في يوم الأسير الفلسطيني، الذي يحييه الفلسطينيون سنوياً في 17 نيسان/أبريل، أعلن نحو ألف فلسطيني معتقلين في السجون الإسرائيلية عن الإضراب عن الطعام للمطالبة بتحسين ظروف السجن والمعاملة من قبل السلطات في السجون. للإضراب الذي يقوده القيادي الفتحاوي المسجون، مروان البرغوثي، هدف عملي ملموس يتمثّل في تحسين أوضاع السجون، بما في ذلك عبر تركيب هواتف عامة، وزيادة الزيارات العائلية، وتحسين الرعاية الطبية، وإلغاء الحبس الانفرادي، والسماح من جديد للسجناء بالوصول إلى برامج التعليم الثانوي والجامعي. لكن بعيداً من المواجهة مع السلطات في السجون الإسرائيلية، يعكس الإضراب التصدّعات السياسية الفلسطينية – ليس فقط التنافس الواسع والشديد بين حركتَي فتح وحماس على الهيمنة، إنما أيضاً الصراع داخل فتح بين أنصار مروان البرغوثي وخصومه - ويساهم في استفحالها. كان لدى المراقبين المتفائلين أملٌ في البداية بأن يساهم الإضراب في إطلاق نداء جامع لتوحيد المشهد السياسي الفلسطيني المفكّك. لكن مع دخول الإضراب شهره الثاني، يصبح إلى حد كبير جزءاً من الانقسامات الفلسطينية ويتسبّب بتأجيجها.
تحتجز مصلحة السجون الإسرائيلية حالياً آلاف "السجناء الأمنيين" الفلسطينيين. التعريف الرسمي للمصطلح هو "سجين صدرت إدانة بحقه ويمضي عقوبة بالسجن لارتكابه جريمة، أو محتجَز للاشتباه في ارتكابه جريمة، وتعريفها بحكم طبيعتها أو ظروفها بأنها جريمة أمنية الطابع بوضوح، أو أن الدافع لارتكابها ينبثق من أسباب قومية". أما متى يُعتمَد هذا التصنيف وآلية تطبيقه فلا يستندان إلى تشريعات، بل إن القرار يعود إلى مصلحة السجون الإسرائيلية، وتسود الضبابية حول الممارسات التي تُصنَّف تحديداً في خانة الجرائم الأمنية. تُعدّد المنشورات الرسمية الصادرة عن مصلحة السجون الإسرائيلية، مجموعة كاملة من الجرائم الأمنية، مشيرةً إلى أن السجناء الأمنيين "يشملون الرجال والنساء والشباب الذين قبضت عليهم الأجهزة الأمنية وهم في طريقهم إلى تنفيذ هجمات انتحارية، والإرهابيين الذين كانوا يخططون لشن هجمات واسعة النطاق لكنهم غيّروا رأيهم قبل دقائق قليلة، … والأشخاص الذين أرسلوا مهاجِمين، وخطّطوا لشنّ هجمات، وحضّروا متفجّرات وأجهزة، ومسؤولين كباراً في التنظيمات الإرهابية الفلسطينية، وسواهم". تتضمن فئة "سواهم" معتقلين ألقوا بحجارة، وشاركوا في تظاهرات خارجة عن السيطرة، ونشروا قصائد مؤجِّجة للمشاعر أو "ستاتوس" تحريضياً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأعضاء في تنظيمات سياسية تصنّفها إسرائيل في خانة "الإرهابية" أو "غير القانونية"، وحتى في بعض الأحيان أفراداً من عائلات الأشخاص الذين ينتمون إلى هذه التنظيمات.
سجّل عدد السجناء ارتفاعاً كبيراً خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى في 1987-1993، ليبلغ في المعدّل أربعة آلاف سجين. إبان توقيع اتفاقات السلام في أوسلو في العام 1993، تم الإفراج عن عدد كبير من السجناء، وبحلول العام 2000، تراجعت أعدادهم إلى نحو ثمانمئة. ومع اندلاع الانتفاضة الثانية في العام 2000، ازدادت الاعتقالات من جديد، لتصل إلى الذروة مع نحو عشرة آلاف سجين أمني في العام 2007. يبلغ عدد السجناء الأمنيين، في أيار/مايو 2017، 6189 سجيناً، وتبلغ نسبتهم نحو ثلاثين في المئة من مجموع عدد السجناء في إسرائيل. نظراً إلى تصنيف هؤلاء السجناء بأنهم يشكّلون تهديداً أمنياً، يوضَعون في زنزانات منفصلة عن السجناء العاديين – تقع بمعظمها داخل الأراضي الإسرائيلية، ما يشكّل انتهاكاً لاتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر نقل المعتقلين إلى خارج الأرض المحتلة – وظروف سجنهم والحقوق والامتيازات الممنوحة لهم مختلفة عن تلك التي يتمتع بها السجناء بشكل عام.
عند توقيف السجناء الأمنيين الفلسطينيين، يُرسَلون إلى عنابر مختلفة باختلاف التنظيم الذي ينتمون إليه، ومن هذه التنظيمات فتح وحماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. يُجري هؤلاء السجناء انتخابات كل سنتَين لاختيار متحدث عن كل تنظيم للتعاطي مع إدارة السجن، وبالتالي إخضاع إسرائيل للمساءلة بموجب المادّتَين 70 و102 من اتفاقية جنيف الثالثة التي تمنح سجناء الحرب الحق في اختيار ممثّليهم. يتمتع قادة كل فصيل، عموماً، بدرجة من الاستقلالية الذاتية في إدارة الحياة اليومية لأعضاء الفصيل داخل السجن. وأتاحت لهم هيكليتهم أيضاً تنسيق تحركات جماعية، مثل تنفيذ إضرابات أو إضرابات عن الطعام لانتزاع تنازلات من سلطات السجون في ما يختص بظروف المعيشة والمعاملة والامتيازات – بما في ذلك التحويلات المالية المباشرة التي تستخدمها الفصائل لشراء المنتجات في السجن.
تطوُّر هذه المنظومة، منظومة الانتماء إلى التنظيمات وتمثيلها، نابعٌ أولاً من تعريف السجناء لأنفسهم بأنهم أسرى سياسيون وليسوا سجناء أمنيين، كما تصنّفهم مصلحة السجون الإسرائيلية. وتترسّخ هذه المنظومة بفعل الإقرار الإسرائيلي الضمني بهذه المعطيات، وبفعاليتها في الحفاظ على النظام والانضباط داخل السجون. فضلاً عن ذلك، يساعد الفصل بين التنظيمات على تأجيج الانقسامات الداخلية الفلسطينية، لا سيما بين فتح وحماس. في حين أن السجون ساهمت سابقاً، وبصورة فعّالة، في تحقيق انفراجات في العلاقات بين الفصائل الفلسطينية، يُظهر الإضراب الراهن عن الطعام كيف أن الانقسامات الفلسطينية تنتقل إلى منظومة السجون، وكيف تساهم هذه المنظومة في تأجيجها.
على سبيل المثال، تعكس سياسة الإضراب عن الطعام الانقسام بين حركتَي فتح وحماس، وتساهم في صب الزيت على النار. لا تشارك حماس رسمياً في الإضراب، لكنها قررت بدلاً من ذلك السماح لسجنائها باتخاذ القرار على مستوى فردي بالمشاركة أو عدمها. والسبب هو أن مروان البرغوثي وقادة الإضراب لم يتشاوروا مع الفصائل الفلسطينية الأخرى، أو ينسّقوا معها، أو يتوصّلوا إلى إجماع معها، قبل استعجال الإعلان عن الإضراب الذي يتألف المشاركون فيه بأغلبيتهم الساحقة من فتحاويين. بناءً عليه، يخشى قادة حماس أن تستغل فتح الإضراب لتعزيز هيمنتها على الشارع الفلسطيني، حيث تجد حماس في الأصل صعوبة في تجنيد الداعمين أو تعبئتهم بسبب الجهود الفعّالة التي تبذلها السلطة الفلسطينية لتقييد الحراك الاجتماعي والسياسي لحركة حماس في الضفة الغربية وحظره، وتفكيك بناها التحتية هناك. علاوةً على ذلك، تواصل السلطة الفلسطينية تصعيد ضغوطها على حماس عبر فرض عقوبات على غزة بهدف إضعاف القبضة التي تمارسها حماس على القطاع. وقد شهدت العلاقات بين فتح وحماس مزيداً من التدهور بعدما رفضت حماس المشاركة في انتخابات المجالس المحلية في الضفة الغربية في 13 أيار/مايو. في ظل هذه الظروف، التعاون بين فتح وحماس في الإضراب مستبعَد جداً.
تعكس هيكلية السجون التقسيمية أيضاً التفكك الشديد الذي تعيشه حركة فتح في صفوفها خارج السجون. السواد الأعظم من المشاركين في الإضراب عن الطعام هم فتحاويون، والإضراب بحد ذاته من تنظيم مروان البرغوثي، عضو اللجنة المركزية في الحركة. غير أن فتح نفسها منقسمة حول المشاركة في الإضراب. اعتباراً من 24 نيسان/أبريل، بادر أقلّ من 1500 سجين فقط من أصل 3500 فتحاوي معتقل في السجون الإسرائيلية، إلى تلبية النداء للمشاركة في الإضراب. واللافت هو أن قيادات فتح في سجون ريمون والنجف ومجدو، التي تضم أكثر من 1800 معتقل فتحاوي، لم تعلن رسمياً تأييدها للإضراب، بسبب خلافاتها مع البرغوثي. علاوةً على ذلك، أقنع هؤلاء القادة اللجنة المركزية بسحب التعميم الأول الصادر عنها الذي نصّ على إلزام جميع سجناء فتح بالمشاركة في الإضراب، بدلاً من ترك قرار الالتحاق بالإضراب للقيادة المحلية في كل واحد من السجون.
كذلك تسبّبت التطورات داخل السجون باستفحال النزاعات الداخلية العميقة في صفوف فتح بشكل عام. يخشى بعض الفتحاويين من أنه في حال نجح الإضراب في تحقيق أهدافه، فقد يؤدّي ذلك إلى تعزيز مكانة الفصيل الموالي للبرغوثي في الحركة وفي أوساط الرأي العام الفلسطيني. لقد وجّه فصيل مناصر للبرغوثي داخل الحركة والسلطة الفلسطينية نداءً علنياً لدعم الإضراب، فيما تحاول فصائل أخرى احتواء المبادرة أو حتى القضاء عليها. اتّهمت فدوى البرغوثي، عقيلة مروان البرغوثي والعضو في المجلس الثوري في حركة فتح، بعض القياديين الفتحاويين بمحاولة إفشال الإضراب. واتهمت أيضاً قيادة فتح بالتورط في مؤامرة – تحت تأثير الضغوط الإسرائيلية – لتهميش زوجها عبر رفض منحه منصباً قيادياً في اللجنة المركزية رغم حصوله على العدد الأكبر من الأصوات في الانتخابات الداخلية الأخيرة لاختيار أعضاء اللجنة، والتي أجريت في كانون الأول/ديسمبر 2016 في ختام مؤتمر فتح السابع. نتيجةً لهذا التنافس الداخلي، وفي حين أعربت السلطة الفلسطينية عن دعمها المعنوي للإضراب عن الطعام، عملت أيضاً على الأرض للحد من انتشار التحركات الشعبية تضامناً مع المضربين عن الطعام، والتي يمكن أن تؤدّي إلى اندلاع احتجاجات واسعة النطاق في مدن الضفة الغربية ومخيمات اللاجئين.
الدافع وراء الجهود التي تبذلها السلطة الفلسطينية لاحتواء الاحتجاجات التي تُنظَّم تضامناً مع الإضراب، ليس فقط مشاعر الكراهية تجاه البرغوثي، إنما أيضاً الخشية من زعزعة الوضع الأمني الذي يعاني أصلاً من الهشاشة. تواجه حركة فتح رغبتَين متناقضتين. فالحركة ترغب في إنعاش رصيدها "المقاوِم" من جديد عبر تبنّي الإضراب ونسبه إليها، وتصعيد تعبئة شعبية "مضبوطة" في الضفة الغربية ضد الاحتلال. بيد أن الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية تتخوّف أيضاً من إمكانية خروج حملة تصعيدية للمقاومة المدنية عن السيطرة، ما يؤدّي إلى فوضى أمنية قد تستغلها حركة حماس، الأمر الذي يتسبّب بتفاقم أزمة الشرعية التي تعاني منها السلطة الفلسطينية. لذلك عمد محمود عباس والأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية إلى مضاعفة التنسيق مع إسرائيل في مسعى للإبقاء على السيطرة على الشارع الفلسطيني. وكثّفوا أيضاً جهودهم من أجل التوصل إلى تسوية للإضراب عن طريق المفاوضات المباشرة بين السلطات الأمنية الفلسطينية والإسرائيلية – غير أن السجناء المضرِبين عن الطعام أعربوا حتى الآن عن رفضهم لهذا المسار، وتمسّكوا بوجوب أن تكون المفاوضات بين قيادات الإضراب والسلطات المسؤولة عن السجون.
نظراً إلى الأعداد الكبيرة من السجناء الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وإلى هيكليتهم التنظيمية الداخلية، قد يساهم الإضراب عن الطعام نظرياً في تسهيل العمل الجماعي الفلسطيني المجدي والناجح. فالشرعية الكبرى التي يتمتع بها السجناء، والدعم الذي يحصلون عليه من الشارع الفلسطيني، ومنظومة التمثيل والتنظيم داخل السجون، كلها عوامل أتاحت لهم انتزاع تنازلات من إسرائيل والتفاوض لتحقيق انفراجات في العلاقات بين الفصائل الفلسطينية في السابق. غير أن هذا النجاح يتوقّف على التوصل إلى إجماع واضح داخل حركة فتح، وكذلك إلى إجماع وتنسيق مشترك مع الفصائل الفلسطينية المختلفة. على ضوء المعطيات الراهنة، يتبيّن أن الإضراب غارقٌ في الانقسامات السياسية الفلسطينية الداخلية، كما أنه يساهم في تأجيجها، بدلاً من تجاوزها أو نزع فتيلها.
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.
ليهي بن شطريت أستاذة مساعدة في كلية الشؤون العامة والدولية في جامعة جورجيا، أثينا؛ ومحمود جرابعة باحث ومحاضر في "مركز إيرلانغن للإسلام والقانون في أوروبا" (EZIRE) وفي الأكاديمية البافارية للعلوم والإنسانيات في ألمانيا.