجية. لكن على الرغم من هذه المعطيات التي تدعو إلى التفاؤل، ثمة عوامل أخرى يجب أن يتوقف عندها المستثمرون الذين يعتقدون أن العملة هي أصول منخفضة المخاطر، أو أيضاً المستهلكون الذين يتوقعون حدوث ارتفاع في قيمة الجنيه في وقت قريب.
أحد هذه العوامل هو استمرار الولايات المتحدة في التشدد في سياستها النقدية. لقد رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفوائد الأساسية في أواخر العام 2015 لأول مرة منذ تسع سنوات، ثم أعقبها بزيادة جديدة في أواخر العام 2016. في حين أن الزيادة الأخيرة في أسعار الفوائد لم تشمل الجزء الأكبر من الأسواق الناشئة، بما في ذلك مصر، فإن الزيادة في كانون الأول/ديسمبر 2015 جعلت تلك الأسواق أقل جاذبية للمستثمرين، ما أدّى إلى تراجع قيمة أسهمها بنسبة 20 في المئة بين تشرين الثاني/نوفمبر 2015 وكانون الثاني/يناير 2016.
فضلاً عن ذلك، هناك العديد من المؤشرات بأن ارتفاع الطلب على الدولار في مصر لا يعكس احتياجات السوق المحتملة الأوسع نطاقاً. ففي حين أن الهدف الذي يسعى إليه البنك المركزي المصري وصندوق النقد الدولي هو أن تكون للبلاد سوقٌ لصرف العملات الأجنبية تعمل كما يجب مع تدفقات حرة نسبياً للرساميل من البلاد وإليها، كانت المصارف المصرية، حتى الآن، شحيحة إلى حد ما في توزيع العملات الصعبة، ما تسبّب بتراكم كمّ كبير من الطلبات للحصول على العملات الأجنبية بدافع الاستيراد. لقد أوردت وسائل الإعلام المحلية في منتصف كانون الثاني/يناير أن المصارف المصرية تستغرق 70 يوماً لتلبية طلبات الحصول على عملات أجنبية من أجل تمويل مدخلات الإنتاج التصنيعي، وأن الشركات المصرية لا تزال تلجأ إلى السوق السوداء للحصول على نسبة تتراوح من 15 إلى مئة في المئة من احتياجاتها من العملات الأجنبية. فضلاً عن ذلك، في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر، لمّحت الحكومة المصرية إلى أنها سوف تسمح للمصارف بالإفراج عن الدولارات بهدف استرجاع الأرباح، لكن ليست هناك أدلة كافية تثبت هذا الأمر. بدلاً من ذلك، لا تزال الأولوية تُعطى لمستوردي السلع الأساسية، مثل المواد الغذائية والأدوية، لناحية حصولهم على العملات الأجنبية – ويبدو أنه حتى كبار المستثمرين غير واثقين من القواعد التي يتبعها البنك المركزي المصري حالياً من أجل استرجاع الأرباح.
يعني ذلك أن الطلب على الدولار الأميركي قد يكون أكبر بكثير من المبالغ التي طلبتها الشركات المصرية حتى تاريخه، ومن شبه المؤكد أن أي ضغوط لزيادة قيمة الجنيه سوف تصطدم بهذا الطلب على الدولار. الطلب المدرَك الحالي مصدره الأساسي هو الشركات التي تحتاج إلى الدولارات لشراء السلع الأساسية، ولا يعكس الحجم الكامل لحاجة السوق المصرية للعملات الصعبة عند احتساب مستوردي السلع غير الأساسية والشركات المتعددة الجنسيات التي تسعى إلى نقل أرباحها إلى خارج البلاد. بعبارة أخرى، غالب الظن أن القيود المفروضة على استعمالات الدولار أدّت إلى كبح الطلب لأن الشركات المحظورة فعلياً من استخدام الدولار لا حضور لها حالياً في سوق الدولار.
بحسب تقرير "تسهيل الصندوق الممدَّد" الصادر عن صندوق النقد الدولي، تسعى مصر إلى أن تكون لديها سوق صرف تعمل على أكمل وجه بحلول 30 حزيران/يونيو، ما يقتضي إلغاء سقف المئة ألف دولار المفروض على تحويلات الأفراد بالدولار إلى الخارج، وسقف الـ50 ألف دولار المفروض على الودائع النقدية لاستيراد السلع غير الأساسية. مع رفع مزيد من القيود المفروضة على استخدام العملات الأجنبية في مصر، قد تزيد الضغوط التي تتسبّب بانخفاض قيمة الجنيه، ما يؤدّي إلى تراجع إضافي في مدّخرات معظم المصريين ورواتبهم.
مما لا شك فيه أنه من شأن ارتفاع قيمة الجنيه المصري أن يمنح اندفاعة كبيرة للاقتصاد والمستهلكين المصريين، لكن لا يبدو أن ذلك سيحدث في القريب العاجل. بيد أن تحمّل المسؤولية المالية في المستقبل ومواصلة رزمة الإصلاحات التي جرى الاتفاق عليها مع صندوق النقد الدولي سيجعلان الاقتصاد المصري أكثر قوة في المدى الطويل، ما يؤدّي بالتالي إلى تعزيز قيمة الجنيه المصري. تتمتع مصر، التي تملك العدد الأكبر من السكان بين البلدان العربية، بالطاقات الاقتصادية الأكبر في الشرق الأوسط، ويُشكّل الاقتصاد السليم والمتنوّع والشامل مفتاحاً أساسياً لاستثمار تلك الطاقات.
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.
برندان ميغان محلل متخصص في الشؤون الماكرو اقتصادية يركّز على منطقة الشرق الأوسط.