المصدر: Getty
مقال

حرب إسرائيل على الصحفيين

إفلات إسرائيل من العقاب لقتل الصحفيين لا يؤثر فقط على حرية الصحافة وسلامة الصحفيين في الشرق الأوسط، وإنما يقوض، أيضا، مصداقية الولايات المتحدة بشأن احترام حقوق الإنسان وحماية الحريات العامة.

نشرت في ٢٨ نوفمبر ٢٠٢٣

أصبحت الحرب بين إسرائيل وغزة خلال شهر واحد الأكثر دموية بالنسبة للصحفيين الذين يغطون مناطق الصراع منذ العام 1992. إذ لم تبدأ أي حرب أخرى في القرن الحادي والعشرين بهذه الطريقة المميتة للصحفيين حيث قتل فيها 34 صحفياً خلال أسبوعين فقط من بدايتها. بلغ عدد الصحفيين الذين قتلوا أثناء حرب إسرائيل المستمرة على غزة بين 50 و62 صحفيا وإعلاميا، كانت الصحفيتان آلاء الحسنات وآيات الخضورة آخرهم حتى 21 نوفمبر/ تشرين الثاني. هذا العدد أكبر من عدد الصحفيين الذين قتلوا في العراق، أو أفغانستان، أو اليمن، أو أوكرانيا. حيث قتل منذ بدء الحرب في أوكرانيا 11صحفياً، سبعة منهم قتلوا خلال الشهر الأول. ويتجاوز عدد الصحفيين الذين قتلوا في الحرب على غزة في أسبوعين عدد الصحفيين الذين قتلوا في الأيام العشرين الأولى من الحرب في العراق عام 2003، وكذلك يفوق عدد الصحفيين الذين قتلوا في أفغانستان عام 2001، في أعقاب أحداث 11 سبتمبر مباشرة. 

في 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تقدمت منظمة مراسلون بلا حدود بشكوى بشأن جرائم حرب ارتكبت ضد صحفيين فلسطينيين في غزة. واعتبرت المنظمة أن حجم الجرائم التي تستهدف الصحفيين وخطورتها وطبيعتها المتكررة تندرج في نطاق جرائم الحرب، وتستدعي إجراء تحقيق من قبل المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية.  تُعد هذه الشكوى الثالثة التي تقدمها مراسلون بلا حدود بشأن جرائم الحرب ضد الصحفيين الفلسطينيين في غزة منذ عام 2018. قدمت الأولى في مايو/أيار 2018 بشأن الصحفيين الذين قتلوا أو أصيبوا في غزة خلال احتجاجات مسيرة العودة الكبرى. أما الثانية فقدمت في مايو 2021 بعد الغارات الجوية الإسرائيلية على أكثر من 20 وسيلة إعلامية في قطاع غزة. وأيدت مراسلون بلا حدود شكوى قناة الجزيرة بشأن مقتل الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة في الضفة الغربية في 11 مايو/أيار 2022.

غير أن السؤال الملح بشأن هذه الشكاوى هو: هل ستذهب هذه الشكاوى وغيرها من القضايا التي ترفع ضد إسرائيل أبعد من مكاتب المحكمة الدولية أو أي مؤسسة دولية أخرى؟ على سبيل المثال لم تحاسب إسرائيل حتى الآن في قضية مقتل الصحفية شيرين أبو عاقلة ولم يترتب على الشكوى المقدمة معاقبة الجنود الإسرائيليين الذين قتلوها رغم الأدلة التي تثبت مقتلها برصاص الجيش الإسرائيلي. بشكل عام، تجاهلت إسرائيل القرارات الأممية التي تدعوها للانصياع لإرادة المجتمع الدولي لوقف احتلالها، واستمرت في انتهاك وإنكار حقوق الفلسطينيين. وقدم لها الدعم الأميركي الحماية وأدوات الإفلات من العقاب. ورغم تفوقها العسكري وسياساتها التوسعية وقبضتها القوية، لم يتحقق لإسرائيل الأمن والاستقرار، الذي اتخذته مبررا لكل أفعالها، بل أصبحت بلدا خارجا على القانون الدولي متجها نحو العزلة.

دعم الولايات المتحدة الثابت أدى باستمرار إلى إفلات إسرائيل من العقاب. وعدا أن هذا يصنف إسرائيل دولة مارقة لا تحترم القانون الدولي، فإنه أيضا يقوض مصداقية الولايات المتحدة وحليفاتها في أوروبا فيما يتعلق بحماية حقوق الإنسان، ودعم حرية الصحافة وما تدعيه من قيم الديمقراطية التي تطبقها على من تشاء وتغض النظر فيها عمن تشاء.

الأخطر فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، بما فيها إسرائيل، التي تعاني من أكثر المعدلات انخفاضا فيما يتعلق بالحريات وحقوق الإنسان، أن سلوك الولايات المتحدة الداعم بلا حدود وبلا خطوط حمراء لإسرائيل سيشجع أكثر حكومات المنطقة الأخرى على فرض قيود على الحريات العامة ومعاقبة الصحفيين على أدائهم عملهم، وستزيد فيها معدلات انتهاك حقوق الإنسان بالاستناد إلى قوة علاقاتها وارتباط مصالحها بالولايات المتحدة التي ستوفر لها الدعم أو حتى غض النظر لتفلت من المحاسبة والعقاب، كما حدث، مثلا،  في قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي.

حولت هذه الحرب الولايات المتحدة إلى شريك لإسرائيل في كل الجرائم التي ترتكبها، وكثير من المظاهرات خرجت احتجاجا على تواطؤ الولايات المتحدة مع إسرائيل. هذا الموقف لا يهدد بتدهور وضع حريات التعبير والصحافة وحقوق الإنسان في المنطقة فقط، بل إنه يهدد أيضا أمن الولايات المتحدة ومصالحها في الخارج والداخل. يشكل دعم إسرائيل المطلق دليلا مؤكدا على أن سياسات الولايات المتحدة في المنطقة مرتبطة بالمصالح المباشرة وليس بالقيم ولا المصالح الاستراتيجية. 

كشفت الحرب الراهنة على غزة مدى تلاشي الضمير الأخلاقي وانعدام المسؤوليةالإنسانية لدى حكومات وسياسيي الغرب الديمقراطي. ينبغي تذكير هذه الحكومات بأن هؤلاء الصحفيين هم وسيلتنا لمعرفة الحقائق في زمن التضليل ونشر المعلومات الزائفة والكاذبة والتعتيم الإعلامي، وهم من ساهم في إظهار الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في حق الفلسطينيين وإعادة إنسانيتهم إليهم، وساهموا في صحوة شعوب العالم التي خرجت في مسيرات ومظاهرات تطالب حكوماتها بالضغط على إسرائيل من أجل وقف إطلاق النار.

حتى لا تذهب هباء تضحيات هؤلاء الصحفيين الذين قتلوا أو قتلت عائلاتهم أو أصيبوا أو دمرت منازلهم، وحتى لا نشهد مقتل مزيد من الصحفيين، ينبغي زيادة الضغط على الولايات المتحدة، وعلى حليفاتها الحكومات الغربية حتى تتوقف عن منح الحصانة لإسرائيل وحمايتها من المحاسبة والعقاب.

رفيعة الطالعي، رئيسة تحرير منصة برنامج الشرق الأوسط (صدى) في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي. وهي حاصلة على الدكتوراة في دراسات الخليج، وتركز أبحاثها على الحريات العامة وحقوق الإنسان ومشاركة المرأة السياسية في منطقة الخليج. لمتابعتها على إكس @raltalei.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.