يتخبط الأردن، شأنه في ذلك شأن عدد كبير من بلدان العالم، في مواجهة التحدّيات والصعوبات التي حملها العام الجاري. وقد تلقّى الاقتصاد الأردني المتعثّر ضربةً قاسية بسبب الإغلاقات والقيود التي فرضها تفشّي جائحة "كوفيد 19". وبدا أن مقايضة الازدهار الاقتصادي بالحفاظ على الصحة العامة هي مقايضة جديرة في البداية، نظراً لنجاح الأردن الباهر في مكافحة الوباء منذ آذار/مارس حتى مطلع أيلول/سبتمبر. ولكن طاقة البلاد استُنفِدت خلال تلك الأشهر الستة، وسرعان ما تضائلت الجهود الحكومية لمحاربة الوباء. وخلال شهرَي تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر، سجّلت الإصابات وحصيلة الوفيات اليومية الناجمة عن وباء "كوفيد 19" ارتفاعاً كبيراً في الأردن، في خضم استقالة الحكومة السابقة واستسلام الحكومة الحالية للجائحة. في ظل هذه الأجواء، توجّهَ أقل من ثلاثين في المئة من الأردنيين إلى صناديق الاقتراع لانتخاب أعضاء مجلس النواب التاسع عشر، وهي نسبة اقتراع تعتبر الأدنى على الإطلاق في تاريخ الانتخابات الأردنية، والتي تطابقت بدورها مع التوقعات.
داهم الفشل الحكومي في مكافحة موجة الوباء الثانية الأردنيون والمراقبون الدوليون على حد سواء، ولكن يتّضح الآن أن هذا الإخفاق لم يجب أن يفاجئنا. فقد صرّح وزير الصحة الأردني السابق في حزيران/يونيو أن فيروس كورونا "نشف ومات"، عاكِساً بذلك تقصير الحكومة في التواصل وإدارة التوقعات بشأن الجائحة في نفس الوقت. علاوةً على ذلك، لم ترُكّز جهود الحكومة الأردنية حصراً على مكافحة الوباء. فقد أعلن الأردن، شأنه في ذلك شأن معظم الدول السلطوية، عن فرض حال الطوارئ لتطبيق قوانين الدفاع التي هدفت ظاهرياً إلى مواجهة تحدّي "كوفيد 19"، ولكنها تسببت إلى حد كبير في تضييق الخناق على حرية التعبير وإبداء الرأي المخالف. ففي ظل إرهاق إمكاناتها السياسية والاجتماعية، وفي مناخ محلي وعالمي مناوئ على صعيدَي السياسة والصحة العامة، لماذا أصرّت عَمّان على إجراء انتخابات عامة لمجلس النواب كان مقرر لها أن تحفز أقل من ثلث الناخبين على التصويت؟
العطب المؤسساتي الحالي في الأردن
شكّل مجلس النواب الأردني، على مر التاريخ، مسرحاً للنشاط السياسي القوي. عندما استؤنفت الحياة السياسية الطبيعية في البلاد في أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات، كان البرلمان أحد المحافل الأساسية للنشاط السياسي المعارِض. وقد سعت الدولة، منذ عام 1993، إلى كبح هذا النشاط من خلال استخدام قوانين انتخابية يُسعى من خلالها إلى جعل البرلمان مقراً لـ"نوّاب الخدمات"، أي المرشحين الذين يبنون حملاتهم الانتخابية على تقديم خدمات حكومية لقاعدتهم الناخبة الضيّقة، بدلاً من أن يكونوا "نوّاباً سياسيين" يمثّلون قاعدة ناخبة سياسية أوسع نطاقاً على المستوى الوطني (لا المحلي).
منذ وصول موجة احتجاجات الربيع العربي إلى الأردن في عام 2011، أُقِرّت قوانين انتخابية جديدة تشجّع، في المبدأ، على تشكيل قوائم حزبية للتنافس في الانتخابات والحصول على عدد محدد من المقاعد. ولكن ذلك لم يُحدث تغييراً مهماً في تركيبة البرلمان، ولا يزال يُنظَر إلى مجلس النواب بأنه وسيلة يستخدمها الأردنيون للإفادة من الريع الحكومي عن طريق المحسوبيات، بدلاً من أن يكون مقراً لمشرعين يتحلّون بالفطنة السياسية والفكرية الضرورية من أجل سنّ التشريعات على المستوى الوطني. ونتيجةً لذلك، لجأ الأردنيون لميادين إخرى لممارسة النشاط السياسي الفعلي كالمجال العام والصحافة والشارع.
وكان هذا العطب المؤسساتي أحد خلفيات موجة الاحتجاجات الحاشدة التي شهدتها عَمّان في عام 2018 والتي أدّت إلى إسقاط حكومة هاني الملقي. فقد اندلعت الاحتجاجات رداً على قانون ضريبة الدخل المنبوذ الذي أصرّ الملقي على إقراره. وكانت الطبقة الوسطى في عمان الجهة المحرِّضة الأساسية على هذه الموجة من الاحتجاجات، فقد حشدت وعبأت للمظاهرات من خلال النقابات المهنية التي لها دور تاريخي في النشاط المعارِض والتنافس الأيديولوجي. وسرعان ما تحوّل مجلس النقابات المهنية إلى الهيئة التمثيلية للاحتجاجات الشعبية التي طالبت باستقالة حكومة الملقي. لم يتوهّم أحداً بأنه يمكن إسقاط حكومة الملقي في البرلمان، وقد أدرك الأردنيون أن عليهم النزول إلى الشارع.
تمكّنت المظاهرات والاحتجاجات من إسقاط حكومة الملقي، وكلّف الملك عبدالله شخصية استثنائية تشكيل الحكومة الجديدة. كان عمر الرزاز تكنوقراطي ذائع الصيت دولياً، وشخصية عامة أردنية ذات رصيد كبير من النزاهة على المستويَين الشخصي والعائلي. وقد بدأ الرزاز على الفور الحديث عن "عقد اجتماعي جديد"، واعداً بإصلاح نوعية اتخاذ القرارات الأردنية. وذهب الرزاز إلى حد الحديث علناً عن إمكانية إصلاح القانون الانتخابي وتشكيل حكومة منبثقة من الأكثرية البرلمانية في غضون عامَين، بعد الانتخابات التشريعية المقبلة.
كان الرزاز متحدّثاً بليغاً وإنما حذراً، يجيد التواصل ويقر بحدود امكانياته باستمرار. ولكن في نهاية المطاف، لم تكن حكومته على قدر التطلعات، وعجزت عن الوفاء بالجزء الأكبر من تعهّداتها، بما في ذلك إصلاح القانون الانتخابي وتشكيل حكومة منبثقة من الأكثرية البرلمانية. ربما يعود السبب في ذلك إلى المشاحنات داخل "مطبخ القرار"، كما يُسمّيه المعلّقون الأردنيون. بغض النظر عن الأسباب، فقد سدّد أداء الرزاز المخيّب للآمال، وبالذات في أسلوب التعاطي مع الخلاف ما بين الحكومة ونقابة المعلّمين الأردنيين، ضربةً حاسمة لثقة الأردنيين بمؤسسات الدولة، ما لن تتمكّن الانتخابات التشريعية من استعادتها.
"العمل كالمعتاد" في أزمنة استثنائية
هذا الوضع غير مألوف للكيان الأردني، ويَظهر بوضوح تراجع ثقة الأردنيين بمؤسسات الدولة في بيانات استطلاعات الرأي. تُظهر بيانات الدورة الخامسة للباروميتر العربي أن ثقة الأردنيين بالحكومة بلغت أدنى مستوياتها في أواخر عام 2018، مع نسبة 38 في المئة (انظر الرسوم البيانية أدناه). وكذلك، انحدرت ثقة الأردنيين بالبرلمان في عام 2018 إلى 14 في المئة فقط. وبما أنه 6 من أصل 7 أردنيين لا يثقون بمؤسسة البرلمان، فإن الاستعجال في انتخاب برلمان جديد في خضم جائحة عالمية يبدو سلوكاً مضلَّلاً في أفضل الأحوال. فإذا كانت الدولة الأردنية ترى في الانتخابات التشريعية "صمّام أمان" أو تنازلاً من جانبها في إطار مقاربة "العصا والجزرة"، فتدل البيانات على أنه للأردنيين رأيٌ مغاير. لم يعد الأردنيون يعتبرون الانتخابات التشريعية بمثابة جزرة. ولذلك، فإن الإصرار على إجرائها فيما ترزح البلاد تحت وطأة الجائحة هو قراراً راديكالياً برجعيته.
وتشير بيانات استطلاعات الرأي أيضاً إلى يأس الأردنيين من بلادهم على نحوٍ متزايد. وفقاً لبيانات الدورة الخامسة للباروميتر العربي، يأتي الأردن في المراتب الأولى على صعيد العالم العربي في نسبة الأشخاص الذين يفكّرون في الهجرة، والتي تبلغ 45 في المئة (يحتل الأردن المرتبة الثانية بعد السودان حيث تصل النسبة إلى 50 في المئة). وتُظهر البيانات أن هذه النسبة سجّلت زيادة تفوق الضعف منذ صدور نتائج استطلاع الدورة الرابعة للباروميتر العربي (انظر الرسم البياني أدناه). ومن أصل نسبة الـ45 في المئة، يقول 83 في المئة إنهم يريدون الهجرة لدواعٍ اقتصادية وهي أعلى نسبة في العالم العربي، وذلك ما قبل أزمة "كوفيد 19" واضطرابات 2020. وتالياً لا تستطيع الدولة الأردنية في حال استحداث عدد كافٍ من الوظائف في القطاع العام (أو الخاص) لاسترضاء المواطنين المستائين. ليست لدى الأردنيين ثقة بأن الحكومة سوف تستحدث وظائف في الاقتصاد ككل، إذ تُظهر الأرقام أن واحداً فقط من أصل 7 أردنيين، أو نسبة 14 في المئة، يُبدي رضاه عن استحداث الحكومة للوظائف (انظر الرسم البياني أدناه). لا يمكن للانتخابات التشريعية أن تُحوِّل الأنظار عن هذا الواقع القاتم، مما يفسر تدنّي نِسب المشاركة.
باختصار، إن النموذج الذي يعتمده الأردن في إدارة الاختلاف من خلال الفسوحات المؤسساتية المحدودة هو نموذج قديم ومتهالك. ولن تساهم الانتخابات التشريعية، ولو اتّسمت بالحد الأدنى من النزاهة وبمشاركة الأحزاب السياسية، في تغيير ذلك الواقع. لن يتمكّن الأردن من استعادة مصداقية مؤسساته التشريعية والتنفيذية إلا من خلال عملية إصلاحية تقود إلى قانون انتخابي يمثل الأردنيين تمثيلاً حقيقياً، ويؤدي إلى المشاركة العامة في اختيار السلطة التنفيذية. كل ما هو دون ذلك سيكون مجرد إجراءات شكلية، وربما تكون بعد فوات الأوان.