منذ عام 2010 والصين تعتبر أكبر مستورد للنفط في العالم، وتستمر بوصفها اقتصادا صاعدا تسير به مؤشرات النمو باتجاه تعزيز مكانتها العالمية، وربما الصدارة الاقتصادية مع حلول منتصف القرن الحالي. هناك من يقلقه صعود الدولة الصينية، فالتوسع التجاري الذي يعتمد على أسواق منهكة وبحاجة لإصلاحات بنيوية كبيرة، سيزيد إصرار الصينيين لتبني سياسات آمنة وسريعة للوصول إلى هذه الأسواق ومن بعدها الأسواق الضخمة كالسوق الأوربية. بطبيعة الحال، فإن التنافس الصيني مع بعض القوى العالمية كأمريكا والهند ينشئ، وبصورة أكثر دراماتيكية، نقاط تماسٍ قد يصعب تجاوزها إذا تعلق الأمر بمناطق النفوذ البحري والاقتراب أكثر من منطقة الشرق الأوسط، وكذلك كسر التفرد الأمريكي بالقرار الدولي.
وإذا استعرضنا تفاصيل الصفقة الصينية الإيرانية التي أثارت مؤخرا جدلا واسعا في توقيتها وحجم الاستثمارات الناشئة عنها والتي تقارب 400 مليار دولار، فإن إنجاز هذه الصفقة بأبعادها التجارية والاقتصادية، وضخ هذه المليارات بالنسبة للصين ليس مستغربا أن يحدث لأكثر البلدان اعتمادا على الجانب الاقتصادي في علاقاتها الدولية. وإذا افترضنا أن الصفقة اقتصادية، فإن الهدف الاقتصادي الصرف منها قد لا يكون محفزا للصين كثيرا مع استمرار العقوبات الأمريكية على إيران وحالة الضعف الكبير الواقع في السوق الإيرانية، فقد كانت الصين حذرة جدا في تعاملاتها التجارية مع إيران، حيث بلغ متوسط الاستثمار الصيني في إيران 1.8 مليار دولار سنويًا منذ 2005، وهو أقل بكثير من استثمارات الصين في السعودية والإمارات.
ثمة نوافذ مختلفة تراقب عبرها الصين العلاقات مع إيران، وهي تضع التقارب الصيني الإيراني ضمن سياق لحظة سياسة دولية في غاية الحساسية للمصالح الصينية، فمع وصول مساعي الصين في مشروع طريق الحرير إلى خطوات متقدمة، فإنها تحاول التأكيد على أهمية مشروعها الاقتصادي وسلامة نواياها، وذلك بربط طرق الإمداد اللوجستية بإيران والتي توصلها بنقاط جيوسياسية غاية في الأهمية. لا يمكن استبعاد التقارب الإيراني الصيني عن التقدم الذي تحققه الصين في أوراسيا، ونتيجة الفراغ الذي قد يتعمق في وسط آسيا بعد الانسحاب الأمريكي وعدم قدرة روسيا على تلبية احتياجات دول آسيا الوسطى التنموية، لذا فإن شراكة الصين وإيران في طريقها للتقدم وربما الازدهار في المستقبل القريب، فوفق ما حدده السياسيون الصينيون تعتبر إيران إحدى الدول المهمة في مبادرة الحزام والطريق، وستتبع الصين نهجا يحمي المبادرة بتمكين المزيد من الدول كإيران، فمن ناحية قد يثير قلق الصين مرور قنوات التجارة بقرب القوى الآسيوية: روسيا والهند، ومن الواضح أن هناك تجاذبا في المصالح الصينية الهندية في مسائل الطاقة لنيل حصص أكبر من الغاز وكسب نفوذ أكبر في وسط آسيا، وهذا يعني أن زيادة الدول المساهمة والمستفيدة من مبادرة الحزام والطريق سيعمق ثقة الصين في شركائها في وسط القارة الآسيوية ليس فقط باكستان بل حتى أفغانستان ونيبال، كما تنفرد إيران بميزات جيوسياسية تساعدها على إعطاء الكثير من المساهمات في ربط منطقة آسيا الوسطى بخطوط اتصال تجارية وانفتاح في العلاقات الاقتصادية مع دول المنطقة، وقد كشفت إيران مؤخرا عن ممرين إلى آسيا الوسطى يجري التجهيز لهما: طريق قيرغيزستان - طاجيكستان - أفغانستان – إيران وطريق إيران - أفغانستان - أوزبكستان.
يأتي إعلان الرئيس بايدن بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان بحلول سبتمبر القادم، شاهدا على مرحلة جديدة يشوبها القلق في وسط آسيا، سيفتح هذا الانسحاب آمالا لبعض القوى العظمى في آسيا لتعزيز نفوذها، فبينما ترجو الصين تحقيق مكاسب أمنية لخططها الاقتصادية عبر إرساء الاستقرار في أفغانستان، تتشارك روسيا مع الصين رغباتها داخل أفغانستان لردع التهديدات المتوقعة من الخلل الأمني الذي قد يجر المتطرفين لساحة صراع جديدة مع روسيا. إيران هي الأخرى ستدعم توافقات الصين وروسيا للمحافظة على جملة الجهود والأنشطة الصلبة والناعمة التي شاركتها مع الأقلية الشيعية هناك، والتي قد لا يروق لها كثيرا وجود إمارة إسلامية في أفغانستان، قد لا يغيب عن الصين وروسيا إدراك ما تعنيه مشاطرة إيران حدودا مع أفغانستان. ستوجد جهود إيران، لكسب نفوذ أكبر في أفغانستان، تفاهمات أكثر من الناحية الأمنية والاقتصادية في منطقة وسط آسيا بين الدول الثلاث.
من الناحية الجيوسياسية، فإن نوعية العلاقات التي تلاءم مساعي الصين للتصدي لأشكال الضغط الأمريكي أصبحت مناسبة أكثر من أي وقت آخر، وقد أكد وزير الخارجية الصيني ذلك، في زيارته الأخيرة لإيران، بقوله إن الصين ثابتة في معارضة العقوبات الأحادية غير المعقولة المفروضة على إيران من قبل دول أخرى لأنها تنتهك القانون الدولي، وخاصة تلك القائمة على الأكاذيب والمعلومات الخاطئة، والتي اعتبرها الوزير الصيني غير أخلاقية ولا تحظى بشعبية، وقال وانغ إن العقوبات تشكل إهانة للضمير الإنساني، وأكد الدبلوماسي الصيني بأن الصين مستعدة للعمل مع إيران والدول الأخرى للتصدي بشكل مشترك لأعمال التنمر من قبل القوى الأخرى، ودعم الإنصاف والعدالة الدوليين والدفاع عن القواعد الأساسية للعلاقات الدولية.
يؤدي الخلل القيمي الذي يربك السياسة الأمريكية والمستمر من عهد الرئيس السابق دونالد ترامب لمزيد من دواعي رفض الإجراءات الأمريكية المتعلقة بالاقتصاد، ربما لن تستغرق الصين كثيرا في تعقيد العلاقات الصينية الأمريكية والانخراط في دعم مباشر لسياسات إيران، فما ستسفر عنه توجهات الرئيس بايدن في إعادة الحياة للاتفاق النووي مع إيران يصب مباشرة في مصلحة الصين باتجاه تخفيف أي صراعات واسعة في الشرق الأوسط الأمر الذي يحافظ على استمرارية تدفق وارداتها من الطاقة. سيكون من مصلحة دول الخليج أن تنخرط دول جديدة كالصين في سياسات أمنية في منطقة الخليج، لاسيما إذا تعلق الأمر بواردات الطاقة، إلا أن دخول إيران في علاقات استراتيجية تتواجد معها الصين واقعيا على أرض معادية للغرب ربما يضبط شيئا من التوازنات السياسية التي تبحث عنها الصين وإيران مع الولايات المتحدة الأمريكية، وبدورها ستتنفس إيران من خلال هذا النوع من العلاقات المناكفة للولايات المتحدة، من ناحية أخرى ينظر شركاء الصين في الخليج إلى أن ما يبعث من تعقيدات في المشهد الإقليمي مصدره إيران، وبأن جهود شركائهم ينبغي لها أن تساهم في ردع الطموحات الإيرانية، ولهذا فإن الصين عندما تمضي في تنفيذ شراكتها الاقتصادية مع إيران على أرض الواقع، قد يسهِّل عليها التوافق في ملف إيران النووي تنظيم علاقاتها مع الفرقاء في الخليج، كما ستعمل على ذلك أمريكا وأوروبا في حال تم إعادة الاتفاق النووي إلى ما كان عليه قبل رئاسة ترامب.
بتوسع العلاقات التجارية الصينية في منطقة الشرق الأوسط، يمكن اعتبار المحيط الهندي مجالا حيويا للصين، حيث يمر عبره 80 في المئة من وارداتها من النفط، ويأتي عبر المحيط الهندي ومضيق ملقا نحو 95 في المئة من تجارة الصين مع دول منطقة الشرق الأوسط. تحافظ الصين على فرص تأمين مرور تجارتها من خلال القليل من المكاسب التي تحاول تعظيمها، كما يلوح دائما أمام العملاق الصيني تحديات أمنية وجيوسياسية حتى مع تطور البحرية الصينية التي اعتبرتها الولايات المتحدة الأكبر في العالم حسب تقرير وزارة الدفاع الأمريكية الأخير 2020، تأمل الصين أن يحقق تمركزها الساحلي المواتي للمحيط الهندي مزيدا من الانفتاح الاقتصادي على العالم. يقرر حجم الصين في القارة الآسيوية ومدى ثقلها وتوسع موانئ الإبحار المسموح بها رغبة الصين في التواجد في جغرافيا جديدة، فبالإضافة إلى ميناء جوادر في باكستان وكياوكبيو في ميانمار وهما الميناءان الأبرز في سلسلة الموانئ التي تطل بها الصين على المحيط الهندي، تتضمن اتفاقية الشراكة بين الصين وإيران تطوير مينائي تشابهار وجاسك حيث لا يبعد الأخير كثيرا عن مضيق هرمز، لن يكون هذا الاقتراب بمنأى عما تريد الصين تحقيقه في المحيط الهندي.
من الواضح أن قدرات الصين البحرية والتي قد تعتمد عليها في مواجهة الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا ستكون، في المستقبل القريب، أمام اختبار التوافق على سياسات الحركة والملاحة والتواجد في المحيط الهندي مع هذه الدول، ما قد يقوض أمن الحركة الملاحية في المنطقة في ظل تصاعد التواجد الصيني. سعيا منها لتأمين الحركة الملاحية تعزيزا لمصالحها التجارية قد تترك الصين ظهورها العسكري وكسر التفرد الأمريكي إلى حين توطيد علاقاتها الاقتصادية، والنتيجة المؤكدة أن التواجد العسكري الصيني في حال تمدده في المحيط الهندي فإنه من المرجح أن يغير التوازنات مع الهند وأمريكا في البر وكذلك في البحر.
سعد علي القحطاني، باحث ومحلل سعودي متخصص في الشؤون الاستراتيجية، وحاصل على الماجستير في العلاقات الدولية. لمتابعته على تويتر @saadmosre.