على امتداد عام 2020، سلّط العاهل الأردني الملك عبدالله الضوء على العلاقة بين الأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي فيما تواجه البلاد انعدام الأمن الغذائي الناجم عن جائحة كوفيد-19. قبل تفشّي الجائحة، كان الأردن قد باشر تخزين احتياطيات غذائية استراتيجية، على رأسها القمح والشعير، والتي تُنتَج كميات قليلة منها محليًا بسبب نقص الموارد المائية والأراضي، وذلك في محاولة للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي. لكن تخزين المواد الغذائية بهدف استخدامه وسيلةً لضمان الاستقرار تترتب عليه كلفة عالية، في الوقت الذي تواجه فيه عمّان ضائقة مادّية وضغوطًا اقتصادية ما يؤثّر على الأسر الأردنية.
ألقت جائحة كوفيد-19 بعبء إضافي على الاقتصاد الأردني المتعثّر أصلًا. فمعدّل النمو في الأردن لم يتعدَّ 2 في المئة منذ عام 2016. وقد أدّى بطء النمو إلى ارتفاع البطالة، لا سيما لدى النساء والشباب، وبلغت نسبة البطالة الإجمالية نحو 25 في المئة في عام 2020، إضافةً إلى تراجع مداخيل الأسر. وتسببت الصدمات التي أثارتها الجائحة العالمية بتعطيل القطاع السياحي الذي يُشكّل إحدى الركائز الأساسية للاقتصاد الأردني، وبتوقّف شبه كامل للنمو الاقتصادي. نتيجةً لذلك، تقلّص حجم الاقتصاد الأردني بنسبة 5 في المئة تقريبًا.
ازدادت الضغوط على الأمن الغذائي الأردني مع انكشاف التحديات البنيوية للمنظومة الغذائية بسبب الجائحة. واقع الحال هو أن 53 في المئة من الأردنيين، أي حوالى 3 ملايين شخص، معرَّضون لانعدام الأمن الغذائي. فضلًا عن ذلك، يعيش 3 في المئة من الأردنيين، أي نحو 219,186 شخصًا، في أسرٍ تعاني من انعدام الأمن الغذائي. وسكّان المحافظات الريفية هم الأكثر عرضةً لهذه المشكلة. وقد سجّلت محافظة الطفيلة النسبة الأعلى من الأسر التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي، مع 20 في المئة تقريبًا.
بغية التكيّف مع هذا الواقع، لجأ 42 في المئة من الأسر الأردنية إلى استراتيجيات الأزمة التي تُقوِّض قدرة الأسر في المستقبل على معالجة الصدمات وتؤثّر سلبًا في إنتاجيتها. وقد اضطُرَّت الأسر، بسبب الأثر الاقتصادي لجائحة كوفيد-19، إلى خفض الإنفاق على المواد الغذائية. ولجأت 55 في المئة من الأسر إلى استراتيجيات البقاء المرتبطة بالمواد الغذائية، بما في ذلك، استراتيجية خفض أعداد الوجبات أو اعتماد نظام غذائي أقل جودة كي تتمكن من الاستمرار. وقد أشار نحو 28 في المئة من العائلات إلى أن أبناءها كانوا يأوون إلى فراشهم جائعين خلال مرحلة الإغلاق العام.
ويعاني اللاجئون السوريون أيضًا، وعددهم 1.1 مليون شخص في الأردن، من انعدام الأمن الغذائي. وفي هذا الإطار، تُظهر بيانات آب/أغسطس 2020 أن 12 في المئة فقط من أسر اللاجئين تنعم بالأمن الغذائي. ويُصنَّف 21 في المئة من أسر اللاجئين، أي 131,613 شخصًا، بأنهم يعانون من انعدام الأمن الغذائي. تعاني هذه الأسر من ثغرات شديدة في الاستهلاك الغذائي وغالبًا ما تعتمد على استراتيجيات قد تكون مؤذية من أجل الاستمرار، والتي تُضرّ بإنتاجيتها في المستقبل. ويُشار إلى أن 67 في المئة من أسر اللاجئين تعيش أوضاعاً هشّة، إذ يعتمد معظمها على وظائف مؤقتة وغير نظامية تأثرت إلى حد كبير بالإغلاق العام الذي فرضته جائحة كوفيد-19.
قبل فترة طويلة من بدء انتشار الجائحة، باشر الأردن توسيع احتياطياته الغذائية الاستراتيجية الوطنية من أجل التخفيف من مخاطر انعدام الأمن الغذائي. فقد استوردت الحكومة الأردنية نحو 1.2 مليون طن من القمح و600 ألف طن من الشعير، أي احتياطي يكفي لنحو 18 شهرًا. وفي عام 2020، أنتج الأردن 25,000 طن من القمح فقط بسبب نقص الموارد الضرورية لزراعة القمح على نطاق واسع. ومجموع الإنتاج المحلي يكفي فقط لتلبية احتياجات أسبوع واحد من الاستهلاك المحلي، ولذلك يستورد الأردن عادةً نحو 70 في المئة من احتياجاته من المواد الغذائية الأساسية.
بعد الأزمة في عامَي 2008 و2011، بدأت الحكومة بناء مخزون للحد من النقص أو تقلبات الأسعار التي يمكن أن تؤدّي إلى اضطرابات اجتماعية. وبدأت أسعار المواد الغذائية بالارتفاع تزامنًا مع الموجة الثانية من تفشّي كوفيد-19. فالبلدان التي يستورد منها الأردن المواد الغذائية الأساسية مثل الذرة والقمح والأرز هي ضمن البلدان الأكثر تأثّرًا بالجائحة. وفي الأيام الأولى لتفشّي الوباء، فرضت روسيا ورومانيا اللتان تشكّلان مصدر الجزء الأكبر من واردات القمح الأردنية، قيودًا على التصدير. وعلى الرغم من رفع هذه القيود بعد انقضاء الموجة الأولى، يُعاد فرضها من جديد الآن. كذلك فرضت مصر والهند اللتان تشكّلان المصدر الأساسي لواردات الخضار الأردنية، قيودًا على الصادرات.
لقد ساهمت الاحتياطيات الغذائية الاستراتيجية بالحد من انكشاف الأردن على التقلبات في أسعار المواد الغذائية الدولية ما يحمي البلاد من تكرار بعض الظروف الاجتماعية والسياسية التي سادت في عام 2011، غير أن الحفاظ على مخزون المواد الغذائية يُلقي بضغوط على الموازنة الوطنية في وقتٍ يشهد الأردن أزمة اقتصادية غير مسبوقة. فمنذ منتصف عام 2018، حين بدأ الأردن بتوسيع احتياطياته الاستراتيجية، بلغ مجموع الإنفاق على واردات القمح والشعير 1.1 مليار دولار، أي نحو 1.1 في المئة من إجمالي الناتج المحلي السنوي، و3.5 في المئة من الإيرادات الحكومية السنوية، و3 في المئة من النفقات العامة السنوية. وتبلغ تكاليف السلسلة التموينية لتمويل هذه الواردات، بدءًا من النقل وصولًا إلى التخزين، نحو 40 مليون دولار سنويًا، ما يؤمّن كمية من القمح تكفي لمدة ثلاثة أشهر تقريبًا.1 في غضون ذلك، لا تزال جائحة كوفيد 19 تتسبب بتكاليف اقتصادية ومالية متزايدة. وسوف يصبح المجال المتاح أمام الحكومة للتدخل أكثر محدودية في المدى القريب. وغالب الظن أن الضغط المالي لن ينحسر من خلال تحقيق نمو اقتصادي أو زيادة الإيرادات الحكومية في المدى القصير، فيما يتخبط القطاع الخاص في مواجهة انخفاض السيولة وتراجع الطلب. يجب على الحكومة الأردنية أن تُقرّر ما هو الثمن الذي ترغب في سداده لتأمين احتياطياتها الاستراتيجية من المواد الغذائية في مقابل الأمن الجسدي والمالي والنفسي الذي توفّره هذه الاحتياطيات. تُعطي سياسة توسيع الاحتياطيات الغذائية الاستراتيجية الأولوية للأمن الجسدي والنفسي قبل الفعالية الاقتصادية. نتيجةً لذلك، يدفع الأردن أسعارًا أعلى من أسعار السوق ويتحمّل تكاليف مرتفعة للسلسلة التموينية من أجل استيفاء احتياجاته.
يقع الأردن في المرتبة نفسها تقريبًا مع تونس والجزائر في مؤشّر الأمن الغذائي العالمي، وهو أفضل بقليل من سورية واليمن اللتين تشهدان نزاعات وانعدامًا للأمن الغذائي منذ عام 2011. وتشهد المملكة، منذ عام 2018، تململًا اجتماعيًا متعاظمًا يتجلّى من خلال التظاهرات الواسعة ضد زيادة الضرائب وارتفاع الأسعار، ما يعكس الضغوط المتزايدة على الأسر الأردنية، ويرجّع صدى احتجاجات 2011-2012 التي تخللتها إقالة ثلاث حكومات في غضون 18 شهرًا.
في مسعى لتجنّب المطبّات التي وقعت فيها الحكومات السابقة، حاول الأردن اعتماد سياسة قائمة على إنشاء احتياطيات غذائية استراتيجية تأخذ في الاعتبار حاجات البلاد على مستوى الأمن الغذائي واستقرارها الاجتماعي. ولكن ينبغي على الأردن أن يُدير بكفاءة وفعالية كلفة الأمن الغذائي، من خلال إرساء توازن بين الزيادة في إمكانات تخزين الاحتياطي من جهة وتعزيز فعالية السلاسل التموينية للواردات الغذائية من جهة ثانية بغية خفض تكاليف الاستيراد الإجمالية، ومن خلال دعم أسعار السلع الغذائية الأساسية عند الاقتضاء بهدف خفض الكلفة البديلة. إضافةً إلى ذلك، يجب أن يركّز الأردن على إدارة عوامل أساسية أخرى، مثل الميزان التجاري، والديون الوطنية، والقيود المالية والسياسية بغية الحفاظ على استدامة سياسة الاحتياطيات الغذائية الاستراتيجية في المدى الطويل.
هادي فتح الله مدير في مجموعة شمال أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا (NAMEA GROUP). وهو أيضًا مستشار لدى البنك الدولي، ومركز الاستثمار في منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، والصندوق الدولي للتنمية الزراعية. لمتابعته عبر تويتر: @Hadi_FAO.
تيموثي روبرتسون اختصاصي أول للشؤون الزراعية في البنك الدولي
ملاحظات:
1 استنادًا إلى حسابات أجراها الكاتب وبيانات صادرة عن وزارة الصناعة والتجارة والتموين الأردنية ووزارة الخارجية الأميركية ووكالة رويترز ومجلس الحبوب الدولي، ومقابلات مع خبراء في القطاع في الأردن.